المنع من الذكر المحرف [١]

قبساتٌ من فوائد الشيخ محمد الحامد رحمه الله تعالى

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه أجمعين أما بعد فلقد سئلت غير مرة عن جواز الذكر المحرف وإنى أجيب مستعينًا بالله القوى العزيز فأقول قد يتعلق أصحاب الذِكرِ المحرف بأن اللغة غيرُ مقصودة لذاتها بل هى لمحض التفاهم وأنَّ المعنى هو الذى عليه التعويلُ وإنما الأعمالُ بالنيات فلا ينبغى التشديدُ فى هذا الأمر لأنَّ اشتراطَ النُطْقِ بالاسم الكريم باللغة الفُصحى يُقْعِدُ كثيرًا من الناس عن التعبدِ وذا يتنافَى ومقصدُ الشارع وإنه من التكلف ولا ضير فى ترکه ما دام الإخلاص حاصلًا وحسن القصد ماثلًاوقد يعزِّزون دعواهم بأن اللحن فى القرءان الكريم غير ضارّ فى بعض المسائل وأن افتتاح الصلاة بغير العربية لا يؤثر فى صحتها وأن قراءة ترجمة سورة الفاتحة الشريفة تجوز بها الصلاة وأن الدعاء بغير العربية سائغ إلى ءاخر ما يستظهرون به على جواز ما هم متلبسون به من عدم مراعاة النطق حال الذكر باسم الله الكريم واضحًا غير محرف.

وقبل أن أشرع فى تركيز الحقيقة الدينية فى وجوب النطق بالاسم الكريم كما أنزله الله سبحانه إلينا أحب أن يعلم الذاكرون - أنى لا أتَّهِمُهُم فى إخلاصهم ولا أصادرهم فى قصدهم فإن الإخلاص سرٌّ بينَ العبدِ وربِهِ تعالى وليس من الحق التحكم فى الضمائر ولا من الإنصاف التهجم على السرائر بل إنى لأُراهم فى نفسِى خيرًا منِى وإنِى أحمدُ إليهم سَمْتَهُمُ الطيبَ وسيرهم الحميد وخشوعهم لله وخضوعهم لأمره وابتعادهم عن المنكرات وانطواءهم على الذوات كما أنى لا أجحد منازلات السائرين إلى الله تعالى والسالكين سبيل التصفية فإنها حقائق مقررة لا يجحدها إلا الجهول الذى لم يشم للقرب من الله رائحة ولم تعبق فى روحه منه فائحة.

إن السادة الصوفية لهم من هذا النصيب الأوفى والحظ الأوفر والله المسؤول أن يعيد علينا من بركاتهم ويحشرنا فى زمرهم وجماعاتهم ءامين.

لكن هذا كله لا يمنع قائل الحق من قوله وإن الله فرض علينا التواصِى بالحق والتواصى بالصبر وقديمًا قال العارفون بالله سبحانه «لا يزال الصوفية بخير ما تناکروا». إن الغيرة على اسم الله المجيد تحمل صاحبها على النصح بالتزام تصحيح حروف والنطق به تامًا كاملًا فإنه أكرم الأسماء وأمجدها وإن المرء ليغضب إذا نودى باسمه الشخصى محرفًا فكيف باسم الله المجيد وهو سبحانه أحب إلى المؤمن من نفسه ومن كان كذلك ذاق حلاوة الإيمان على ما جاء فى الحديث النبوى الشريف.

وعن هذا يمنع التطريب فى الأذان وهو إخراج كلماته عن وضعها بزيادة المد والتمطيط وقد ذكر المحقق الشيخ كمال الدين ابن الهمام الحنفى فى كتابه فتح القدیر الذى شرح به كتاب الهداية فى فقه الحنفية ذكر فيه أن الإمام أحمد سئل عن هذا فى القراءة فكرهه ومنعه فقيل له لم؟ فقال للسائل ما اسمك؟ قال محمد فقال أيعجبك أن يقال لك يا موحامد؟ وإذا لم يحلَّ هذا فى الأذان ففى قراءة القرءان أولى وقد نقله عنه الشيخ الشلبى فى حاشيته على شرح الكنز للزيلعِىِّ وأقره.

وإذا كان ممنوعًا فى القراءة فهو ممنوع حال الذكر أيضًا والتفريق بينها تحكُّمٌ محضٌ ومن المعلوم أن لام الجلالة فى الاسم الكريم تفخم تارة وترقق أخرى ولا يجوز الترقيق فى مقام التفخيم ولا التفخيم فى مكان الترقيق وكل هذا من الحق المتلقى عن سیدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا ولا يجوز العدول عنه بحالٍ اللهم إلا إذا فقد الذاكر تماسكه وغشيته حال شديدة جرى معها لسانه بما لا ينطق به لولاها فهذا يغتفر له ما لا يغتفر للمتزن المتماسك وقد يتلبس بحركات كحركات المرتعش فیکون منه اضطراب وصياح وقد يمزّق ثيابه وجدًّا وهيامًا وشوقًا حارًّا إلى الله يلتهب به التهابًا محرّقًا ممزّقًا فمثل هذا تسلم له حاله الصادقة ولا يعترض عليه إلا الأجنبىّ عن هذه النفحات الأقدسية التى تضرع قلوب إلى الله تعالى أن يبقى بابها مفتوحًا وفيضها  ممنوحًا.

ولا ضير على من نزلت به هذه الحال فى كل حركة يأتيها فإن الممنوع من الحركات ما كان على النحو غير المشروع المأذون فيه والشرع إنما يأذن بما ليس فيه تثن وتكسر وما إليها.

أما ادعاؤهم بأن اللحن المتعمد فِى القرءان الكريم غير ضار فى بعض المسائل فهو من الغرابة بمكان إذ كيف يسوّغ اللحن المتعمد فى كلام الله عز وجل!! اللحن الذى لا يضر هو ما يزل به لسان القارئ فى الصلاة من غير عمد على نحو ما ذكره الفقهاء رضى الله تعالى عنهم فى فصل زلة القارئ من باب مفسدات الصلاة على أنه يغتفر للعامى منها ما لا يغتفر للفقيه العالم فقد تفسد فى حق إنسان ولا تفسد فى حق ءاخر. والتحريف فى الذكر ليس من هذا فى ورد ولا صدر من حيث إنه متعمد متلقف فقياسه على زلة القارئ لا يتم لأن الفارق بينهما قائم والقياس يعمل عمله عند التشابه التام بين المقيس والمقيس عليه وعند اتحاد العلة أيضًا ليكون الحكم فيها واحدًا وشرطه أن لا يكون فى المقيس نص وإلا فلا قياس ونصوص الدين تمنع تحریف اسم الله تعالى وهل شرع علم التجويد إلا لإعطاء الحروف حقها ومستحقها من المخارج والصفات؟ واسم الله الكريم أحق من سائر الكلمات بهذه المراعاة المفروضة.

وأما افتتاح الصلاة بغير العربية فأمر مختلف فيه فأبو حنيفة يجيزه للقادر على العربية مع الإثم وكراهة التحريم لأن التكبير واجب فى أول الشروع وتارك الواجب واقع فى كراهة التحريم التى يستحق مقارفها العقوبة بالنار لأنها إلى الحرام أقرب بخلاف کراهة التنزيه فإنها إلى الحل أقرب.

والصلاة التى دخلتها كراهة التحريم تعاد وجوبًا فى الوقت بل وبعده على الأصح نعم لا تكون الصلاة باطلة بترك الواجب إذ البطلان ينجم عن ترك الفرض وإن كانا مشتركين فى الإثم والحظر على تفاوت بينهما فيهما.  قال الشيخ ابن عابدين فى حاشيته رد المحتار على الدر المختار بعد أن ذكر جواز الشروع فى الصلاة بالفارسية على قول الإمام لأن المطلوب الذكر والتعظيم وذلك حاصل بأى لفظ كان وأى لسان كان قال نعم لفظ الله أكبر واجب للمواظبة عليه لا فرض.

والجواز لا يتنافى مع كراهة التحريم لترك الواجب كما هو مقرر فِى الفقه أما صاحباه أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى فإنهما لا يجوزان الشروع فيها إلا بالعربية للقادر عليها ويجوزانه للعاجز عنها فهما يشترطان العجز لجواز الشروع كما فى الدر المختار. فما لم يكن لم يكن. على أن هذا قیاس مع الفارق أيضًا لأن الكلام فى منع ذكر اسم الله بحروفه العربية المحرفة لا فى لغة أخرى فليتنبه إلى هذا.

وأما جواز الصلاة بقراءة ترجمة سورة الفاتحة بغير العربية فلا يفيدهم شيئًا، ذلك أن هذا الجواز مقيد بالعجز عن قراءتها بالعربية إلى أن يتعلمها وهذا هو الذى عليه الفتوى إذ الأصح أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى رجع إلى قول صاحبيه أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى بأن قراءتها بالفارسية ونحوها لا تجوز بها الصلاة إلا عند العجز عن قراءتها بالعربية وقد كان الإمام أولًا يقول بجوازها مطلقًا ثم رجع إلى قولهما كما فِى الدر المختار ورد المحتار من كتب الحنفية والقول المرجوع عنه لا يصح اعتماده والعمل به ولو للمرء فى خاصة نفسه فضلًا عن الاحتجاج به کدلیل.

وأما تسويغ الدعاء بغير العربية فلا وجه للاستدلال به على جواز الذكر المحرّف لأن الدعاء ضراعة إلى الله تعالى وذلة له سبحانه ومن ذا الذى يمنع الأعجمى أن يبسط كف الضراعة إلى خالقه ويذل له طالبًا منه سبحانه قضاء حاجته وهو الذى يجيب المضطر إذا دعاه ويحقق له رجاءه؟ ! إنه سبحانه المدعو بكل لسان والمرجو فى كل ءانٍ وقد طلب إلى خلقه أن يدعوه ليستجيب لهم. على أن عوام العرب إذا دعوا ربهم بلغتهم العامية غير الفصحى فإنهم ينطقون باسم الذات فصيحة  بيا الله واللهم ویاربنا وما إلى هذا مما ليس لتحريف الحروف فيه سلوك وأما باقى كلماتهم فهى أوعية للمعانى التى يَشْكُون بها بثّهم وحزنهم إلى الله والله عليم بالمقاصد والنوايا وما انطوت عليه الصدور من أسرار وخفايا.

وأما الذكر بلفظ (ءاه) طيًّا لما فى القلب من اسم (الله) وحبسًا للنفس بالهمزة منه ثم تصريفًا له بالهاء الصاعدة من القلب للتفريج عن قلوب المنتهين ولتحريك قلوب المبتدئين وللاستعانة على سرعة الاستحضار فأمر متوقف على ورود الشرع بأن لفظ (ءاه) من أسمائه تعالى التى هى توقيفية ليس للاختراع إليها سبيل[٢].

وبعد فما الذى يُضر إخواننا الذاکرین الله تعالى أن يَدَعوا ما فيه من شبهة إلى ما ليس فيه شبهة وقد قال فقهاؤنا رضى الله تعالى عنهم إذا ترددنا فى شىء بين كونه بدعة أو سنة فتركه لازم.  وإلى الفقهاء الرجوع فى الأحكام لا إلى المفسرين والمحدثين والصوفية على احترامنا لهم. وفى الحديث الشريف الذى رواه سيدنا أمير المؤمنين الحسن ابن أمير المؤمنين على رضى الله تعالى عنهما وكرّم وجوههما عن سيدنا جدّه المصطفى عليه وعلى ءاله الصلاة والسلام أنه قال «دع ما يريبك إلى مالا يريبك» رواه الترمذى والنسائى وقال الترمذى حديث حسن صحيح.

هذه نصيحة أملاها علىَّ النصح للإخوة فى الدين والله ولىُّ المؤمنين.

يوم الخميس ۲۹ ذى القعدة ۱۳۸۵ هـ

الفقير إلى الله

محمد الحامد

مدرس جامع السلطان وخطيبه

 


[١] المصدر كتاب تنبيه الفكر إلى حقيقة الذكر بحث علمىّ يكشف عن فضائل الذكر وحقيقته الشرعية للشيخ محمد أديب كلكل الطبعة السادسة ١٤٣١ هـ دار الفكر.

[٢] أضف إلى ما ذكره الشيخ رحمه الله أن ءاه من ألفاظ الشكاية والتوجع إجماعًا وقد جاء على وَجْهٍ مُشعِرٍ بالذم فى حديث الترمذى إنَّ الله يحب العطاس ويكره التثاؤب فإذا قال الرجل ءاه ءاه إذا تثاءب فإن الشيطان يضحك فى جوفه. فلا يجوز ادعاء أنه من أسماء الله تعالى.