حقيقة الزهد (١)[١]

قَبَساتٌ من فوائدِ مُحَدِّثِ الديارِ الهِنْدِيَّة
الشيخ حبيبُ الرحمن بن محمد صابر الأعظمِىّ
المتوفَى سنة ١٤١٢هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وءاله وصحبه أجمعين. أما بعد فمن القطعيات التِى لا يستيطع أحد ممن له إلمام بالكتاب والسنة وفِى قلبه شىء من نور الإيمان أن يجحدها أن الحياة إنما هِى حياة الآخرة كما قال الله تعالى (َإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِى الْحَيَوَانُ) وأما الحياة الدنيا فكما قال تعالى (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) وقال (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِى الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) فقضية العقل أن يؤثر الإنسان حياة الآخرة وطيبها على الحياة الدنيا ورغادة عيشها ولكن الإنسان يفتتن بزهرتها ونضارتها ولا يكتفِى بالقدر المحتاج إليه منها فِى قضاء حوائجه وصلاح بدنه فيركنُ إليها بكُلّيتِهِ ويذهل عن الآخرة وذلك لما فِى طبع الإنسان من حب الشهوات وإيثار العاجل على الآجل قال الله تعالى (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ) وقال جل ذكره (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ).

فلا جرم أن اقتضتِ الحكمةُ الإلهية ردع عباده عن الاسترسال فِى شهواتهم وإرشادهم إلى ما فيه خيرهم فأكثرَ الله تعالى من ذم الدنيا وعيبها وشرح حالها من سرعة زوالها واضمحلالها والمقارنة بينها وبين الآخرة ولو ذهبنا نستقصِى جميع ما ورد فِى كتاب الله تعالى من هذا الباب لطال الكلام وسنتلو عليك بعضه فِى ضمن بعض ما يأتِى والمقصود من هذه الآيات كلها حث العباد على الزهد فِى الدنيا والزجر عن التشاغل بها إلى حدِّ يفضِى إلى إهمال الآخرة والتوانِى فِى طلبها. قال الإمام الغزالِىُّ الآيات الواردة فِى ذمّ الدنيا كثيرة وأكثر القرءان مشتمل على ذم الدنيا وصرف الخلق عنها ودعوتهم إلى الآخرة بل هو مقصود الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولم يبعثوا إلا لذلك فلا حاجة إلى الاستشهاد بآيات القرءان لظهورها[٢] اهـ

ما هِى الدنيا المذمومة والمأمور بالزهد فيها.

وربما يختلج فِى صدرك أنه لما كانت الدنيا عبارة عن أعيان موجودة للإنسان فيها حظُّ فما معنى ذمها والحث على الزهذ فيها فهذا السؤال قد أجاب عنه الغزالِىّ بكلام مشبع ووافقه ابن الجوزِىّ ولخصه فِى منهاج القاصدين واختصره أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسِىّ فقال قد سمع خلق كثير ذمَّ الدنيا مطلقًا فاعتقدوا أن الإشارة إلى هذه الموجودات التِى خُلِقَتْ للمنافع فأعرضوا عما يصلحهم من المطاعم والمشارب.  وقد وضع الله فى الطباع توقان النفس إلى ما يصلحها فكلما تاقت منعوها ظنًا منهم أن هذا هو الزهد المراد وجهلًا بحقوق النفس  وعلى هذا أكثر المتزهدين وإنما فعلوا ذلك لقلة العلم ونحن نصدع بالحق من غير محاباة فنقول اعلم أنَّ الدنيا عبارة عن أعيان موجودة للإنسان فيها حظُّ وهى الأرض وما عليها فإن الأرض مسكن الآدمِىّ وما عليها ملبس ومطعم ومشرب ومنكح وكل ذلك علف لراحلة بدنه السائر إلى الله عز وجل فإنه لا يبقى إلا بهذه المصالح كما لا تبقى الناقة فى طريق الحج إلا بما يصلحها فمن تناول منها ما يصلحه على الوجه المأمور به مُدِحَ ومن أخذ منها فوق الحاجة للشَّرَهِ وقع فِى الذم فإنه ليس للشره فى تناول الدنيا وجهٌ لأنه يخرج عن النفع إلى الأذى ويشغل عن طلب الآخرة فيفوت المقصود ويصير بمثابة مَنْ أقبل يعلف الناقة الماء ويوردها ويغير عليها ألوان الثياب وينسَى أن الرفقة قد سارت فإنه يبقى فى البادية فريسة للسباع هو وناقته.

ولا وجه أيضاً للتقصير فى تناول الحاجة لأن الناقة لا تقوى على السير إلا بتناول ما يصلحها فالطريق السليم هى الوسطى وهِى أن يؤخذ من الدنيا قدر ما يحتاج إليه من الزاد للسلوك وإن كان مشتهىً فإن إعطاء النفس ما تشتهيه عون لها وقضاء لحقها.

وقد كان سفيان الثورى يأكل فى أوقاتٍ من طيب الطعام ويحمل معه فى السفر الفالوذج.

وكان إبراهيم بن أدهم يأكل من الطيبات فِى بعض الأوقات فيقول إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال وإذا فقدنا صبرنا صبر الرجال.

ولينظر فى سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته فإنهم ما كان لهم إفراطٌ فى تناول الدنيا ولا تفريط فى حقوق النفس. وينبغى أن يتلمح حظ النفس فى المشتهى فإن كان فِى حظها حفظها وما يقيمها ويصلحها وينشطها للخير فلا يمنعها منه وإن كان حظها مجرد شهوة ليست متعلقة بمصالحها المذكورة فذلك حظ مذموم والزهد فيه يكون[٣] اهـ

وقال الغزالى وإنما الناجى منها فرقة واحدة وهى السالكة ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو أن لا يترك الدنيا بالكلية ولا يقمع الشهوات بالكلية أما الدنيا فيأخذ منها قدر الزاد وأما الشهوات فيقمع منها ما يخرج عن طاعة الشرع والعقل ولا يتبع كل شهوة ولا يترك كل شهوة بل يتبع العدل ولا يترك كل شيء من الدنيا ولا يطلب كل شيء من الدنيا بل يعلم مقصود كل ما خلق من الدنيا ويحفظه على حد مقصوده فيأخذ من القوت ما يقوى به البدن على العبادة ومن المسكن ما يحفظ عن اللصوص والحر والبرد ومن الكسوة كذلك[٤] اهـ

وقد يظن قوم ممن لم يفقهوا الإسلام حق فهمه أن الزهد ليس من مقاصد الإسلام ولا مما حثّ عليه الكتاب والسنة بل هو من مخترعات الصوفية ومستحسناتهم ولو لم يكن إلا ما فِى كتاب الله تعالى (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) وقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِى قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) وفِى حديث النبِىّ صلى الله عليه وسلم قوله (ما لِى وللدنيا إنما أنا كراكب قال فِى ظل شجرة ثم راح وتركها)[٥] اهـ لكفَى بها تكذيبًا لهذا الظن الفاسد وتفنيدًا لهذا الرأىِ الكاسد.

والزهد على أربعة أقسام أحدها فرض على كل مسلم وهو الزهد فى الحرام وهذا متى أخل به انعقد سبب العقاب. ويدخل فِى الحرام ما هو حرام لعينه وما هو لعارض كالبيع عند أذان الجمعة فإن الزهد فِى الربح المتوقع من البيع فِى ذلك الحين فرض لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِى لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) وكل حرفة يحترف بها المرء فِى حكم البيع وكذلك ليس الحكم مقتصرًا على البيع عند أذان الجمعة بل كل عمل يكون مانعًا عن أداء الفرض الشرعِىّ كان الإعراض عنه والزهد فيه واجبًا.

الثانى زهد مستحب وهو على درجات فى الاستحباب بحسب المزهود فيه وهو الزهد فى المكروه وفضول المباحات والتفنن فى الشهوات المباحة.

 الثالث زهد الداخلين فى هذا الشأن وهم المُشَمِّرُونَ فى السير إلى الله وهو نوعان 
أحدهما الزهد فى الدنيا جملة وليس المراد تخليها من اليد ولا إخراجها وقعوده صفرًا منها وإنما المراد إخراجها من قلبه بالكلية فلا يلتفت إليها ولا يدعها تساكن قلبه وإن كانت فى يده فليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك وهى فى قلبك وإنما الزهد أن تتركها من قلبك وهى فى يدك وهذا كحال الخلفاء الراشدين وعمر بن عبدالعزيز الذى يُضرب بزهده المثل مع أن خزائن الأموال تحت يده بل كحال سيد ولد آدم حين فتح الله عليه من الدنيا ما فتح ولا يزيده ذلك إلا زهدًا فيها فليس الزهد فى الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن الزهد فِى الدنيا أن تكون بما فِى يد الله أوثق منك بما فِى يدك وأن تكون فى ثواب المصيبة إذا أصبت بها أرغب منك فِى الدنيا لو أنها بقيت لك والذى يصحح هذا الزهد ثلاثة أشياء 

أحدها علم العبد أنها ظل زائل وخيال زائر وأنها كما قال الله تعالى فيها (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا) وقال الله تعالى (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) وقال تعالى (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ) وسماها سبحانه متاع الغرور ونهى عن الاغترار بها وأخبرنا عن سوء عاقبة المغترين وحذرنا مثل مصارعهم وذم من رضى بها واطمأن إليها وقال النبىُّ ما لِى وللدنيا إنما أنا كراكب قال فى ظل شجرة ثم راح وتركها اهـ وفى المسند عنه حديث معناه أن الله جعل طعام ابن آدم وما يخرج منه مثلا للدنيا فإنه وإن قزحه وملحه فلينظر إلى ماذا يصير فما اغتر بها ولا سكن إليها إلا ذو همة دنية وعقل حقير وقدر خسيس 

الثانى علمه أن وراءها دارًا أعظم منها قدرًا وأجل خطرًا وهى دار البقاء وأن نسبتها إليها كما قال النبىُّ ما الدنيا فى الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه فى اليَمِّ فلينظر بِمَ يرجع فالزاهد فيها بمنزلة رجل فى يده درهم زغل قيل له اطرحه فلك عوضه مائة ألف دينار مثلًا فألقاه من يده رجاء ذلك العوض فالزهد فيها لكمال الرغبة فيما هو أعظم منها زهد فيها.

الثالث معرفته أن زهده فيها لا يمنعه شيئًا كتب له منها وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يقض له منها فمتى تيقن ذلك وصار له به علم يقين هان عليه الزهد فيها فإنه متى تيقن ذلك وثلج له صدره وعلم أن مضمونه منها سيأتيه بقى حرصه وتعبه وكده ضائعا والعاقل لا يرضى لنفسه بذلك.

 فهذه الأمور الثلاثة تسهل على العبد الزهد فيها وتثبت قدمه فى مقامه والله الموفق لمن يشاء.

النوع الثانى الزهد فى نفسك وهو أصعب الأقسام وأشقها وأكثر الزاهدين إنما وصلوا إليه ولم يلجوه وجميع مراتب الزهد المتقدمة مباد ووسائل لهذه المرتبة ولكن لا يصح إلا بتلك المراتب فمن رام الوصول إلى هذه المرتبة بدون ما قبلها فَمُتَعَنٍّ مُتَمَنٍّ كمن رام الصعود إلى أعلى المنارة بلا سلم.  قال بعض السلف إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول فمن ضيع الأصول حرم الوصول وإذا عرف هذا فكيف يُدَّعَى أن الزهد من منازل العوام وأنه نقص فِى طريق الخاصة.

وقال ابن قدامة المذكور سابقًا ملخصًا كلام ابن الجوزِىّ اعلم أن الزهد فى الدنيا مقام شريف من مقامات السالكين والزهد عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه وشرط المرغوب عنه أن يكون مرغوبا فيه بوجه من الوجوه فمن رغب عن شئ ليس مرغوباً فيه ولا مطلوباً فى نفسه لم يُسَمَّ زاهدًا كمن ترك التراب لا يسمى زاهدًا.

واعلم أنه ليس من الزهد ترك المال وبذله على سبيل السخاء والقوة واستمالة القلوب وإنما الزهد أن يترك الدنيا للعلم بحقارتها بالنسبة إلى نفاسة الآخرة .

ومن عرف أن الدنيا كالثلج يذوب والآخرة كالدر يبقَى قويت رغبته فى بيع هذه بهذه. وقد دل على ذلك قوله تعالى (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى) وقوله فِى سورة النحل (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ).

ومن فضيلة الزهد قوله تعالى (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) وقال النبىُّ صلى الله عليه وآله وسلم من أصبح وهمه الدنيا شتت الله عليه أمره وفرق عليه ضيعته وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له ومن أصبح وهمه الآخرة جمع الله له هَمَّهُ وحفظ عليه ضيعته وجعل غناه فى قلبه وأتته الدنيا وهِى راغمه اهـ

وقال الحسن إن أقواما أكرموا الدنيا فصلبتهم على الخشب فأهينوها فأهنأ ما تكون إذا أهنتموها اهـ

وقال الفضيل جعل الشر كله فِى بيت وجعل مفتاحه حب الدنيا وجعل الخير كله فِى بيت وجعل مفتاحه الزهد فى الدنيا اهـ

درجات الزهد وأقسامه

ولتمام النفع نريد أن ننقل هنا فصلين من كلام ابن الجوزِىّ باختصار ابن قدامة وأصله للغزالِىّ كما قدمنا قال ابن قدامة

ومن الناس من يزهد فى الدنيا وهو لها مُشْتَهٍ لكنه يجاهد نفسه وهذا يسمى المتزهد وهو مبدأ الزهد.

الدرجة الثانية أن يزهد فيها طوعًا لا يكلف نفسه ذلك لكنه يرى زهده ويلتفت إليه ويرى أنه قد ترك شيئا له قدر لما هو أعظم قدرًا منه كما يترك درهما لأخذ درهمين.

الدرجة الثالثة وهى العليا أن يزهد طوعًا ويزهد فى زهده فلا يرَى أنه ترك شيئًا لأنه عرف أن الدنيا ليست بشىء فيكون كمن ترك خرقة وأخذ جوهرة فلا يرى ذلك معاوضة فإن الدنيا بالإضافة إلى نعيم الآخرة أَخَسُّ من خرقة بالإضافة إلى جوهرة فهذا هو الكمال فى الزهد.

وأما أقسام الزهد بالإضافة إلى المرغوب فيه فعلى ثلاث درجات

أحدها الزهد للنجاة من العذاب والحساب والأهوال التى بين يدى الآدمى وهذا زهد الخائفين.

الدرجة الثانية الزهد للرغبة فى الثواب والنعيم الموعود به وهذا زاهد الراجين فإن هؤلاء تركوا نعيمًا لنعيم.

الدرجة الثالثة وهى العليا هو أن لا يزهد فى الدنيا للتخلص من الآلام ولا للرغبة فى نيل اللذات بل لطلب لقاء الله تعالى وهذا زهد المحسنين العارفين فإن لذة النظر إلى الله سبحانه وتعالى بالإضافة إلى لذات الجنة كلذة ملك الدنيا والاستيلاء عليها بالإضافة إلى لذة الاستيلاء على عصفور واللعب به اهـ

بيان الزهد فيما هو من ضروريات الحياة

قال ابن قدامة والضروريات المهمات سبعة أشياء المطعم والملبس والمسكن وأثاثه والمنكح والمال والجاه.

فأما الأول وهو المطعم فاعلم أن همة الزاهد منه ما يدفع به الجوع مما يوافق بدنه من غير قصد الالتذاذ. وفى الحديث إن عباد الله ليسوا بالمتنعمين. وقالت عائشة رضى الله عنها لعروة كان يمر بنا هلال وهلال ما يوقد فى بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نار. قال قلت يا خالة فعلى أى شئ كنتم تعيشون قالت على الأسودين الماء والتمر. والأحاديث فى ذلك كثيرة مشهورة.

وقد كان كثير من الزهاد يخشنون المطعم وكان فيهم من لا يطيق ذلك فكان الثورِىّ حسن المطعم وربما حمل فى سفرته اللحم المشوى والفالوذج.

وفِى الجملة فالزاهد يقصد ما يصلح به بدنه ولا يزيد فى التنعم إلا أنَّ الأبدان تختلف فمنها ما لا يحمل التخشن. وقد يدخر بعض الناس الزاد الحلال لِتَقَوُّتِهِ فلا يخرجه ذلك من الزهد فقد كان السبتِىّ يعمل من السبت إلى السبت ويتقوته. وورث داود الطائى عشرين دينارًا فأنفقها فى عشرين سنة.

الثانِى الملبس فالزاهد يقتصر فيه على ما يدفع الحر والبرد ويستر العورة ولا بأس أن يكون فيه نوع تجمل لئلا يخرجه التقشف إلى الشهرة. وكان أكثر لباس السلف خشنًا فصار لبس الخشن شهرة.  وقد روى عن أبى بردة قال أخرجت إلينا عائشة رضى الله عنها كساء ملبدًا وإزارًا غليظًا وقالت قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فى هذين أخرجاه فِى الصحيحين.

وعن الحسن قال خطب عمر رضى الله عنه وهو خليفة وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة.

الثالث المسكن فللزاهد فيه ثلاث درجات.

أعلاها أن لا يطلب موضعًا خاصًا لنفسه بل يقنع بزوايا المساجد كأصحاب الصفة.

وأوسطها أن يطلب موضعًا خاصًا لنفسه مثل كوخ فِى سعف أو خص وما أشبه ذلك.

وأدناها أن يطلب حجرة مبنية ومتى طلب السعة وعلو السقف فقد جاوز حد الزهد فى المسكن. وقد توفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يضع لبنة على لبنة. قال الحسن كنت إذا دخلت بيوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  نلت السقف. وفى الحديث إن المسلم ليؤجر فى كل شىء ينفقه إلا فى شىء يجعله فى هذا التراب.  وفى الجملة إن كل ما يراد للضرورة فلا ينبغِى أن يجاوز حد الزهد.

الرابع أثاث البيت فينبغِى للزاهد أن يقتصر فيه على الخزف ويستعمل الإناء الواحد فى مقاصده فيأكل فى القصعة ويشرب فيها ومن خرج إلى كثرة العدد فى الآلة أو فى نفاسة الجنس خرج عن الزهد.

ولينظر إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففِى صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مضطجع على حصير وإذا الحصير قد أثر على جنبه فنظرتُ فِى خزانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع. وفِى رواية البخارِىّ فوالله ما رأيت شيئا يرد البصر والحديث مشهور فِى صحيح مسلم.

وقال علىُّ رضى الله عنه تزوجت فاطمة وما لِى ولها فراش إلا جلد كبش كنا ننام عليه بالليل ونعلف عليه الناضح بالنهار وما لِى خادم غيرها ولقد كانت تعجن وإن قصتها لتضرب حرف الجفنة من الجهد الذى بها.

ودخل رجل على أبى ذر رضى الله عنه فجعل يقلب بصره فى بيته فقال يا أبا ذرما أرى فى بيتك متاعا ولا أثاثًا فقال إن لنا بيتا نوجه إليه صالح متاعنا فقال إنه لا بد لك من متاع ما دمتَ هاهنا فقال إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه.

الخامس المنكح  لا معنى للزهد فى أصل النكاح ولا فى كثرته. قال سهل بن عبد الله حبب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النساء أى النكاح لما فيه من المصالح. وكان علىٌّ رضى الله عنه من أزهد الصحابة وكان له أربعة نسوة وبضع عشرة سرية. وكان أبو سليمان الدارانىّ يقول كل ما شغلك عن الله من أهل ومال وولد فهو مشؤوم.

وكَشْفُ الغطاء عن ذلك أن نقول مَنْ غلبت عليه شهوته وخاف على نفسه تعين عليه النكاح فأما من لا يخاف فهل النكاح فى حقه أفضل أو التعبد فيه اختلاف بين العلماء. والناس مختلفون فيه منهم من يقصد النكاح لطلب النسل ويمكنه الكسب الحلال للعائلة فلا يقدح ذلك فى دينه ولا يتشتت قلبه بل يجمع النكاح همه ويُكِفُّ بصره ويرد فكره فهذا غاية فى الفضيلة وعليه يحمل حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وحال علىّ رضى الله عنه ومن جرى مجراهما ولا التفات إلى قول من يرى الزهد بترك الالتذاذ بالنكاح فإنَّ الالتذاذ يقع ضمنًا وتبعًا للمقصود.

وقد كان بعض السلف يختار المرأة الدون على الجميلة وذلك محمول على أن تلك تكون إلى الدين أميل والنفقة عليها أقل والاهتمام بأمرها يسير بخلاف المستحسنة فإنها تشتت القلب وتشغله وتريد زيادة فى النفقة وربما لم يكن. وقد قال مالك بن دينار يعمد أحدهم فيتزوج ديباجة الحى فتقول أريد مرطا فتمرط دينه .

السادس المال وهو ضرورىّ فى المعيشة فالزاهد يقتصر منه على ما يدفع به الوقت وكان فى الصالحين من يتشاغل بالتجارة ويقصد بها العفاف. وكان حماد بن سلمة إذا فتح حانوته وكسب حبتين قام. وكان سعيد بن المسيب يتجر فى الزيت وخلف أربعمائة دينار وقال إنما تركتها لأصون بها عرضى ودينى.

السابع الجاه ولابد للإنسان مِن جاهٍ حتى فى قلب خادمه واشتغال الزاهد بالزهد يمهد له الجاه فى القلب فينبغى أن يتحرز من شر ذلك. وفى الجملة فإن الحوائج الضرورية ليست من الدنيا وكان كثير من السلف يُعَرَّضُ لهم بالمال الحلال فيقولون لا نأخذه نخاف أن يفسد علينا ديننا[٦] انهتى.

والله تعالى أعلم.


[١] مقدمة كتاب الزهد والرقائق لابن المبارك تحقيق المحدث الشيخ حبيب الرحمن الأعظمِى رحمه الله تعالى.

[٢] إحياء علوم الدين.

[٣] مختصر منهاج القاصدين.

[٤] إحياء علوم الدين.

[٥] أخرجه الترمذِىّ من حديث ابن مسعود.

[٦] مختصر منهاج القاصدين.