الكتب الصفراء والحضارة العربية[١]

قبسات من فوائد الشيخ محمود محمد الطناحِىّ

المتوفى سنة ١٤١٩ هـ رحمه الله تعالى

 

الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وسلم وبعد أحببتُ أن أبدأ الحديث عما يسمونه سدنة الكتب الصفراء.

ولنفرغ أولًا من سدنة هذه على طريقة تحرير المصطلح قبل الأخذ فى المناقشة. وسدنة من الكلمات التى يتساهل بعض الكتَّاب فيها فيستعملونها فى غير ما وُضِعت له وهى جمع سادن وهو خادم الكعبة خاصةً وخادم الأصنام فى الجاهلية والفعل منه سَدَنَ يَسْدُن من باب قَتَل يَقْتُل قال ابن فارس فى مقاييس اللغة السين والدال والنون أصلٌ واحد لشيء مخصوص يقال إن السِّدانة الحِجابة وسَدَنة البيت حَجَبَتُه. انتهى كلامه. وقوله لشىء مخصوص قَطَع به طريق المجاز وأراد أن العرب لم تستعمله فى غير هذا المعنى وأن مثل ذلك لا يُنقل إلى غير معناه الخاص إلا بسماعٍ صحيح ممن يُوثَق بعربيته فبطل إذن بحمد الله استعمال سَدَنة هنا.

ولم يبق إلا الكتب الصفراء وهو وصفٌ عجيبٌ كنا نسمعه قديمًا ونحن شبَبَبَةٌ صغار فنُفتَتن به افتنانًا كما كنا نُفتَتن بمثل الشعر المهموس والدَّفْقة الشعورية وتراسُل الحواس و المنولوج الداخلِى فلما أفَقْنا من الغَشْية وعرفنا الطريق أدركنا أن ذلك كله مما لا غَناء فيه ولا طائل تحته وأنه ترجمةٌ تروقُ بلا معنى واسمٌ يَهُول بلا جِسم أو تهاويلُ فارغةٌ من الحقيقة اهـ

وقد اختفى هذا الوصف الكتب الصفراء زمانًا ثم عاد مرة أخرى وإذا كنا لا نحفل به إذا جاء فى كلام من لا يُؤْبَهُ له ولا يُعاج[٢] به من صغار الكتَّاب فإن الأمر يختلف إذا ورد فى كلام شاعر كبير له قراءٌ ومحبون وأستاذ جامعِى له تلاميذ ومريدون.

وواضح أن ورود هذا الوصف فى كلامهما ومن لَفَّ لَفَّهما إنما هو فى مقام الذم والسُّخْرِيَة بحيث صار استعمال هذا الوصف مرادافًا للأدب الغَثِّ والفكر الهزيل المتخلِّفِ.

وإذا كنا لا نرضى لأنفسنا أن نتغلغل إلى المطوِىِّ فى ضمائر الناس لأن ذلك عند علام الغيوب وإذا كان كلُّ من استعمل هذا الوصف لم يقدموا لنا نماذج محددة من أسماء هذه الكتب الصفراء وما تشتمل عليه من ألوان الفكر وضروب الأدب، إذا كان ذلك كذلك فإن لنا أن نقف عند الدلالة المجردة لهذا الوصف فنقول ببداهة العقل وبمطلق الدلالة إن كل فكر جاء فى كتب صفراء مرفوضٌ ومطَّرَحٌ لأن الوصف إذا جاء بغير قيد أو استثناء دخل تحته كل أفراد جنسه. ومعنى هذا ببداهة العقل أيضًا وبمطلق الدلالة أن الشاعر إذا جاءنا فِى ورق أصفر اجتويناه ورفضناه وبمفهوم المخالفة إذا جاءنا هذا الديوان على ورق كوشيه فاخرٍ كان ذلك رافعاً لخَسِيسَتِه إن كانت فيه خسيسَةٌ.

ونحن نقولها بكل سلامة الصدر, وبكل خلوص النية لكل من عنده خبرٌ عن حقيقة هذا الوصف: نَبِّأنا بتأويله.

وبكل سلامة الصدر أيضًا وخلوص النية نسأل القائل نعم نسأله تعلُّمًا لا تعنُّتًا ما معنى قولك إن الدكتور طه حسين أخرج الشعر الجاهلِى من سَدَنة الكتب الصفراء فمن هم هؤلاء السَّدَنة إن قبلنا هذا الاستعمال ما هى أسماؤهم. ثم ما هى أزمانهم. ثم ما هذه الكتب الصفراء التى جاء فيها شرح الشعر الجاهلى محرَّفًا ومُزالًا عن جهته حتى جاء طه حسين فأقامه على سُوقه.

إن الشعر الجاهلى قد جاءنا موثقًا مضبوطًا فى دواوين أصحابه التى صنعها علماء الصدر الأول مثل ابن السكِّيت وابن حبيب وثعلب والسُّكَّرِى وفى الشروح الكبرى مثل شرح المُفَضَّليَّات لأبى محمد الأنبارِى وشرح القصائد السبع لابنه أبى بكر وشرحِ القصائد التِّسْع لأبى جعفر النحاس، وجاءنا أيضًا فى المجاميع والمختارات الأدبية التى صنفها فحول العلماء فى الصدر الأول أيضًا كالمُفَضَّليَّات والأصمعيات والحماسيات والمختارات، وجاءنا أيضًا منثورًا ومفرَّقًا فى كتب الأمالى والمجالس ودواوين الأدب ومعاجم اللغة بل وفى كتب التاريخ والبُلْدانيات أى الجغرافيه.

وحين ظهرت المطبعة وتصدى علماء البعث والإحياء لشرح الشعر الجاهلى قرأناه فى مؤلفات جِلَّة العلماء من أمثال الشيخ حسين بن أحمد المرصفِى والشيخ سيد بن على المرصفِى والشيخ حمزة فتح الله ثم جاءت طبقة تلاميذهم من قراء الشعر الجاهلى وشراحه والطبقة التى جاءت بعدهم وهلمَّ جرًّا إلى أساتذة الأدب ودارسيه بالجامعات وغير الجامعات.

فأنت ترى أن الشعر الجاهلى تنقل فى أصلاب كريمة ووعته صدورٌ حافظة وحملته أيدٍ بارَّة وأدَّته ألسُنٌ ذكية. وهؤلاء العلماء المُحْدَثُونَ الذين ذَكَرْتُهُمْ إنما قرأوا الشعر الجاهلى وغيرَ الجاهلى فى الكتب الصفراء.

فإذا تركنا حديث الشعر الجاهلى ونظرنا فى تراثنا كله المطبوع فى مطبعة بولاق والمطابع الأهلية الأخرى بمصر وسائر بلاد الدنيا وجدناه كله وبخاصة أواخر القرن الماضى والربع الأول من القرن الحالى قد جاءنا فى الورق الأصفر فقد قرأنا تفاسير القرآن الكريم ودواوين السُّنَّة المطهَّرة فى الورق الأصفر، وكذلك كتاب الأم للشافعِىّ، وكتاب سِيبَوَيه، والأغانِى لأبى الفرج الأصبهانِىّ، وتاريخ الطبرِى وابن الأثير، ومقدمة ابن خَلدون، ووفيات الأعيان لابن خِلِّكان, ونَفْحُ الطِّيْب للمَقَّرِىّ وسائر كتب الحضارة العربية والإسلامية، وكذلك الكتب المترجمة يومئذ إلى العربية فى أنواع العلوم كالطب والهندسة والفلك والرياضيات والعلوم الحربية، وكذلك كان الشأن فى كثير من مطبوعات أورُبَّة من الكتاب العربى وغيره.

يقول العلامة الدكتور عبد الله الطيب المجذوب صاحب الكتاب العظيم المرشد إلى فهم أشعار العرب فى محاضرة ألقاها فى نادى ناصر الثقافى بالخرطوم [وأشهد على نفسى أنى عندما كنت أدرس فى الخارج يعنِى لندن كنا ندرس بعض القطع المسرحية لشكسبير فكان التلاميذ معنا يُسَمَّع بعضهم لبعض القِطَع عن ظهر قلب، حتى أمثال يدخل يطارده القتلة أو يخرج يطارده سَبُع وكانت لهذه المسرحيات القديمة شروحٌ قد تكون الأبيات أربعة أسطر فى أعلى الصحيفة بخط كبير وسائر الصحيفة بخط دقيق شرح لما فوق، ويُقْبِل التلاميذ على ذلك ولا ينفرون فإذا قُدِّم لهم شىء يشبه ذلك بالعربية نفروا منه نفورًا شديدًا. ومن عجب الأمر أن الكتب التى كنا ندرسها بالإنجليزية كان ورقها أصفرَ والورقُ الأصفر لعله ألين على عين القارئ من الورق الناصع الأبيض] انتهى كلامه[٣]. ويؤكده أن مصابيح الإضاءة فى شوارع وميادين كبرى غلب عليها الآن اللون الأصفر.

وقد شهدنا فى الكتب الصفراء ظاهرة طِباعية عجيبة لم نشهدها فى الكتب البيضاء وهى ظاهرة طبع كتاب أو كتابين بهامش الكتاب الأصلِى أو بآخره إذا كان له صلة بالكتاب الأصلِىّ. والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا لا داعىَ للتطويل بذكرها. على أن أعجب ما فى هذه الظاهرة أن نرى خمسة كتب مطبوعة فى كتاب وفى صفحة واحدة اجتمعت الكتب الخمسة فى الصلب والهامش مفصولة بجداول دون أن يختلطَ بعضُها ببعض أو يبغىَ بعضُها على بعض. ومن ذلك كتاب شروح التلخيص فى علوم البلاغة ويشتمل على

١- شرح سعد الدين التفتازانى على تلخيص المفتاح للخطيب القزوينِىّ.

٢- مواهب الفتاح فى شرح تلخيص المفتاح لابن يعقوب المغربِى.

٣- عروس الأفراح فى شرح تلخيص المفتاح, لبهاء الدين السبكِىّ.

٤- الإيضاح للخطيب القزوينِىّ.

٥- حاشية الدسوقى على شرح السعد.

والثلاثة الأولى طبعت فى صُلب الكتاب والاثنان الباقيان بهامشه. وكانت الطبعة الأولى للكتاب بمطبعة بولاق على الورق الأصفر سنة ١٣١٧ هـ أى منذ نحو مائة عام وكانت هذه الطبعة على نفقة مصطفى أفندى المكاوِى المحامِى بمدينة الفيوم والشيوخ فرج الله زكى الكردِى وكيل الشركة الخيرية لنشر الكتب العالمية الإسلامية من طلبة العلم بالأزهر الشريف وعبد الحميد أفندِى الصمدانِىّ.

وقِفْ أيها القارئ الكريم عند اسم مصطفى أفندِى المكاوِى المحامِى وانظر إلى همم الرجال واهتماماتهم فى تلك الأيام! رجل من رجال القانون ينهض للمشاركة فى نشر أصول من كتب البلاغة! وأَدَعُ لك أيها القارئ العزيز التدبر فى هذا الذى كان، وما نحن عليه الآن !

وظاهرة طبع الكتب بهامش كتب أخرى ظاهرة عجيبة فريدة وهى دالة بوضوح على أن القوم كانوا فى سباق لنشر العلم وإذاعته. وما أعلم أن هذه الظاهرة عُرِفتْ فى غير مطابع مصر وإستانبول فى بداية الطباعة العربية على الأقل[٤].

هذا وقد ارتبط الورق الأصفر عند عارفِى الكتب وجامعيها، بجودة التصحيح وكمال الإخراج وتلك حقبة غالية من تاريخ الطباعة فى مصر فقلَّ أن تجد تصحيفًا أو تحريفًا وجاءت النصوص كاملة موفورة، لا سَقْط فيها ولا خَلل، وذلك لأن القائمين على تصحيح الكتب الصفراء فى ذلك الزمان كانوا طبقة من فضلاء العلماء وكانوا يقومون بعملهم هذا بأمانةٍ تامةٍ وحرصٍ شديد. ويذكر التاريخ من أسماء هؤلاء المصححين العلماء نصر الهورينِى ومحمد بن عبد الرحمن المعروف بقُطَّة العدوِى ومحمد الحسينِى وطه محمود ومحمد عبد الرسول ومحمد قاسم ومحمد الزهرى الغمراوِى وعبد الغنى محمود.

وكان كثير من أساتذتنا الذين يجمعون الكتب يركضون خلف الطبعة الصفراء ويسمحون فيها بأغلى الثمن فإذا جئت أحدهم بطبعة من الكتاب القديم على ورق أبيض نفَر منها نفورًا شديدًا فإذا زيَّنتها له بأن فيها أوائل فِقْرات وعلامات ترقيم لجَّ فى إعراضه وقال: بِطِينه ولا غَسيل البِرَك[٥].

وإن تعجب فعجبٌ أن الورق الأصفر قد عاد إلى الطباعة مرة أخرى وأمامِى الآن طبعة جيدة جدًا من القاموس المحيط للفيروزآبادِى على ورق أصفر. ثم طبعة محققة من كتاب مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصبهانِى على ورق أبيض ولكنه بياض خفيف يميل كل الميل إلى الأصفر.

هذا.. ولن تزول حَيرْتِى ولن ينقضِى عجبِى من حديث الكتب الصفراء والحطِّ عليها إلا إذا جاءنِى كاتبٌ بكلام محدد مبين موثَّق بأسماء هذه الكتب الصفراء والفنون التى عالجتْها والدلالة على مواضع الذَّمِّ منها، وليس لِى إلا شرط واحد أن يرفق بِى الكاتب فلا يَهجُم بِى على دهاليز المنهجية والموضوعية والإشكالية وحركة التاريخ والحتمية الحضارية وأن يأتينى الكلام واضحًا قاطعًا لا ترى فيه عِوَجًا ولا أَمْتًا فإن كثيرًا مما نقرؤه ونسمعه فِى هذه الأيام مما ينطبق عليه قول ذلك الأعرابِى وقد حضر مجلس الأخفش فسمع كلامًا لم يفهمه فحار وعجب فقال له الأخفش ما تسمع يا أخا العرب فقال أراكم تتكلمون بكلامنا فى كلامنا بما ليس من كلامنا.

نعم إن كثيرًا مما نقرأه ونسمعه الآن مما يدير الرأس ويجعل الأعلى أسفل والأسفل أعلى وكأنك فى مدينة ملاهٍ أمام تلك الصناديق التِى يجلس فيها الصغار تعلو بهم ثم تهبط ثم تعلو ثم تهبط إلى أن يدركهم الدُّوَار أو يُنزلَ الله عليهم النُّعاسَ أَمَنةً منه.

والملجأُ اللهُ.

 


[١] المرجع مجلة الهلال المصرية جمادى الأولى ١٤١٣هـ نوفمبر ١٩٩٢م، ثم جُمع فى مقالات العلامة الدكتور محمود محمد الطناحِىّ.

[٢] عاج بالشىء وعوَّج التفت إليه وأقام به وعليه. المنتصر بالله.

[٣] ذكر الكناحِى مرجع هذا النقل عن عبد الله الطيب رحمهما الله وهو ملحق التراث بجريدة المدينة المنورة السعودية ٢١ من ربيع الأول ١٤٠٨ هـ ٢١ نوفمبر ١٩٨٧م.

[٤] أيضًا هى موجودة بغزارة فى مطابع الهند العربية فى تلك الفترة. المنتصر بالله.

[٥] مثلٌ مصرِىٌّ عامِىّ يقصد به تفضيل الشىء بأصله وإن كُرِه منه شىء على أن يُعالج بأجنبِىّ عنه قد يفسده أكثر. قال أحمد تيمور فى كتابه اللطيف الأمثال العامية والضمير فى بطينه للفجل والمراد تفضيل ما كان عليه طينه على الذى غسل بماء البرك الآسن يضرب فى تفضيل أخفِ الضررين. المنتصر بالله نقلًا عن حاشية الكتاب.