بدعة الصوتية حول القرءان[١]

قبساتٌ من فوائد وكيل مشيخة الإسلام محمد زاهد الكوثرِى
المتوفى سنة ١٣٧١هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وءاله وصحبه ومن والاه وبعد فيوجد بين البشر من يرضَى لنفسه أن يقول إنَّ القرءان كلامُ الله بحرفٍ وصوتٍ ومع ذلك فهو غيرُ مخلوق. وفى هؤلاء يقول أبو بكر الباقلانِىُّ فِى النقض الكبير مَن زعم أنَّ السينَ من بسم الله بعدَ الباء والميمَ بعد السين الواقعة بعد الباء لا أول له فقد خرج عن المعقول وجحد الضرورةَ وأنكر البديهة. فإن اعترف بوقوع شىءٍ بعد شىءٍ فقد اعترف بأوَّلِيَتِهِ فإذا ادعَى أنَّه لا أولَ له فقد سقطت محاجته وتعين لحوقه بالسَّفْسَطَة[٢] وكيف يُرجَى أن يُرشَدَ بالدليل من يتواقح فِى جحد الضرورِىّ اهـ راجع الشامل لإمام الحرمين ونجم المهتدِى لابنِ المُعَلِّمِ القرشِى.

وقال الحليمِىُّ فى شعب الإيمان ومَن زعم أنَّ حركة شفتيه أو صوتَه أو كتابته بيده فى الورقة هو عين كلام الله القائم بذاته فقد زعم أنَّ صفةَ الله قد حَلَّتْ بذاته ومَسَّتْ جوارحَهُ وسَكَنَتْ قلبَهً وأىُّ فرق بين من يقول هذا وبين من يزعم من النصارَى أن الكلمة اتَحَدَتْ بعيسَى عليه الصلاة والسلام اهـ

وبعد إحاطة القارِئ علمًا بهذا وذاك لينظر قول بعض مشاهير الحنابلة فى مناظرته مع بعض الأشاعرة فى صدد نفِى الكلام النفسِىّ المسجلة فِى المجموعة المحفوظة تحت رقم ١١٦ بظاهِرِيَّةِ دمشق (قال أهل الحقِّ القرءان كلام الله غيرُ مخلوق وقالت المعتزلة هو مخلوق. ولم يكن اختلافهم إلا فى هذا الموجود دون ما فى نفس البارِى مما لا ندرِى ما هوَ ولا نعرفه) اهـ وله أيضًا (الصراط المستقيم فِى إثبات الحرف القديم) وفيه عجائب. فيكون اعترف فى أول خطوة أنَّ الحقَّ بيد المعتزلة وهو لا يشعر فإذا كان حال هذا هكذا فماذا يكون حال من دونه؟! نسأل الله الصون. وقد أجاد الألُوسِىُّ المُفَسِّرُ الردَّ عليه وعلى إخوانه من نُفاة الكلام النفسِىّ فى مقدمة تفسيره فنستغنِى بذلك عن الإفاضة فيه هنا.

والواقع أنَّ القرءان فى اللوح وفى لسان جبريل عليه السلام وفِى لسان النبِىّ صلى الله عليه وسلم وألسِنَةِ سائر التالِينَ وقلوبهم وألواحهم مخلوقٌ حادِثٌ مُحْدَثٌ ضرورةً. وَمَنْ ينكر ذلك يكون مسفسطًا ساقطًا من مرتبة الخطاب وإنَّما القديم هو المَعْنَى القائمُ بالله سبحانه دِلالَةً عقلية كما لا يخفَى.  فقولهم (القرءان مكتوب فى مصاحفنا محفوظٌ فى قلوبنا مقروءٌ بألسنتنا مسموعٌ بآذاننا) من وصف المدلول باسم الدَّال مجازًا كما نصَّ على ذلك السَّعْدُ العلامة فِى شرح المقاصد بل قال فى شرح النَّسفِيَّة عند شرح قول النسفِىّ (غير حال فيها) أى مع ذلك ليس حالًا فى المصاحف ولا فى القلوب والألسنة والآذان بل هو معنًى قديم قائم بذات الله تعالى يلفظ ويُسمَعُ بالنظم الدَّال عليه و يحفظ بالنظم المُخيل و يكتبُ بنقوش وصور وأشكال موضوعة للحروف الدالة عليه كما يقال النار جوهرٌ مُحْرِقٌ. يُذكر باللفظ ويكتب بالقلم ولا يلزم منه كون حقيقة النار صوتًا وحرفًا اهـ ثم توسع في بيان الوجودات فى الأعيان والأذهان والعبارات والكتابات مما يُعَدُّ من مبادئ معارف المشتغلين بهذا العلم.

ولم يصح فِى نسبة الصوت إلى الله حديثٌ.  وقد أفاض الحافظ أبو الحسن المقدسِىّ شيخ الُمنذرِىّ فى رسالة خاصة فى تبيين بطلان الروايات فى ذلك زيادة على ما يوجبه الدليلُ العقلِىُّ القاضِى بتنريه الله عن حلول الحوادث فيه سبحانه وإن أجاز ذلك الشيخ ابنُ تيمية الحرانِىُّ تبعًا لابن ملكا اليهودِى الفيلسوف المتمسلم حتى اجترأ على أن يزعم أنَّ اللفظَ حادثٌ شخصًا قديمٌ نوعًا. يعنِى أنَّ اللفظ صادر منه تعالى بالحرف والصوت فيكون حادثًا حتمًا لكن ما من لفظٍ إلا وقبله لفظٌ صدر منه إلى ما لا أولَ له فيكون قديمًا بالنوع، ويكون قِدَمُهُ بهذا الاعتبار فى نظر هذا الُمخَّرِف تعالى الله عن إفْكِ الأفَّاكين، ولم يَدْرِ المسكينُ بطلانَ القول بحلول الحوادث فى الله جلَّ شأنه وأن القول بحوادث لا أول لها هَذَيان لأنَّ الحركة انتقالٌ من حالة إلى حالة فهِى تقتضِى بحسب ماهيتها كونها مسبوقةً بالغير والأزلُ ينافِى كونَهُ مسبوقًا بالغير فوجب أن يكون الجمع بينهما محالًا ولأنَّه لا وجود للنوع إلا فى ضمن أفراده فَادِّعَاءُ قِدَمِ النوعِ من الاعتراف بحدوث الأفراد يكون ظاهر البطلان وقد أجاد الردَّ عليه العلامة قاسمٌ فى كلامه على الُمسايرة.

وفتاوى أهل العلم فى الردّ على الصوتية مسرودة فى تكملة الردّ على نونية ابنِ القيم.

ونصُّ فُتيا العزِّ بنِ عبد السلام (القرءانُ كلام الله صفةٌ من صفاته قديمٌ بقدمه ليس بحروفٍ ولا أصوات.  ومن زعم أنَّ الوصف القديم هو عينُ أصوات القارئين وكتابة الكتابيين فقد ألحد فِى الدين وخالف إجماع المسلمين بلإجماعَ العُقلاء من غير أهل الدين، ولا يَحِلُّ للعلماء كِتمانُ الحق وترك البدع سارية فى المسلمين و يجب على ولاة الأمر إعانة العلماء المنزهين الموحدين وقمع المبتدعة المشبهين المجسمين ومن زعم أنَّ المعجزة قديمةٌ فقد جهل حَقِيقَتَهَا. ولا يَحِلُ لولاة الأمور تمكين أمثال هؤلاء من إفساد عقائد المسلمين ويجب عليهم أن يلزموهم بتصحيح عقائدهم بمباحثة العلماء المعتبرين فإن لم يفعلوا أُلْجِئُوا إلى ذلك بالحبس والضرب والتعزير والله أعلم. كتبه عبد العزيز بن عبد السلام.

ووجوب صون المجتمع الإسلامِىّ من إفساد مفسد لعقيدتهم سيما فى مساجدهم أمرٌ لا يخص بلدًا ولا زمنًا.  ألهمنا الله رشدنا.

وتَخَيُّلُ حلولِ كلامِ الله فى تلاوة التالِى فى كلام السالمية تخيلُ مبرسِمٍ أى مجنون وقد هفا ابنُ قُتيبة هفوةً باردةً فى كتابه الاختلاف فى اللفظ فى تفلسفه بشأن اللفظ المسموع فرددنا عليه ردًّا واضحًا مكشوفًا، فلو علم أنَّ أسماء الكتب من قَبيل أعلام الأجناس فيتناول اسم أدب الكاتب له مثلًا ما تخيله هو فى ذهنه أو كتبه بيده أو أملاه على مستمليه من ألفاظه و عباراته و ألفاظ سائر القراء لكتابه لعلم أنَّ القرءان يَشمل ما فى اللوح وما فى لسان جبريل عليه السلام ولسان رسول الله صلى الله عليه و سلم وألسنة سائر التالينَ وأنَّ الكل مُحْدَثٌ مخلوقٌ سوَى ما قام بالله قيام صفة كما سبق فيكون تَصَوُّرُ تَلقِّى القرءانِ من اللهِ بحرفٍ و صوتٍ من فِيهِ زيغًا مبينًا.

وقد كذب من عزا إلى أحمد بن حنبل أنه قال وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا[٣] من فِيهِ وناوله التوراةَ من يده إلى يده كما نقله عبد القادر بدران المسكين فى كتابه الَمدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل روايةً بطريق الإِصْطَخْرِِىّ عنه[٤] و تلك الرواية موجودة أيضًا فى طبقات الحنابلة للقاضِى أبي الحسين بن أبي يعلى فىترجمة الإصْطَخْرِىّ . لكن المفروض أن يتورع مثل ابن بدران في مثل هذا العصر أن ينقل مثل ذلك بدون تزييفه.  وترى هكذا الأمرَ أخطرَ مِمَّا يُتَصَوَّرُ. ألهمنا الله السهر على معتقد جماعة المسلمين وجنبنا مسايرة المبطلين.


[١]المرجع كتاب مقالات الكوثرِىّ لوكيل مشيخة الإسلام الشيخ محمد زاهد الكوثرِىّ رحمه الله تعالى.

[٢]السَّفْسَطَةُ كلمةٌ يونانِيَّةٌ مَعْناها المغالطة بما يخالف بداهة العقول ويقتضِى التناقض.

[٣] النساء ءاية ١٦٣.

[٤] صحيفة رقم ٣٠.