الرقّ فى الإسلام ومقاصد الأجانب فى إلغائه

قبساتٌ من فوائد مؤرِّخ حلب
الشيخ محمد راغب الطباخ الحلبِىّ
المتوفى سنة ١٣٧٠هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله وسلم على سيد المرسلين وبعد فقد جاء فى رسالة الأستاذ الشيخ أحمد أفندِى المحمصانِى التى نشرها على صفحات الحقيقة بمناسبة المولد النبوِىّ الشريف ما نصه

إنَّ من أهمّ الأعمال التى ظهرت على يد المدنيَّة الأوربية تحرير الأرقاء وإلغاء الرقّ وإنما تمَّ لها هذا بفضل الإسلام ومساعدته على ذلك بل الإسلام هو الذى فتح الباب للأمم الأوربية فتحرَّرت الأرقاء وفُكَّتْ رقابهم بالعتق والتدبير والكتابة وناهيك بالحديث الشريف المصرِّح بذلك وقد أورده الإمام الحافظ ابن حجر فى منبهاته السبعيات فيما رواه عن سيدنا جابر بن عبد الله الأنصارِىّ رضِى الله عنه عن النبِىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال (ما زال جبريل يوصينِى بالجار حتى ظننت أنَّه يجعله وارثًا وما زال يوصينِى بالنساء حتى ظننت أنَّه سَيُحرِّم طلاقهنَّ وما زال يوصينِى بالمملوكين حتى ظننت أنَّه يجعل لهم وقتًا يعتقون فيه) فانظر أيَّها العاقل كيف تحقَّق ما ظنَّه الرسول صلى الله عليه وسلم واتَّفقت الدول على تحرير الأرقاء ...إلخ اهـ

ولما كان الاستدلال بهذا الحديث على إلغاء الأوربيين للرقّ واقعًا فى غير محله وبعيدًا عن مهيع الصواب أتيتُ بهذه السطور مبيِّنًا بطلان هذا الاستدلال وموضِّحًا السبب الحقيقِى الذى حمل الأوربيين على إلغاء الرقّ وتحريره.

استدلَّ الأستاذ على إلغاء الرقّ بالجملة الثالثة من الحديث الشريف مع أنه ليس فى منطوق هذه الجملة ولا فى مفهومها ما يدلُّ على ذلك ولو كان المقصود بها إلغاء الرق كما ظنَّ للزمه أيضًا أن يقول بتوريث الجار من جاره وتحريم طلاق النساء أيضًا لأنَّ هاتين المسألتين من جملة ما أوصَى به جبريل كما رأيتَ فى الحديث، وهذا لم يقل به أحدٌ من أئمة المسلمين لا سلفًا ولا خلفًا وإذا قلنا بعدم هذا اللزوم لزم الترجيح بلا مُرجِّح وهذا باطل. والذى يتبادر أنَّ المراد بالوقت فى الحديث إنما هو وقت مُعيَّن كأن تكون مدة الاسترقاق عشر سنين مثلًا فإذا انقضتْ يكون مُحرَّرًا كالمكاتَبِ إذا دفع ءاخرَ نجم عليه فإنه بذلك يتمُّ له التحرير.

ولو كان مقصود الشارع تعالى إلغاء الرقّ فى زمن من الأزمان لنبَّه عليه وصرَّح به ولا يترك ذلك مُبْهمًا غامضًا فقد أتانا بها بيضاءَ نقيَّةً وأكمل لنا الدين المبين وحاشَا النبِىّ الكريم صلى الله عليه وسلم أن يسكت عن التصريح بأمر عظيم هو من الأهمية فى الدرجة القصوَى.

وكيف يتأتّى إلغاء حكم الرقّ فى زمنٍ ما وكثيرٌ من الأحكام الشرعيَّة متوقِّفة عليه ومُعلَّقة به ككفارة الإيمان وكفارة القتل خطأ.

وغاية ما يُؤْخذ من هذا الحديث الشريف هو حثُّ الأمة على مُداراة الجار ودفع الأذيَّة عنه والإحسان إليه والحضّ على معاشرة النساء بالمعروف ولزوم الرفق بالمماليك ومعاملتهم بالحُسنَى كما جاء فى أحاديث كثيرة.

والأجانب لم يَسْعَوْا فى تحقيق أمنيتهم فى إلغاء الرقّ رحمةً بالإنسانية وخدمةً لها كما يدَّعون. لا لا، فما ذلك إلا ألفاظ يتشدَّقون بها توصُّلًا لمآربهم وزخارف من الأقوال يرُومُون بها قضاء لباناتهم فقد علَّمتنا الحوادث وفى جملتها الحرب الحاضرة أنهم يُضْمِرون غير ما يُظْهِرون ويُبطنون غير ما يعلنون (والله يعلم إنهم ...).

عوَّل الغربيون على اقتسام الممالك الإسلامية والقضاء على سلطة ملوكها وأمرائها وتمزيق شمل العالم الإسلامِىّ وتبديد جامعته والحيلولة دون انتشار الدين الإسلامية ونفوذ نوره فاتَّخذوا توصُّلًا لأمانيهم أسبابًا جديدة وطُرقًا كثيرةً من جملتها السَّعْىُ فى إلغاء الرقّ وتحرير الأرقاء وذلك لأنهم وجدوا بالعيان أنَّ هؤلاء الأرقّاء وهم يقدّرون بمائةِ ألف سنويًا بعد الإتيان بهم إلى الديار الإسلامية يدخلون فى الدين الإسلامِىّ ويتخلَّقون بأخلاق المسلمين ثم لا يمضِى عليهم مدة وجيزة إلا ويكون معظمهم قد أُعتقوا ووقفوا فى صفوف الأحرار وتناكحوا وأخذوا فى التناسل فينمو بذلك عدد المسلمين ويكثر سوادهم ويقوَى بهم ساعدهم ويشتدّ عَضُدهم وربما عادت فئة إلى قومهم وأخذوا فى إنذارهم ودعوتهم إلى الدخول فى دين الله وهذا بلا ريب ممَّا كان يُسِىءُ الأجانبَ ولا يروق فى أعينهم ويتميزون غيظًا منه.

إن إلغاء الرقّ من أعظم الأمور التى أخلَّت بنظام هيئتنا الاجتماعية وعوَّجت مستقيم أخلاقنا وأماطت عن الكثيرين لثام الحياء والشرف.  كان الفتَى منا إذا كان غير قادر على الاقتران بالحرائر لقلّة ماله أو لسبب ءاخر فإنه يتَّخذ له سُريَّة يتمتَّع بها ويُحصِّن بها نفسه ويمنعها عن التَّطلُّع إلى ما لا يرضاه ذوو المروءة ولا يمشِى إلى هذه القاذورات التِى قَضَت على حياة الأمة وحيائها. ولو كان باب الرقّ مفتوحًا لندر مَنْ يرمِى بنفسه فى هذه المهاوِى السحيقة، فالتسرِّى كان أعظم مساعد على تكثير العالم الإسلامِى وتنميته.

وذكر المؤرّخون أنه أُحصِىَ نَسْل بنِى العباس فى زمن المأمون فبلغ نحو ثلاثين ألفًا ولو كان هذا من الاقتران بالحرائر فقط لما بلغ فى هذه المدة التى هِى نحو مائَتِى عام نصف عُشْر هذا المقدار.

هذا وأىُّ حاجة تدعونا إلى مجاراة الأوربيين والذهاب إلى القول بإلغاء الرقّ وتكلُّف الاستدلال على ذلك بالأحاديث النبوية وأىُّ داعٍ يلجئنا إلى تأويل الأحاديث بما يوافق مشارب الأجانب وأهواءهم.

فحكم الرقّ باقٍ ثابت الأركان لا ينسخه تطاولُ الأزمان وليس فى وسعنا أن نذهب إلى إلغاء هذا الحكم بعد أَنْ عَلِمْنَا عِلْمَ اليقين ما فيه من الفوائد التِى تعود بالمنافع الجُلَّى على العالم الإسلامِىّ.

والله تعالى أعلم.