جواب سؤال فى مسألة ثبوت هلال رمضان هل تكون بالحساب أم بالرؤية[١]

قَبَساتٌ من فوائد عالم مكة وشيخها
السيد علوِىّ بن عباس المالكِىّ
المتوفى سنة ١٣٩١هـ رحمه الله تعالى

نص السؤال. ما قول فضيلة علامة الحرمين الشريفين السيد علوِى بن عباس المالكِىّ الحسنِى والعلماء الأعلام ببلد الله الحرام وسائر جهابذة الفقه الدينِىّ الإسلامِىّ فى أقطار الإسلام فى فكرة قاضِى القضاة بالمملكة الأردنية حول توحيد الأعياد والمواعيد لمناسك الحج بين جميع الدول العربية والإسلامية.

الجواب. الحمد لله القائل {ويسئلونك عن الأهلة} والصلاة والسلام على السيد المبعوث بأشرف ملة وعلى ءاله وأصحابه البدور الأجلة الذين قاموا بتقدير الأدلة وتحرير مسالك العلة.

أما بعد فقد وجه إلِىّ مجلس الإفتاء العلمِى بتريم حضرموت هذا السؤال الجامع عن اختلاف المطالع بتحرير هو الدَّرُ النظيم ولست لما وجهه إلِىّ أهلاً غير أنه قد يرعى الهشيم فاستعنت بالله على التقييد ما تيسر وتقريب ما عندِى تحرر فأقول مستعينًا بالله الهادِى

إن اختلاف المطالع بين البلدان من الأمور الثابتة بالمشاهدة وقد توافق فى ذلك الشرع والعقل لأن العقل السليم لا يفارق الدين المستقيم.

لقد بنى الشرع أحكامًا على ذلك فمن ذلك معرفة من تقدم أو تأخر موته فى المواريث ومن ذلك اعتبار مطلع مكة فى الحج باعتبار الوقوف بعرفة دون مطلع غيرها ومن ذلك اعتبار يوم النحر وهو العاشر ظرفًا لنحر أو ذبح الأضحية باعتبار عيد كل قوم ورؤيتهم ومن ذلك اعتبار أوقات الصلوات فلكل قوم زوالهم وغروبهم وشروقهم وإلا لوجبت صلاة الظهر على جميع الناس فى حين أن الزوال لم يكن عند قوم حينئذ بل ربما كان ليلًا فإذا رجعت إلى الواقع ونفس الأمر نجد أن اختلاف المطالع معلوم بالضروة واختلاف الأوقات باختلافها أمر مشاهد متعين سيما بعد وجود المراصد الفلكية والطائرات الجوية والأجهرة اللاسلكية والراديو وغير ذلك.

بل إن بعض البلاد القطبية يستمر فيها ظهور الشمس شهرين أو ثلاثة وقد تخفى مثل ذلك عند مقابلهم وكيف يكلف قوم بالصيام برؤية هلال فى بلد بعد الغروب وذلك الوقت عندهم مطلع الفجر هذا مستحيل والشرع لا يأتى بمستحيل.

ويؤيد ذلك من النقل حديث ابن عباس رضى الله عنهما ولفظه عن كريب أنَّ أم الفضل بعثنه إلى معاوية بالشام قال فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل علِىّ رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة فى ءاخر الشهر فألنِى عبد الله بن عباس ثم ذكر الهلال فقال متى رأيت الهلال فقلت رأيناه ليلة الجمعة فقال أنت رأيته فقلت نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية فقال لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه فقلت ألا تكتفِى برؤية معاوية وصيامه فقال لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه الجماعة إلا البخارِىّ وابن ماجه انتهى.

فهذا الحديث يؤيد القول باختلاف المطالع مع مراجعة كُريب له على اتساع أفق فهم أهل العلم فيه لاحتمالات بعضها قريب وبعضها بعيد ولسنا بصدد تمحيص ذلك فكل قوم مخاطبون بما عندهم وانفصال الهلال عن شعاع الشمس يختلف باختلاف الأقطار كما أن دخول الوقت أو خروجه يختلف باختلاف الأقطار حتى إذا زالت الشمس فى المشرق لا يلزم منه زوالها فى المغرب وكذا طلوع الفجر بل كلما تحركت الشمس درجة فتلك طلوع فجر لقوم وطلوع شمس لآخرين وغروب لبعض ونصف ليل لغيرهم.

إذا علمت هذا فالأولى التوفيق بين قول من قال باختلاف المطالع وقول من قال بعدم اعتبار ذلك بأن القائل بعدم اعتبار ذلك فى حق الأقطار التى اختلفت مطالعها اختلافًا لا يؤدِى إلى تفاوت فى رؤية الهلال بعد الغروب وقول من قال باعتباره على ما إذا كان اختلافها يؤدِى إلى ذلك فإن اختلاف مطالع البلاد كما علمت مبنِىّ على اختلاف عروضها وأن عرض كل بلد هو بعدها عن الخط الاستواء وهذا الاختلاف قد يكون يسيرًا جدًا لا يترتب عليه اختلاف فى رؤية الهلال بين بلدين بعد الغروب وإنما يتفاوت مكث الهلال بعده فى أفقهما وقد يكون فاحشًا يترتب عليه ذلك.

وبهذا التوفيق ينتظم الأمر ويتقارب الخلق ويتم السداد والله أعلم وقد ظهر بما ذكرناه من نصوص وإثباتات اختلاف المطالع.

وحديث (فإن غُمَّ عليكم) إلخ يقتضِى اعتبار اختلاف المطالع إذ لا يُغَمُّ فى جميع العالم.

واعلم أن السلف الصالح والفقهاء المتقدمين لا يُعرف عنهم خلاف قديم أصلًا فى اعتبار الحساب أو عدم اعتباره بل أجمعوا على إناطة الأحكام الشرعية برؤية الهلال ذلك لأن الهلال أمر مشاهد مرئِىّ بالأبصار فالمواقيت حددت بأمر ظاهر بيّن يشترك فيه الناس ولا يشترك الهلال فى ذلك فى شىء قال تعالى {ويسئلونك عن الأهلة قل هى مواقيت للناس والحج} وهذا عام فى جميع أمورهم وخُصّ الحج بالذكر تمييزًا له.

وليس للمواقيت حدٌّ ظاهر عام لمعرفة الهلال بخلاف الحساب فإنّه أمر خفِىٌّ خاص لا يعرفه إلا بعض الناس مع حصول الاضطراب فى الحساب نفسه وبين الحاسبين.

ولهذا كان ما جاءت به شريعتنا أكمل الأمور لأنه توقيت بأمر طبيعِىّ ظاهر عام يدرك بالأبصار لا يضل به أحد عن دينه ولا يشغله مراعاته عن مصالحه مع تيسر ذلك وعمومه وقد قال صلى الله عليه وسلم إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسِب الشهر هكذا وهكذا اهـ فبيّن أن الكتابة والحساب ليس من سبيل هذه الأمة فى إثبات الهلال بل العبرة فى ذلك إما بالرؤية أو بالإكمال.

إذا تقرر هذا فكيف نرجع فى أحكام ديننا الإسلامِى إلى الفلكيين وكيف نلتفت إلى مراصدهم مزاعمهم فى ولادة الهلال وأنه لا يُرى أو يُرى إنّ هذا خروج عن الهدىِ النبوِىّ الصراط المستقيم المحمدِىّ وهل يمكن أن نرجع إليهم ونقبل أقوالهم فى تحديد عدة النساء وتربص أربعة أشهر فى الإيلاء وصيام شهرين متتابعين فى الكفارة وغير ذلك من العبادات المؤقتة كلا والله إن الأمر عظيم.

قال تعالى {فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلًا} ولا ينبغِى أن يعتبر رأى الاتفاق على مطلع معين لما أورده عليه ما لا يتّجه الحكم بصوابه ومما لا يمكن ولا يصح العمل به.

وأما تقسيم البلاد إلى وحدات جغرافية متقاربة فليس ذلك من عمل السلف الصالح ولا يُعتبر حلّا فقهيًا للمشكلة لما قدمناه سابقًا.

وبعد فإن خير الحديث كلام الله تعالى وخير الهدِى هدْىُ نبينا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها هذا ما فتح الله به وألهم وتفضل وتكرم وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم.

والله تعالى أعلم.

 


[١] المرجع كتاب مجموع فتاى ورسائل السيد علوِى المالكِى الحسينِى رحمه الله تعالى.