السنة النبوية والبدعة وأنواعها وبيان حقيقتها[١]

قبسات من فوائد الشيخ طيب مُلا عبد الله البَحْركِىِّ الكُردِىّ
حفظه الله تعالى

الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى ءَالِهِ وصحبه وسلم أما بعد فعن العرباض بن سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال فى حديثٍ طويلٍ (أُوصيكُمْ بتقوَى الله والسمع والطَّاعةِ وإن كان عبدًا حبشيًا فإنه مَنْ يَعِشْ منكم بَعْدِى فَسَيَرَى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسُنَّتِى وسُنَّةِ الخلفاءِ المَهْدِيِّينَ الراشدين فَتَمَسَّكُوا بها وعَضُّوا عليها بالنَّواجذ وإياكم ومُحدثاتِ الأمور فإنَّ كل مُحدثة بدعة وكل بدعةٍ ضلالة) اهـ

فلنشرع أولًا فِى شرح الحديث الشريف ونبيّن ما يدل عليه من الأحكام وأنواع البدع، ونبذة من الأحكام التى نفّذها بعض من الخلفاء الراشدين مما لم يبيّنه الكتاب والسنة صريحًا، فنقول

أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته أولًا بتقوى الله، وثانيًا بأن لا يخرجوا من أمرِ الإمام الذِى يَلِى أمورهم السياسيّة لما يترتّب على ذلك من فوضى تُسبِّب كُدُورة المعيشة والإخلال بالأمن وبالتالى الإخلال بالدين وغير ذلك من المفاسد التى لا تحصى كما يُشَاهَدُ كلُّ ذلك فِى زماننا الحاضر، وبيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه تقع بعده اختلافاتٌ كثيرة فى أمور الدين كما فى حديث وتَفْتَرِقُ أُمَّتِى على ثَلاثٍ وسَبْعِينَ فِرْقَةً اهـ  وهذا مِنَ الإخبار بالمغيَّباتِ التى عَلَّمَها اللهُ نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم من كثرة الفرق والآراء وكما بَيّنَ الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم أن الحق من هذه الفرق والآراء هو الذى وافق سُنّةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو وافق سنّة الخلفاء الراشدين أى طريقهم.

والمراد بالخلفاء الراشدين الخلفاء الخمسة الذين وَلُّوا أمرَ المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرةً، وهم أبو بكر الصدّيق عمر الفاروق ذو النورين عثمان وعلىٌّ الضرغام ابن أبى طالب وسبطُ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علىّ صلى الله عليه وسلم، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم (الخلافَةُ فِى أمتى ثلاثُونَ سَنَةً) اهـ أى الخلافة الراشدة بعدِى ثلاثون سنة وهى مدة خلافة الخلفاء المذكورين، وإنما قابل رسول الله صلى الله عليه وسلم سنّة الخلفاء بسنّته لِما عَلِمَ بالمعجزة بأنّهم لا يسلكون غير طريقته فى ما يستنبطونه من مأخذ التشريع (الكتاب والسنّة النبويّة) بل طريقتهم طريقته صلى الله عليه وسلم.

وكلمة (النواجذ) فى الحديث السابق بمعنى الأضراس الأخيرة، والعَضُّ عليها كنايةٌ عن شدة ملازمة السنّة المطهّرة والتمسّك بها، و(إيّاكم ومحدثات الأمور) أى ابتعدوا عن الأشياء المخترعة التى لم تكن معروفة من الكتاب والسنّة ولم يدل عليها دليل من الإجماع والقياس وغير ذلك بل كانت مخالفة لها ومتناقضة لمقتضاها، ويُؤَيِّدُ هذا ما روته أم المؤمنين عائشة بنت الصدّيق رضى الله عنها عن زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم )مَنْ أحْدَثَ فى أَمرِنا هذا ما ليس منه فهُو رَدٌّ) اهـ أى مَنِ اخترع مِن قِبَلِ نفسه شيئًا على أساس أنه من الدين والحالُ أنه منافٍ للدين ومخالفٌ لأدلته وقواعده ومناقض له. وَوَجْهُ دلالة هذا الحديث لما نحن بصدده أنه لمّا لم يَنْهَ الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم عن الإحداث والاختراع مطلقًا بل قيّده بأن يكون مخالفًا للدين وليس منه علمنا أنّ الإحداث والإبداع نوعان نوع ممدوح وهو الذى يدل عليه الأدلة العامة المذكورة سابقًا، ونوع مذموم وهو الذى يخالف الدين الحنيف وليس منه، وهذه هى المسماة بالبدعة القبيحة عند الفقهاء وهى المُعَبَّرُ عنها بالمحدثة فى قوله صلى الله عليه وسلم (فإن كلَّ مُحدَثَةٍ بدعةٌ وكُلَّ بِدعةٍ ضلالةٌ) اهـ أى كلُّ بدعةٍ سيّئةٍ قبيحةٍ ضلالةٌ وعدولٌ عن الجادة والطريق الحق، إذ البدعة نوعان بدعة هدى وبدعة ضلالة، فما كانت على خلاف ما أمر الله ورسوله به فهى البدعة القبيحة المستحقة للذم والإنكار. وهذه هى المعنيّة بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم (وَمَنِ ابتَدَعَ بِدعَةَ ضَلالَةٍ لا تُرضِى اللهَ ورسولَهً كان عليه مثلُ ءاثامِ مَن عَمِلَ بها لا يَنقُصُ ذلك من أوزارِ النَّاسِ شيئًا) اهـ رواه الترمذِىُّ وابن ماجه. فلو كانت البدعة نوعًا واحدًا لكانت إضافة بدعةٍ إلى ضلالةٍ ضائعةً لا فائدة فيها، وهذا بعيدٌ غايةَ البعدِ من كلام صادر من معدن النبوة، ومركز الرسالة العظمى. وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هذا الحديث أنَّ البدعة القبيحة هى التى لا يرضى بها الله ولا رسوله وأما ما يحدثُ ولم يدل عليه دليلٌ صريحٌ بعبارة النصّ ولكن لا ينافِى قواعد الدين الحنيف وله نفعٌ ظاهر أو كانت عبادةً موافقة لنهج الدين الحنيف فَهِىَ البدعةُ الحسنةُ كبناء المدارس والرُّبُطِ، وكجمع القرآن فى زمن الخلفاء الراشدين صلى الله عليه وسلم، وكتصانيف الكتب الدينيّة وشرح الأحاديث النبويّة وطبعها وإرسالها بالطائرات إلى الآفاق البعيدة، وكفتح الدورات والندوات العلميّة، وكبناء منارات وقبب الجوامع ونصب السمّاعات ومكبّرات الصوت للنداءات الدينيّة، وكتبليط الطرق وبناء المستشفيات ودور العجزة والمرافق العامة، وغير ذلك من المشاريع الخيرية، فهذه كلها بدع لم تكن فى زمن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، ولكنّ العقول السليمة لا تقبل أن تكون كلُّ هذه منهيًّا عنها شرعًا، فحاشا الشريعة المطهّرة أن تنهَى عما تستحسنه جميع العقول السليمة، بل الشريعة الغرّاء ءامِرَةٌ بها، يقول صاحبها المصطفى صلى الله عليه وسلم (مَنْ سَنَّ فى الإسلامِ سُنَّةً حسنةً فله أجرها وأجر من عَمِلَ بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شىء) أى من ابتدع ما لم يكن له مثال سابق من الأفعال الخيريّة والنافعة كالأمثلة السابقة كان له هذا الأجر العظيم، وهذه هى البدعة الحسنة عينها التى أشار إلى تسميتها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضى الله عنه بقوله مشيرًا إلى صفوف التراويح (نعْمَتِ البدعةُ هذه) اهـ وسماها بدعةً لأنه لم تكن التراويح فى زمن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بهذا الشكل من الجماعة الكثيرة وعدد الركعات متواليةً، ولكن لَمَّا لم تكن خارجة عن قواعد الدين الحنيف، بل كانت صلاةً وأذكارًا وخدمة للبارئ أى طاعة للخالق استحسنه وقال ما قال. وهذه التراويح بهذا الشكل بالنسبة إلينا مع إقرار الصحابة كلهم لها تعتبر كأنها سُنَّةٌ مأثورةٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فتبيّن مما ذكرنا أنّ البدعة نوعان نوعٌ سمّاها المصطفى صلى الله عليه وسلم صريحًا ببدعة ضلالة، والنوع الآخر سمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا بدعة حسنة ولكن إشارةً وضمنًا فِى حديث (مَنْ سَنَّ فى الإسلامَ سُنَّةً حسنةً)اهـ  وصرّح بتسميتها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى قوله (نعْمَت البدعةُ هذه)، وهذه هى بدعة هدى وبدعة حسنة وهِىَ الجارية على ألسنة الفقهاء الكرام فى مواضع عديدة فى كتب الفقه.

قال الشيخ محيى الدين الإمامُ النووىُّ رحمه الله فى كتابه تهذيب الأسماء واللغات (البدعة فى الشرع هى إحداث ما لم يكن فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهى منقسمة إلى حسنةٍ وقبيحةٍ) اهـ

وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله فى قواعده كما يَنقل عنه النووىُّ رحمه الله فى كتابه التهذيب والسيوطىُّ فى رسالته المسماة بـحسن المقصد المدرجة فى فتاواه الحاوى للفتاوى (البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرّمة ومندوبة ومكروهة ومباحة، والطريق فى ذلك أن تُعرَضَ البدعةُ على قواعد الشريعة فإن دخلت فى قواعد الإيجاب فهى واجبةٌ، أو فى قواعد التحريم فمحرّمة، أو الندب فمندوبة، أو المكروه فمكروهة، أو المباح فمباحة، وللبدع الواجبة أمثلة منها الاشتغال بعلم النحو بالقدر الذى يُفْهَمُ به كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك واجب لأن حفظ الشريعة واجب ولا يتأتّى حفظها إلا بذلك وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وللبدع المحرّمة أمثلة منها مذاهب القَدَرية والجبريّة والمجسمة والردُّ على هؤلاء من البدع الواجبة، وللبدع المندوبة أمثلة منها إحداثُ الرُّبُطِ والمدارس وكلُّ إحسانٍ لم يُعهد فى العصر الأول، وللبدع المكروهةِ أمثلة كزخرفة المساجد وتزويق المصاحف، وللبدع المباحة أمثلة منها المصافحة عقب صلاة الصبح والعصر، ومنها التوسع فى اللذيذ من المآكل والمشارب والملابس والمساكن) اهـ ءاخِرُ كلام العز رحمه الله.

وروى البيهقى بإسناده فِى مناقب الشافعى عن الإمام الشافعىّ رضِى الله عنه قال (المحدثات من الأمور ضربان أحدهما ما أُحدِثَ مما يخالف كتابًا أو سنّةً أو أثرًا أو إجماعًا فهذه البدعة الضلالة، والثانية ما أُحدث من الخير لا خلاف فيه لأحد من العلماء وهذه محدثة غير مذمومة) اهـ

فمن لم يُقَسّم البدعة إلى هذين القسمين وجعلها قسمًا واحدًا واعتبرها ضلالة مطلقًا فهو مخالفٌ لِنَصِّ حَدِيثَىْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأثرِ الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضى الله عنه، ومخالفتُهُ ليست قاصرةً على نفسه فقط بل يتعرَّض لما يفعله الناس من عباداتهم وصدقاتهم وأذكارهم وأقوالهم وأفعالهم الخيريّة النافعة للفقراء ويوسوس فى صدور المسلمين حتى يتركوا ما تعوّدوا عليه من المحاسن السابقة التى ورثوها من العلماء الصلحاء، ويَعتبر هذا التخريبَ دفاعًا عن سنّة المصطفى صلى الله عليه وسلم مع أن هذا  إضعافٌ لدين الإسلام وتشويش على المسلمين فى عباداتهم وهدمٌ لمعتقداتهم الدينيّة، فهذه نتيجة ظهور هذه الآراء الباطلة التى أُسست بالأصل لهدم الدين الحنيف، وتأثيرُ هذه الشرذمة المتمسكة بهذا الطريق الباطل أشدُّ على دين الإسلام من ضرر الأحزاب الأخرى، حيث إنها تتحرَّكُ باسم الدين، وتقع فتنتهم فى المساجد، فنرجو من الله تعالى أن يصلحَ أفكار هؤلاء، ويُلْقِىَ فِى قلوبهم التوبة الصادقة ويقبلها منهم، وأن يخمد نار الفتنة بين طوائف الأمة ويجعلها يدًا واحدةً للدفاع عن الدين الحنيف، وأن يسلم الطريق الذى بعث به المصطفى صلى الله عليه وسلم من التحريف والتنكيل، وأن يسيرّنا على ما سار عليه أسلافنا الصالحون.

والله تعالى أعلم.


[١] المرجع كتاب حُجج المتقين فِى بعض المسائل من فور الدين للشيخ طيب ملا عبد الله البحركِىّ.