سرّ تعدّد الزوجات فِى الإسلام (٢)[١]

قبسات من فوائد عالم المالكية فى مصر
الشيخ يوسف الدَجْوِى
المتوفى سنة ١٣٦٥ هـ رحمه الله تعالى

إذا نظرت بعد ما سبق من الأنظار الكثيرة إلى أن المرأة تكون نفساء نحو شهرين وأن الرجل قد يكون فى عنفوان شبابه عظيم الشبق قوِى الغلمة لا يصبر على مفارقة النساء مع ذلك السائق الذِى يقويه نزق الشباب وطيش حداثة السن تبين لك من الحكمة ما يثلج له صدرك وتحمد الله على ما حباك به فى دينك.

ثم تضم إلى ذلك أن الرجل قد يسافر متاجرًا مثلًا إلى بعض البلاد النائية فيمكث بها شهورًا أو دهورًا فلو حجرنا عليه أن يتزوج لأدركه من العناء ما أحرج صدره وشوش أمره.

وإنِى أظن أنه لم يُسَهِّلْ على غير المسلمين المانعين تعدد الزوجات ذلك مع هذا الحجر الذِى فى دينهم إلا عدم وقوفهم عند حدود الدين وفقد تحرجهم من أن يخالفوه، وليتهم اقتصروا من الخليلات غير الشرعيات على أربع، ولولا فعلهم ذلك لضاق عن تحمل المشاق اصطبارهم ولم تسعه قدرتهم واختيارهم.

هذا ولو نظرنا لمصلحة المرأة لا لمصلحة الأمة لوجدنا ذلك خيرًا لها أيضًا فإننا نسائل من يمنع التعدد هل من مصلحة المرأة الفقيرة التِى لاتجد من ينفق عليها إذا خطبها موسر كبير ومعه امرأة أخرى ألا تتزوجه.  هل من مصلحة المرأة الغنية الواسعة الثروة التِى يخونها أنظارها ويغشها أمناؤها ويصانع فيها من تحسن إليهم وهِى لا تستطيع حيلة ولا تهتدِى إلى إصلاح حالها سبيلًا إلا أن تتزوج برجل معه امرأة أُخرى من ذوِى الدين والعمل والكفاءة والأمانة. هل من مصلحة المرأة التِى نبتت بين أُسرة فقيرة منحطة إذا خطبها وزير أو أمير  لجمالها أو مزية فيها وهو ما يعود عليها وعلى قومها بالشرف الرفيع والعز المنيع ألا تتزوجه إذا كانت معه امرأة أُخرى.  هل من مصلحة المرأة التِى ساء حظها فكانت بين من لا يخافون الله (وهم كثير) وليس لها من الجاه ما يمنع شرهم ويحسم ضررهم وخافت على نفسها من أولئك الأشرار وما عسَى أن يكون من موجبات العار ورأت أن فى استطاعتهم أن يلعبوا بها حتى أمام القضاء الذِى هو نصير الضعفاء بما لهم من شهود الزور وإتقان الباطل واستعمال الحيل، هل من مصلحتها ألا تتزوج من يريد أن يرفعها من حضيض المهانة إلى أوج الرفعة ويحفظها بجاهه بين قومه فيجعلها مصونة بعد الابتذال مكرمة بعد الامتهان إذا كانت معه امرأة أخرى. إلى غير ذلك مما يعرفه المتبصر ويعترف به المنصف.

اللهم وَضُحَ الصبح لذِى عيني وتبين أن شرعك القويم كما قلت فِى كتابك الكريم (تنزيل من حكيم حميد) ولكنها الأهواء عمت فأعمت.

وأما ما يحتجون به من أن كثرة الزواج توجب الأحقاد بين الأولاد فهو احتجاج باطل ونظر عاطل فإن ذلك راجع إلى فقد العدل من الآباء بين الزوجات وعدم المساواة بين الأولاد وفقد التربية الصحيحة من الجميع وهِى أهم ما يجب النظر فيه الآن لو وفق الله وزراءَنا لمصلحة الأمة الصحيحة ومداواة الأدواء من أصولها واحتباس جذور الشقاء من جذورها.

وحسبك مجلبة للشرور تلك الصفات الخبيثة التى ينتجها سوء التعليم مثل الكِبر والطمعِ ومحبة الظلم والاستئثار والحقد والحسد والبخل وإجابة النفس فى كل ما تشير به وتميل إليه ما ليست نتائجه قاصرة على أولاد الضرائر بل متى وجد التغالب والتكالب وغلبة الأهواء والإفراط فى تنازع البقاء فيقتل الأخ أخاه الشقيق والابن أباه الشفيق وهو نتيجة استحكام الصفات الخبيثة فى النفوس وعدم رياضتها بمحاسن الأخلاق.

ولست أريد بالتربية الحسنة التى تمنع من اقتراف الجرائم وتسوق إلى جميع المكارم إلا أن تغرس تعاليم الدين الحنيف فِى النفوس حتى تراقب الله فى خلواتها وجلواتها علمًا بأنه يعلم (خائنة الأعين وما تخفِى الصدور) فإسناد ما يقع من تلك الهنات إلى ذلك خلط وخبط شأن من لا يبحث عن علل الأشياء الصحيحة وأسبابها الحقيقية.

ولو رجعوا إلى كتب الأخلاق التى تبين ما جبلت عليه النفوس وما تقتضيه الطبائع إذا لم تُقْمَعْ بالرياضة ولم تهذب بالدين والعلم أو إلى التاريخ الذِى امتلأ ما يكفِى الناظر وينبه القاصر لم يقولوا ما قالوا.

هذا وقد رأيت أن أتكلم في المسألة من الوجهة النقلية أيضًا تتميمًا للموضوع فلعل بعض الناس على رأى البابا (بروغلى) الذى يقول إنَّ تعدد الزوجات لم يوجد إلا في المساجد مبينًا خطأه فى ذلك فإن كثرة الزواج كانت قديمة فى الشرائع الوضعية والسماوية فقد كان لداود عدد كثير من النساء ولابنه سليمان عليهما السلام أكثر منه وكانت العرب لا تقف عند حدّ فى الزواج. ومن الأحاديث المشهورة بين العلماء أن غيلان أسلم على عشرة نسوة فقال له صلى الله عليه وسلم أمسك أربعًا وفارق سائرهن.

وكان الجرمانيون يتفاخرون بكثرة الزواج ويتكاثرون فيه بل سنذكر لك ما ستعجب له كل العجب وهو أن الإنجيل الذِى بأيدِى النصارى اليوم ليس فيه نص صريح يوجب الاقتصار على واحدة بل كثرة الزواج هى شريعة التوراة فتكون شريعة الإنجيل أيضًا فإن فيه أنّ عيسى عليه السلام يقول (ما جئت لأنقض الناموس) أى التوراة بل كل من لا يعمل به فعليه اللعنة (وجميع الشعب يقول ءامين).

فإذًا تعلم من هذا أن النبِى صلى الله عليه وسلم لم يجِئ بتعدد الزوجات وحده بل جاء رحيمًا حكيمًا فأباح وأوقفه عند حدّ مخصوص للرحمة بالرجال والنساء جميعًا كما علمتَ، فلم يترك الأمر فوضَى لا يربطه رابطٌ ولا يضبطه ضابطٌ مما يوافق أهواء الرجال نظرًا إلى أنه إذا لم يقف عند حدّ أضرَّ بالنساء ضررًا بليغًا ولم يبحه إلا للقادر على القيام بواجبه لكونه مصلحة له فى شخصه بل وللهيئة الاجتماعية. وقد تبين لك ذلك في مقالنا الأول غاية البيان.       

ولما كان الأمر غير منضبط بل يختلف باختلاف الأفراد لم يجعل أمر ذلك بيد القاضِى لأنه يرتبط بأشياء كثيرة لا يعلمها إلا شخص الإنسان مثل أحواله النفسية التى تقضِى عليه بالعدل أو تميل به إلى الظلم والجور مثل الأحوال الشخصية التى تعود عليه ولا يعرفها أحد سواه وليس يفيد فى هذا إلا إيقاظ باعث الخوف من الله والمراقبة له عز وجل فهِى التى تمسك من النفوس ما لا تمسكه القوانين الوضعية وهو ما تمتاز به الشرائع الإلآهية ولا يوجد في القوانين البشرية التى ليس فى وسعها أن تمنعك عما تريد متى وجدت إليه سبيلًا ولم تَخْشَ شاهدًا أو دليلًا.

ولذلك عقب الله ءاية الزواج بقوله (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) كما حضَّ عليه الصلاة والسلام بقوله (من كان عنده امرأتان ولم يعدل جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل) إلى غير ذلك وهو غاية الحكمة فى تحصيل المصلحة العامة والاحتياط فى جزئيات المسائل أفراد الأشخاص.

(وقد قال الكنت هنرِى كيستلى) مبتهجًا بما جاء فى الشرع المحمدِى من حقوق المرأة أنَّ لها أنْ تشترط على زوجها عدم التزوج بغيرها وعدم التسرِى وألا يغيب أيامًا كثيرة عن بيته بدون إذنها وإنْ ءَاذاها أو سبها طلق عليه الحاكم جبرًا بخلاف المسيحية إلى أن قال وبهذا يرَى القارئُ مقدار اهتمام النبىّ صلى الله عليه وسلم بمنع عوامل الفساد عن التفشِى بين المسلمين لكي يعيش الأزواج والآباء فى راحة ونعيم.

فخلاصة الموضوع أن النبِىّ صلى الله عليه وسلم أباح كثرة الزواج لما يترتب عليه من المصالح الكثيرة للرجال والنساء وما يوجد من تقدم العمران ويفيد الهيئة الاجتماعية من الفوائد مالا مزيد عليه ثم أوقفه عند حد محدود نظرًا إلى أن الرجال إذا تُرِكُوا وما يشتهون لَعِبَتْ بهم الأهواءُ فأضروا بالنساء ثم أمرهم بالعدل وحظر على من يخشى من نفسه بالجور ألا يتزوج إلا واحدة. ورأى من الحكمة ألا يجعل للحاكم تدخلًا فى ذلك لأنه يختلف باختلاف الأفراد ويرتبط بأمور كثيرة لا يتبينها على الحقيقة إلا صاحبها فجعل الأمر موكولًا إليه فيما بينه وبين الله.

ومن يعانِى وضع القوانين وأسرار التشريع يعلم أن الأفراد تختلف فى كلياتها اختلافًا كبيرًا لا يتأتَى ضبطه فَيُعْطَى منه الفرد حريةً تسمح له أن يتغلب فيها كما يتغلب فى أحواله الأخرى بحق أو باطل مادام لم يتجاوز حد الحظر العام الذى حدده له القانون وهذا جاء فى القواعد العامة كلها التي تحدد حدودًا تحظر مجاوزتها وتمنح الحرية فيما دونها للأفراد يتقلبون فيه كيف شاءوا على سنن الحكمة أو الأهواء بطهارة النفوس أو دنسها بصحة الأسباب أو فسادها بحسن النية أو سوء القصد بتمام الاستعداد أو نقص الوسائل ومزيد الضعف إلى غير ذلك،  وليس يمكن غير هذا ولذلك كان للإنسان جزاءٌ ءَاخَرُ على ما عمل فيما بينه وبين الله بمقتضى تلك الأحوال التى لا يتسلط عليها القانون ولا يتناولها سلطان الحدود الشرعية الظاهرة. قد عرفت أن الدين يحتاط فى هذه أبلغ الاحتياط بكثرة الوعيد فيه حتى يسيطر على القلوب ويستولِى على النفوس وبذلك تستقيم المصالح العمومية والأحوال الشخصية فَقُلْ لى بربك أىُّ حكمةٍ وأىُّ نظرٍ أبلغُ من ذلك.

ضاق الكلام بنا من عظم ما اتسعا

هذا قليل من كثير وإنه لفِى غاية الوضوح ولكنهم أخطأوا الحجة وتنكبوا المحجة (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ).

بذلت لكم يا أهل مصر نصيحتِى    فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر

والله تعالى أعلم.


[١]المرجع مجلة الاسلام السنة التاسعة ١٣٠٨ه.