بيان بطلان الشبه التِى احتج بها مَنْ أباح توسعة المسعى(٢) [١]

قبساتٌ من فوائد العالم الشهيد أحمد صادق الدمشقِىّ
رحمه الله تعالى

الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وسلم.

الشبهة الثانية

قال مبيحو التوسعة (إن قاعدة جبل الصفا وجبل المروة أعرض من الظاهر وإننا إذ نوسع المسعى فإننا نسعى بين الصفا والمروة ولم نخرج عنهما).

الجواب هذه ثانِى أقوَى شُبَهِ مبيحِى التوسعة وهذه الشبهة أيضًا فيها تدليس وخداع من القائمين على توسعة المسعى للمسلمين لأنهم يَعلمون ويشاهدون ولديهم جميع المخططات التى تبين أنّ الصفا ليس جبلًا مستقلًا حتى تكون له قاعدة أعرض من القمة بل هو جزء من جبل أبى قُبَيس وجبل أبى قُبَيس كبير جداً ومتصل من الجهة الشرقية بجبل قُعَيْقِعان تحت الأرض فإنهم عندما حفروا حول الصفا وجدوا أنّ تركيب صخور الصفا وصخور أبى قُبَيس واحد ولا يوجد أى فاصل بينهما وهذا يدل بشكل واضح أنّ الصفا هو تلة صغيرة من تلال كثيرة وكبيرة تسمى بمجموعها جبل أبى قُبَيس فلا يمكن أن نقول إنّ لكل تلة من هذه التلال قاعدةً أعرضَ تحتَ سطح الأرض وهذا الكلام بتمامه ينطبق على المروة الذى هو جزء من جبل قُعَيْقِعان وإثبات هذا الكلام أنّ الصفا والمروة ليسا جبلَين مستقلين وأنه ليس لهما قواعد أعرض من الظاهر منهما تدل عليه أدلة كثيرة سأسردها باختصار

  1. هذا أمر واضح ومشاهَد للعِيان لكلّ مَن زار مكة ودقق فى هذا الموضوع وخاصة بعد إزالة الفنادق التى كانت على جبل قُعَيْقِعان وقد صورتُ كلَّ هذه المشاهد تصوير "فيديو" وهذا التصوير موجود ضمن(سى دِى) مرفق بكتابِى.
  2. إذا قلتم إنّ قاعدة الصفا والمروة عرضًا أعرضُ مما هو ظاهر منهما ويصح السعى بين القواعد أيضًا فإننا نقول قد اتفق الجميع أنّ الصفا يمتد طولًا حتى الميل الأخضر وأنّ المروة يبدأ من عند الميل الأخضر الثاني وأنّ ما بين الميلين الأخضرين هو الوادى بين الجبلين طولاً وهذا أمر يعرفه الجميع ومذكورٌ فى جميع كتب التاريخ والفقه فقد كانت السيدة هاجر تمشى نزولًا عن الصفا ثم تهرول بين الجبلين ثم تصعد مشيًا على المروة فيلزم من هذا الكلام أنّ السعى يَصِحُّ إذا سعينا فقط بين الميلين الأخضرين!!!
  3. إنّ الصفا والمروة لم يكن النبى صلى الله عليه وسلم ولا أحدٌ فى عصره يسميهما بلفظ (جبل الصفا) (جبل المروة) إنما هذه التسمية بدأت مع مرور العصور حتى أصبح هو الاسم المعروف فى زماننا بل إن جميع الناس فى عصر الصحابة كانوا يسمون الصفا بما يدل على حقيقته وإليك طائفةً من هذه الأحاديث

 بل إننا لو حفرنا أساسات الجبلين لوجدنا أنّ الجبلين متصلين فيما بينهما وهذا يعنى بحسب قاعدة اتباع أصل الجبل أنه مَن لم يَسْعَ فلا إشكال عليه وبهذا نبطل السعى من أساسه فهل ترضون بهذا الكلام؟!

- أخرج الشيخان([٢]) عن ابن عباس صلى الله عليه وسلم قال (لمّا نزلت ]وأنذر عشيرتك الأقربين[ صَعَّد النبى صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي يا بنى فِهْر يا بنى عَدِى لِبُطون قريش حتى اجتمعوا فجَعَلَ الرجلُ إذا لم يستطع أن يَخرج أرسل رسولاً لِيَنظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال صلى الله عليه وسلم  أرأيتكم لو أخبرتكم أنّ خيلاً بالوادى تريد أن تُغِير عليكم أكنتم مُصَدِّقِىّ قالوا نعم ما جَرّبنا عليك إلاّ صِدقًا قال فإنِى نذير لكم بين يدَى عذاب شديد فقال أبو لهب تبًّا لك سائرَ اليوم ألهذا جمعتنا فنزلت ]تبت يدا أبى لهب وتب  ما أغنى عنه ماله وما كسب[) وكذلك بقيةُ روايات الحديث من طريق أبى هريرة وعائشة كلُّها بلفظ (الصفا) دون تسميته بالجبل.

- وهذا الحديث فِى روايةٍ ثانية([٣]) عن قَبِيصة بن المُخارِق وزهير بن عَمرو بلفظ (انطلق نبى الله صلى الله عليه وسلم إلى رَضَمةٍ مِن جبلٍ فَعَلا أعلاها حجرًا ثم نادى) ورواها إبراهيم الحربِى فِى غريب الحديث برقم (١٢٧٨) بلفظ (رَضَمةِ جبلٍ) ثم قال (قوله إلى رَضَمة جبلٍ أخبرنى أبو نصر عن الأصمعِىّ الرِّضام حجارة وصخور عظام).

 - وفى رواية([٤]) بلفظ (رَضْفَةٍ فعلا أعلاها حجرًا) قال الثعالبِىُّ فِى فقه اللغة  (الرَّضْفةالحجر فيسخن به القدر أو ما يكبب عليه اللحم)

- وفى رواية([٥]) بلفظ (ربوةٍ مِن جبلٍ فعلا أعلاها حجرًا) قال الثعالبِىُّ فى فقه اللغة وهو يعدد مراتب ارتفاع الأرض وتسمياتها (فإذا كان طولها فى السماء مثلَ البيت وعرض ظهرها نحو عشر أذرع فهو التل وأطول وأعرض منها الرَّبوة والرَّابية).

- وفى روايةٍ([٦]) بلفظ (علا صخرةً من جبلٍ فعلا أعلاها حجرًا)

- وفى رواية([٧]) بلفظ (رَخْمةٍ من جبل فعلا أعلاها حجرًا)

- وفى رواية([٨]) بلفظ (صِمَّةً من جبل فعلا أعلاها حجرًا)

- وفى رواية([٩]) بلفظ (رهضةً من جبل فعلا أعلاها حجراً)

- وفى رواية([١٠]) بلفظ (وَضْمةً من جبل فعلا أعلاها حجراً)

فانظر إلى وصف الصفا فى عصر النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين فكلُّ راوٍ ذكر الصفا بوصف وكلُّهم مجمِعٌ على معنىً واحدٍ أنّ الصفا جزء صغير مِن جبلٍ وليست جبلًا مستقلًا وثمة أحاديث كثيرة أخرى فيها هذا المعنى ولكنى اخترت هذا الحديث برواياته واكتفيتُ به.

  1. ذكرتْ جميعُ كتب التاريخ واللغة والمعاجم الجغرافية التى ذكرتْ الصفا والمروة أنّ هذين الجبلَين ليسا جبلَين مستقلَّين بل هما جزء صغير من جبلَين كبيرَين وأنّ تسميتهما بالجبل لتمييزهما عن بقية أجزاء الجبل لأنّ لهما تعلقاً بأحكام الحج والعمرة فى الجاهلية وفى الإسلام حتى إنَّ بعض المراجع ذكرتْ أنّ الصفا والمروة صخرتان كبيرتان من جبلين.

 والآن سأسرد بعض كلام المراجع التى ذكرت هذه المعانى دون شرحٍ لكل مقولة اكتفاءً بما أوضحته فى هذه المقدمة مع العلم أنه لا يوجد ولو مرجعٌ واحد ذكر أنّ جبلى الصفا والمروة هما جبلان مستقلان قائمان بنفسَيْهما.

-  قال الإمام النووِىّ فى تهذيب الأسماء واللغات (الصفا هو مبدأ السعِى مقصور وهو مكان مرتفع عند باب المسجد الحرام وهو أنفٌ من جبل أبى قُبَيس وهو الآن إحدى عشرة درجة فوقها أَزَج([١١]) كإيوان وعرض فتحة هذا الأَزَج نحو خمسين قدمًا وأمّا المروة فلاطئة([١٢]) جدًا وهِى أنفٌ من جبل قُعَيْقِعان وهى درجات وعليها أيضًا أَزَجٌ كإيوان وعرضُ ما تحت الأَزَج نحو أربعين قدمًا).

-  قال الإصطخرِىّ فى المسالك والممالك (والصفا مكان مرتفع من جبل أبى قُبَيس والمسعى ما بين الصفا والمروة والمروة حجرٌ مِن جبل قُعَيْقِعان).

-  قال ابن فضل الله العمرى فى مسالك الأبصار (أمّا الصفا فحجرٌ أزرق عظيم فى أصل جبل أبى قُبَيس وأمّا المروة فحجر عظيم).

-  قال الفيروزآبادى فِى القاموس المحيط مادة (صفو) (والصَّفا من مَشاعِرِ مَكَّةَ بِلِحْفِ أبى قُبَيس) اهـ

-  قال ابن عساكر فى تاريخ دمشق (فأشرف أبو ريحانة على أبى قُبَيس وهو الجبل الذى فيه الصفا الحديثَ.

-  قال ياقوت الحَمَوِىُّ فى معجم البلدان مادة (صفا) أمّا الصفا فمكان مرتفع مِن جبل أبى قُبَيس بينه وبين المسجد الحرام عرض الوادى الذى هو طريق وسوق اهـ

-  وقال ابن عبد رَبِّه فى العِقد الفريد  (ثم الصفا فى أصل جبل أبى قُبَيس).

-  قال البَهُوتِىّ الحنبلِىُّ فِى كشاف القناع (المروة وهى أنفُ جبلِ قُعَيْقِعان).

-  قال الشَّروانِىُّ الشافعِىّ فى حاشيته (المروة وهى فى طرف جبل قُعَيْقِعان).

وأخيرًا نقول كُلُّ الصفا والمروة ليسا مُرادَين بحدِّ ذاتهما إنما الصفا والمروة علامتان على مكان السعِى فلو أننا أزلنا هاتين العلامتين لبقىَ مكان السعى كما هو وكذلك لو أحضرنا الأحجار وأضفناها للصفا والمروة حتى أصبحا كبيرَين لَمَا اتسع مكان السعى وإنما لبقى مكان السعى كما هو وكذلك لو نقلنا كلَّ حجارة الصفا والمروة حتى سابع أرض إلى دمشق فهل يصبح السعى بدمشق؟! قطعًا با فإذًا الصفا والمروة دليل على مكان المسعى وقد حصل بيانُ المكان بهما فلا نقول إننا سنبحث عن تتمة أحجارهما تحت الأرض ولهذا المعنى أشار ابن عاشور فى التحرير والتنوير (وشعائر الله لقبٌ لمناسك الحج جمع شَعِيرة بمعنى مُشعِرَة بصيغة اسم الفاعل أى مُعلِمَة بما عيّنه الله).

عِلمًا أنّ فكرة إزالة الصفا والمروة قد اقترحتها اللجنة التنفيذية لتوسعة المسجد الحرام فى عام 1377هـ فرفضتها لجنة الشيوخ المشرفة على عملها  لأسباب ذكرتها بقولها (يتعين ترك الصفا والمروة على ما هما عليه أوّلًا ويسعنا ما وسع مَن قبلنا فى ذلك ولو فُتحت أبواب الاقتراحات فى المشاعر لأدى ذلك إلى أن تكون فى المستقبل مسرحًا للآراء وميدانًا للاجتهادات ونافذةً يُولَج منها لتغيير المشاعر وأحكام الحج فيحصل بذلك فساد كبير) ([١٣]) وهذا يدلنا على مدى الفرق فى الفهم والحكمة بين المسؤولين عن الحرم وقتَها وبين المسؤولين عن الحرم الآن.

والله تعالى أعلم.


[١] المرجع كتاب حكم السعِى فى المسعَى الجديد أنه باطل للشيخ أحمد صادق.

([٢]) البخارى برقم (٤٤٩٢) ومسلم برقم (٣٥٥)

([٣]) أخرجها مسلم برقم (٣٥٣) وأحمد فى مسنده برقم (١٥٩٥٥) والنسائى فى الكبرى برقم (١٠٨١٥) وابن منده فى الإيمان برقم (٩٥٣) وغيرهم كثير وأغلب رواة الحديث يذكرون هذا اللفظ.

([٤]) أخرجها أبو عوانة فى مسنده برقم (٢٠١).

([٥]) أوردها السيوطى فى تفسير الآية وعزاها لابن مردويه.

([٦]) أخرجها ابن مَنْده فى الإيمان برقم (٩٥٥) والطبرى فى تفسير الآية.

([٧]) أخرجها الطبرانى فى المعجم الكبير برقم (٩٥٦).

([٨]) أخرجها ابن أبى حاتم فى تفسيره برقم (١٦٧٧٦).

([٩]) أخرجها أبو نُعَيم فى معرفة الصحابة برقم (٢٦٩٦).

([١٠]) أخرجها البخارى فى التاريخ الكبير برقم (١٤١١).

([١١]) الأَزَج بيت يُبنى طُولاً مقوس السقف انظر المعجم الوسيط ولسان العرب مادة "أزج".

([١٢]) اللَّطْء لُزوق الشيء بالشيء وأَكَمة لاطئة أي لازقة انظر لسان العرب مادة "لطأ".

([١٣]) فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ ٥/١٣٩.