حكم تحديد النسل[١]

قبسات من فوائد محدث الديار المغربية
عبد الله بن محمد بن الصديق الغمارِىّ
المُتَوَفَّى سنة ١٤١٣هـ رحمه الله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وسلم.  تكرر السؤال عن حكم تحديد النسل غير مرة من جهات مختلفة وقد رأيت لأجل ذلك أن أقول قولِى فيه  وأقدم لمن سأل عنه ما ظهر لِى الآن فى ذلك ووصل إليه اجتهادِى فى النظر فِى أدلته والله تعالى أسأل المعونة والتوفيق فأقول

مسألة تحديد النسل أو تنظيمه صارت من مشاكل الساعة وكثر الأخذ والردّ فيها وطال الجدال بين الباحثين فى شأنها فى حين أنَّها لا تحتاج إلى شىء من كل هذا مطلقًا. وإنّما جاء الخلاف مِن تَدَخُلِ من لا علم له فِى المسألة ومن عدم فهم النصوص على حقيقتها.

ولمعرفة القول الحقّ فى هذه المسألة يجب أنْ نعلم أولًا حكم النكاح من أصله ثُمَّ نعلمَ ثانيًا الغرض المقصود بالذات من النكاح أو الزواج ولعلنا إذا ألقينا نظرة خاطفة عابرة على هذين الأمرين يظهر لنا جليًا وبسهولة حكمُ تنظيم النسل أو تحديده بصورة تسد علينا باب الخلاف والنزاع بالمرة.

لهذا نقول اختلف العلماء فى النكاح بين الوجوب والندب والإباحة قالوا وقد يكون مكروهًا أو حرامًا والذين قالوا بوجوبه عللوا ذلك بالخوف من العَنَت أى الوقوع فى جريمة الزنا أما إذا لم يَخَفِ الوقوع فى ذلك فلا يجب عليه[٢] ونقل الغزالِىّ فى الإحياء عن بعضهم أنّه قال الأفضل تركه فى زماننا هذا. قالوا وقد كان له فضيلة من قبل إذ لم تكن الأكساب محظورة وأخلاق النساء مذمومة اهـ وهؤلاء لم ينكروا ما للنكاح من مزايا وفوائد ومحاسن منها الولد والذرية ولكنهم قالوا مع فوائده هذه ومزاياه ومحاسنه فإنه سببٌ لآفاتٍ  ومساوِئُ تَطغَى على محاسنه ومزاياه أى بالنسبة لقسم من الناس[٣] ومن ذلك الولد الذِى يشغله عن دينه ويُلْقِى به فى التهلكة بالتعرض إلى ما لا يجوز له التعرض له من الكسب الحرام والوقوع فِى المذلة لأجل الحصول على النفقة ووسائل العيش لا سيما بعد أن كَثُرَتْ وسائل الحضارة واتَّسعت طرق الرفاهية وأصبح ما ليس بضرورة ولا لازم كأنه من الضروريات الواجبة ويشهد لهذا حديثُ أبِى مالك الأشعرِىّ موفوعًا ليس عدوك الذِى إن قتلته كان لك نورًا وإن قتلك دخلت الجنة ولكن أعدَى عدوك ولدك الذِى خرج من صلبك ثم أعدَى عدوك مالك الذِى ملكت يمينك اهـ وقوله صلى الله عليه وءاله وسلم يأتِى على الناس زمان يكون هلاك الرجل على يد زوجته وأولاده يعيرونه بضيق المعيشة ويكلفونه ما لا يطيق حتى يورد نفسه الموارد التِى يهلك فيها اهـ

وقد نهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسألة الناس وأخبر أن المسألة لا تزال بالرجل حتى يُبعثَ وليس فِى وجهه مزعة لحم فى أحاديث أخرَى كثيرة تدل على قبح التعرض لسؤال الناس وطلب النوال منهم ولا شك أنَّ أهمَّ الأسباب التِى توقع المرء فى هذه المذلة الشنيعة هِى العيال كما لا يخفَى.

ولهذا قال الغزالِىّ فى الإحياء بعد أن ذكر مزايا وءافات النكاح ما نصه (فهذه مجامع الآفات والفوائد فالحكم على الشخص الواجد بأن الأفضل له النكاح أو العزوبة مطلقًا قصور عن الإحاطة بمجامع هذه الأمور.  فإن انتفت الفوائد واجتمعت الآفات فالعزوبة أفضل وإن تقابل الأمران وهو الغالب ينبغِى أن توزن بالميزان القسط حظ تلك الفائدة فى الزيادة من دينه وحظ تلك الآفات فى النقصان منه فإذا غلب على الظن رجحان أحدهما حكم به قال وأظهر الفوائد الولد وتسكين الشهوة وأظهر الآفات الحاجة إلى كسب حرام والاشتغال عن الله تعالى) هذا كلام الغزالِىّ رحمه الله تعالى وهو ظاهر فى أنَّ النكاح تابع لرغبة الإنسان ومصلحته فإن كان يرَى فيه المصلحة فلينكح وإلا فلا.

ثم بعد فليُنظَرْ هل المراد منه بالذات هو النسل والذرية أو إحصان الفرج والتعفف عن الحرام والحصول على الزوجة التِى تشارك الرجل فِى حياته وتساعده على الحياة المنزلية وتكون عونًا له على دينه ودنياه.

قد يكون المراد من النكاح هذه الأمور كلها إيجاد الذرية والإحصان والحصول على المعين على شؤون الحياة. ولكن الذى يظهر لمن تتبع النصوص أنَّ الغرض الأهمَّ من النكاح هو الإحصان والعفاف والحصول على المرأة الصالحة التى تكون أفضل عون للرجل على شؤون الحياة وأما الذرية ووجود النسل فأمر عرضِى بالنسبة لهذين الغرضين والأحاديث الواردة فى الترغيب بالزواج بالولود إنَّما هِى إرشاد إلى خصال الكمال فى الزوجة وليس معناها أنَّ الولد هو المقصود بالذات من النكاح بدليل قوله عليه السلام فاظفر بذات الدين فلو كانت ذاتُ الدين عقيمًا لا تلد فهِى مقدمة فى النكاح على الولود غير ذات الدين جزمًا.  بل قال عليه الصلاة والسلام ثلاثةٌ حقٌّ على الله تعالى عونهم المجاهد فى سبيل الله والمكاتب الذى يريد الأداء والناكح الذِى يريد العفاف اهـ فلم يقل الذِى يريد الولد ولو كان هو المطلوب من النكاح لكان النصّ عليه هنا أولَى فى الترغيب فى الولد لأنَّه أخبر أنَّ الله جعل العون على ذلك حقًا عليه سبحانه وليس بعد هذا فى الترغيب شىء.

وهذا يظهر جليًا أيضًا من قوله صلى الله عليه وءاله وسلم يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنَّه أحصن للفرج وأغضّ للبصر ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنَّه له وِجاء اهـ وقوله صلى الله عليه وءاله وسلم من تزوج امرأة لعزها لم يزده الله إلا ذُلًّا ومن تزوجها لمالها لم يزده الله إلا فقرًا ومن تزوجها لحسنها لم يزده الله إلا دناءة ومن تزوج امرأة لم يرد بها إلا أن يغض بصره ويحصن فرجه أو يصل رحمه بارك الله له فيها بارك الله له فيها اهـ فهذا وغيره مما لم نذكره صريح فى أن الترغيب فى النكاح إنَّما هو لأجل الإحصان والتعفف وقد صرَّح بهذا الغزالِى فى إحيائه فقال بعد أن ذكر حديث معشر الشباب إن سبب الترغيب فيه خوف الفساد فى العين والفرج اهـ

وقال هذا إشارة إلى أنَّه أى النكاح فضيلة لأجل التحرز من المخالفة تحصنا من الفساد فكان المفسد لدين المرء فى الأغلب فرجه وبطنه وقد كُفِىَ بالتزويج أحدهما اهـ بهذا ورد النصّ عن الرسول صلى الله عليه وءاله وسلم فى أحاديث كثيرة كحديث أبى برزة إنّما أخشى عليكم شهوات الغِىّ فى بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى.

فهذه الأحاديث وغيرها مما لم نذكره تشير إلى أنَّ الغرض الأهمَّ من النكاح أو الزواج هو الإحصان والبعد عن الوقوع فى الحرام وجريمة الفاحشة الموبقة لصاحبها.

وأما المقصد الآخر وهو الحصول على المرأة الصالحة التِى تشارك الإنسان فى حياته وتعينه على شؤون دينه ودنياه فهو من أهمّ مقاصد الشارع فى الزواج ولهذا عدّ المرأة المثالية فى دينها وأخلاقها وطاعتها لزوجها وحسن قيامها بشؤونه من النعم بل من أفضل ما يعطاه المرء فى الدنيا. بل جعل وجود مثل هذه المرأة مقارنًا فى الفضل لاستقامة الرجل فى نفسه وذكره لربه قال صلى الله عليه وءاله وسلم ما استفاد المؤمن بعد تقوَى الله تعالى خيرًا له من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته وإن نظر إليها سرته وأن أقسم عليها أبرته وإن غاب عنها نصحته فى نفسها وماله اهـ وقال صلى الله عليه وءاله وسلم أربع من أعطيهن فقد أعطِىَ خير الدنيا والآخرة قلبًا شاكرًا ولسانًا ذاكرًا وبدنًا صابرًا وزوجة لا تبغيه حوبًا فى نفسها وماله اهـ وفى حديث ءاخر خير ما أتيه الناس قلبًا شاكرًا ولسانًا ذاكرًا وزوجة صالحة تعينه على دنياه ودينه اهـ وفى حديث ءاخر من سعادة ابن ءادم المرأة الصالحة اهـ

وقد فضَّل الله عليه وءاله وسلم النساء القرشيات على غيرهن من العربيات لحنوهن على أولادهن فى صغرهم وحسن تدبيرهنّ لأموال الأزواج فقال صلى الله عليه وءاله وسلم خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش أحناه على ولد فى صغره وأرعاه على زوج فى ذات يده اهـ

ولأجل هذا الغرض حذَّر صلى الله عليه وءاله وسلم أن يتزوج الإنسان المرأة لمالها أو لجمالها أو لحسبها كما يفعل أغلب الناس وأخبر أنَّ ذلك قد يفوت معه المراد من الزواج وهو حسن العشرة بالقيام بحقوق الزوج وشؤون حياته لأنَّه قد تكون المرأة الجميلة الحسيبة الغنية لا خُلق لها ولا اهتمام بشؤون البيت بخلاف المرأة المتدينة العالمة بما يجب عليها من حقوق الزوج فإنَّه ينتفع بها وبتدبيرها الحسن وذلك هو المقصود الأهمّ من الزواج وأما الجمال والحسب والمال والأولاد فذاك أمر ثانوِىٌّ بالنسبة إلى هذا المطلب فرُوِىَ عنه صلى الله عليه وءاله وسلم لا تزوجوا النساء لحُسنهن فعسَى حسنهن أن يرديهن ولا تزوجوهن لأموالهن فعسَى أموالهن أن يطغيهن ولكن تزوجوهن على الدين ولأمةٌ خرقاء سوداء ذات دين أفضلُ اهـ

وقد لاحظ كثير من الأئمة هذا المقصد فى شأن النكاح وقالوا لا حَقَّ للمرأة فى الجماع[٤] بمعنى أنّه إذا لم يأتِ الرجلُ زوجته ولم يجامعها فلا يجبر عليه ولا يؤمر بالفراق. كأنَّهم لاحظوا أنَّ المراد من الزوجية ليس هو المتعة حتى يجب الفراق بعدمها بل المقصود منه هو العشرة والمعاونة على الحياة واستدلوا على هذا بحديث المرأة التِى جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وءاله وسلم تشتكِى إليه ضعف زوجها عن الجماع وأنَّه ليس معه إلا مثل الهدبة من الثوب فلم يسمع الرسول صلوات الله عليه وءاله شكواها ولم يفرق بينهما لأجل ذلك  قالوا فلو كان الجماع شرطًا فى النكاح لَفَرَّقَ بينهما فى الحين ومن هنا قالوا لا فسخ بشىءٍ من العيوب التى تمنع الوطأ وإنَّما فِى ذلك الخيار لا غير حتى فى العنة والجبّ فلو كان الغرض من النكاح الجماع لكان الفسخ واجبًا بالعيوب المانعة منه مع أنهم لم يقولوا بهذا.

ثم الذين قالوا بحقِّ المرأة فى الجماع قالوا يكفِى فى ذلك تغييب الحشفة فى الفرج بدون إنزال النطفة التِى يكون منها الولد إلا الحسن البصرِىّ فإنَّه اشترط الإنزال وهذا شىء انفرد به وحده وخالفه سائر الفقهاء. وكذلك لم يقل أحد من الفقهاء بأنَّ النكاح يُفسخ بعقم المرأة أو الرجل مما يدل على أنَّ الولد غير مقصود بالذات من الزواج.

والعيوبُ التِى أَثْبَتَ بها الخيارَ مَنْ يقول به خمسةٌ ثلاثةٌ منها يشتركان فيها وهِى الجنون والجذام والبرص ونوعان ينفرد بها أحدُهُما عن الآخر ففِى الرجل الجبّ والعنة أو الاعتراض وفى المرأة الفتق أو الرتق.

وعلى ضوء هذا التمهيد يظهر لنا حكم مسألة تحديد النسل أو تنظيمه لأن الفرع تابع لأصله ويدور حكمه مع حكمه وذلك أننا إذا حكمنا بأن النكاح من أصله غير واجب بل ولا مندوب مطلقًا فكيف نحكم على الفرع المترتب عليه والمتسبب عنه بأنّه واجب فعله أو محظور تركه. فالرجل إذا ظهر له عدم المصلحة فى وجود النسل له أو خاف من نفسه الوقوع فى التعرض لمذلة السؤال أو الحرج فى المعيشة فجائز له أن يعمل ما يحول بينه وبين الولادة أو ما يمنع عنه تكاثر الأولاد كما هو الحال والحكم فى الأصل وهو النكاح تمامًا.

قال الغزالِىّ فى الإحياء بعد أن صحح أنَّ العزل[٥] مباح يعنِى الإنزال خارج الفرج  وإنَّما هو مكروه كراهة تنزيه ما نصه لأنَّ إثبات النهِى إنَّما يكون بنص أو قياس على منصوص ولا نصّ ولا أصل يقاس عليه بل ههنا أصل يقاس عليه وهو ترك النكاح أصلًا أو ترك الجماع بعد النكاح أو ترك الإنزال بعد الإيلاج فكل ذلك تركٌ للأفضل وليس بارتكاب نَهْىٍ ولا فرقَ إذ الولد يتكون بوقوع النطفة فى الرحم ولها أربعة أسباب النكاح ثم الوقاع ثم الصبر إلى الإنزال بعد الجماع ثم الوقوف ليَنْصبَّ الماء فى الرحم وبعض هذه الأسباب أقرب من بعض فالامتناع عن الرابع يعنِى الوقوف لينصب الماء فى الرحم كالامتناع عن الثالث وكذا الثالث كالثانِى والثانِى كالأول اهـ

وهذا تحريرٌ بالغٌ من الغزالِىّ رحمه الله تعالى فى حكم استعمال الوسائل المانعة من الحمل ولم أرَ أحدًّا حرره مثله.

والأحاديثُ المؤيدةُ لهذا والمفيدةُ أنَّ الرجل له العزلُ وعدمُ الإنزال فى الرحم مخافة الولد إذا رأى المصلحة فى ذلك كثيرة جدًّا منها حديث جابر جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى عليه وءاله وسلم فقال إنَّ لِى جارية أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل فقال اعزلْ عنها إن شئتَ فإنَّه سيأتيها ما قُدِّرَ لها قال فلبث الرجل ثم أتاه فقال إنَّ الجارية قد حملتْ قال أخبرتُكَ أنَّه سيأتيها ما قُدِّرَ لها اهـ وفى روايةٍ عند الطحاوِىِّ فِى شرح معانِى الآثار قال له الرسول صلى الله عليه وءاله وسلم نعم اِعْزِلْ عنها اهـ

ومنها حديث صرمة سأل الصحابةُ النبِىَّ صلى الله عليه وءاله وسلم فى غزوة بنِى سليم عن العزل فقال اعزلوا أو لا تعزلوا ما كتب الله من نسمة هِى كائنة إلى يوم القيامة إلا هِى كائنة اهـ

ومنها حديث أبِى سعيد قال لما أصبنا سَبْىَ خيبر سألنا رسول الله صلى الله عليه وءاله وسلم عن العزل فقال ليس من كل الماء يكون الولد وإذا أراد الله عزَّ وجلَّ أنْ يخلق شيئًا لم يمنعه شىء اهـ إلى غير هذا مِن الأحاديثِ الثابتةِ الدالةِ على إباحة العزل وتَرْكِ الخيار فيه للإنسان وإنَّ أَمْرَ الحملِ تابع للقدر والعزل لا يقدم منه ولا يؤخر.

وأما من قال لا يجوز العزل عن المرأة إلا بإذنها فاستدلوا لقولهم بحديث عمر نهَى رسول الله صلى الله عليه وءاله وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها وهو حديث ضعيف لا يجوز أن يستدل به على منع ما أباحته النصوص الصحيحة. وقد استوفيت الكلام على سنده وطرقه فى موضعٍ ءَاخَرَ ولا أجد هنا نشاطًا للتوسع فى الكلام عليه.        

وخلاصةُ البحثِ أنَّ للرجل استعمالَ الأدوية التى تُفسد النطفة عند وصولها إلى الرحم أو استعمالَهَا هو لنفسه أو استعمالَ الغلافِ المانعِ مِن صَبِّ الماء فِى الرحم مباشرة أو استعمالَ المرأةِ نَفْسِها ما يمنع عنها الحمل ولا ينبغِى الجدال فى هذا الأمر وكثرة الخوض فيه بالقيل والقال وإنَّما يبقَى النزاع فى هذه المسألة فى ثلاثة أمور وسأتعرض لها هُنا ليكوَن بَحْثُنَا معينًا جامعًا كافيًا

وهذه الأمور الثلاثة هِى

أ- النطفةُ إذا استقرتْ فِى الرحم ولم تدخلْ فِى طَوْرِ التكوين الكامل هل يجوز اسقاطها أم لا.

ب- الإجهاضُ وهو إسقاطُ الجنين كاملًا هل يجوزُ أيضًا.

ج- تعاطِى الأدويةِ التِى يترتبُ عليها العقمُ بالمرة فى الرجل أو المرأة هل يجوز كذلك.

أما الأمرُ الأولُ وهو حكمُ إسقاطِ النطفة إذا استقرتْ فِى الرحم ولم تدخل فى طور التكوين فقال بعض العلماء لا يجوز لأنَّ أول مراتب وجود الولد نزول النطفة فى الرحم واختلاطها بماء المرأة وبذلك تكون قد تهيأت واستعدت للحياة وإفسادُ ذلك يشبه الوأد المُحرم بخلاف ما إذا كانت النطفة الفاسدة لا يتكون منها ولد أو لم تصل إلى الرحم بالمرة فهذا لا محذور فيه لأنَّ الولد لا يخلق من ماء الرجل وحده بل من الزوجين جميعًا فماء المرأة ركن فى الانعقاد فجرَى الماءان مَجْرَى الإيجاب والقبول فى الوجود الحكمِىِّ وقالوا كما أنَّ النطفة فى الفقار لا يتخلق منها الولد فكذا بعد الخروج من الإحليل ما لم تمتزج بماء المرأة أو دمها.  فهذا مَلْحَظُ مَن رأى منع إسقاط النطفة من الرحم قبل طور التكوين وهو غير صحيح ولا مُسَلَّم فى نَظَرِى والصواب أنَّ المرأة إذا لم تخش الضرر يجوز أن تعمل الوسائل لإسقاط النطفة من رحمها ما لم تصل إلى طور التكوين ونفخ الروح فإذا بلغت طور التكوين الكامل وصارت مستعدة لنفخ الروح فيها حرم ذلك بلا خلاف كما سيأتِى.

واستدلالهم على منع إسقاط النطفة بأنَّه يشبه الوأد خطأ وذلك أنَّ الوأد لا يكون إلا فى الكامل التكوين وذلك لا يتم إلا بعد أن يمر على النطفة أكثر من أربعة أشهر.

وقد اعترض اليهود فى زمن عمر بن الخطاب رضِى الله تعالى عنه على المسلمين فى شأن العزل عن نسائهم وعدم تركهم الماء يصل إلى الرحم وقالوا لهم هو الموءدة الصغرَى فسأل عمر عليًا رضِى الله عنهما عن ذلك فقال لا تكون موءودة حتى تمر بالتارات السبع وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ فعجب عمر من قوله وقال جزاك الله تعالى خيرًا وفى رواية أخرى أطال الله بقاءك قال الحافظ فى الفتح وإسناد هذه القصة جيد.

وكذلك أنكر ابن عباس أن يكون العزل وأدًا وقال المنِىُّ يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظمًا ثم يُكْسَى لحمًا قال والعزلُ قبل ذلك كله اهـ فالنطفة قبل أنَّ تمر عليها هذه الأطوار لا يكون فيها هذا الحكم بدون خلاف ولهذا أقول لا مانع من إفسادها وإسقاطها إذا أمِن الضرر، وكثيرٌ من النساء يتعاطين وسائل لإسقاط النطفة فيقعن فى محذورٍ وضررٍ عظيمين فيجب أن تكون السلامة مضمونة فى ذلك وإلا حرم تمامًا.

وأما الأمر الثانِى وهو إجهاض الجنين بعد أن يتم خلقُهُ ويُنفخ فيه الروح ولم يبقَ له إلا وقتُ الولادة فهذا حرامٌ بلا خلاف من أحد والذِى يفعل ذلك يكون جانيًا فى حكم الشرع قاتلًا للروح تمامًا لا فرق بينه وبين قاتل الرجل أو المرأة.

ولهاذا يجب على من اعتدَى على امرأة حامل فأجهضها الدية ومن الجهل المركب والفسوق المضاعف والإجرام المكرر أن المرأة تحمل من الزنا فإذا شعرت بالجنين قد تمَّ ولم يبق له إلا أن يولد عملت على الإجهاض تخلصًا منه. وبهذا تكون ارتكبتْ إثمين كما قُلنا أحدهما أعظم من الآخر الزنا وقتلُ الروح وكان يكفيها إثم وجريمة واحدة وهِى الزنا.

وأما الأمر الثالث وهو تعاطِى الوسائل والأدوية التِى يترتب عليها العقم بالمرة فلا يجوز وقد اشتدتِ العزوبةُ على بعض الصحابة وأرادوا الاختصاءَ فنهاهم الرسولُ صلى الله عليه وءَالِهِ وسلم عن ذلك والسرُّ فى هذا النَّهْىِ أنَّه قد يتوارد الناس على العقم فتقل الأمة وتضعف عند محاربة عدوها بخلاف ما إذا أُوقِفَ النسلُ إلى وقت الحاجة فإنَّ ذلك يجوز كما بيناه ولهذا أجاز العلماء معالجة تسكين الشهوة بالأدوية لمن ليس له قدرة على النكاح إلى أن يجدَ الاستطاعةَ والسبيلَ.

وقد أمر الله تعالى بالاستعفاف عند عدم القدرة على النكاح وما كان وسيلة إلى هذا الاستعفاف فيجوز استعماله لأنَّ الوسائل لها حكم المقاصد وقد أرشد صلى الله عليه وءاله وسلم إلى الصوم لمن لم يجد الاستطاعة وما كان مثلَهُ فى إضعاف الشهوة فيُعطَى حُكْمَهُ ويندرج فى الأمر به.

وليكُنْ هذا ءاخر بحثنا وأرجو أن يكون فيه غنية للسائلين وبالله التوفيق.

والله أعلم.


[١] المرجع كتاب حكم تحديد النسل للحافظ عبد الله الغمارِىّ.

[٢] ولكن مذهب الكافة أنَّه لا يجب ولو مع خوف العنت فالأمر به عند العلماء كافة أمر ندب لا إيجاب قال النووِىّ فلا يلزم التزوج ولا التسرِّى سواء خاف العنت أم لا. هذا مذهب العلماء كافة ولا يعلم أحد أوجبه إلا داود ومن وافقه من أهل الظاهر ورواية عن أحمد قلتُ وقال أهل الظاهر إنّما يلزمه التزويج فقط ولا يلزمه الوطء اهـ

[٣] ويشهد لهذا حديثُ أبِى مالك الأشعرِىّ موفوعًا ليس عدوك الذِى إن قتلته كان لك نورًا وإن قتلك دخلت الجنة ولكن أعدَى عدوك ولدك الذِى خرج من صلبك ثم أعدَى عدوك مالك الذِى ملكت يمينك اهـ وحديثُ أبِى سعيد الولد مجبنة مبخلة محزنة مجهلة اهـ

[٤] وهو المعروف من مذهب الشافعية.

[٥] أباح العزل الشافعية ولو من غير إذن المرأة وأجازه الثلاثة مع إذنها.  وقد ذهب إلى الرخصة فيه مطلقًا جماعة من الصحابة منهم علِىّ وسعد بن أبِى وقاص وأبو أيوب وزيد بن ثابت وجابر وابن عباس والحسن بن علِىّ وخباب بن الأرت وأبو سعيد الخدرِىّ وابن مسعود وصحح هذا المذهب ابن القيم.