بيان معنى حديث طلاق الثلاث واحدة[١]

قبسات من فوائد الشيخ محمد بن المفتِى محمد سراج الجبرتِىّ الشافعِىّ
حفظه الله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه أما بعد فيقول الفقير إلى رحمة ربه القدير محمد بن الشيخ محمد سراج بن الشيخ محمد سعيد المفتِى هذا جوابعن حديث ابن عباس رضِى الله عنهما فِى الطلاق الذِى أخرجه الإمام المحجاج مسلم ابن الحجاج ولفظُهُ عن ابن عباس رضِى الله عنهما قال كان الطلاق على عهد رسول الله وأبِى بكر وسنتين من خلافة عمر رضِى الله عنه طلاق الثلاث واحدة فقال عمر بن الخطاب إن الناس قد استعجلوا فِى أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم اهـ وقد احتج بعض الناس بهذا الحديث للزعم بأن من طلق زوجته بلفظ الواحد فقال أنتِ طالق ثلاثًا يقع طلقة واحدة لا غير.

وقد أجاب العلماءُ عن هذا الحديث بأجوبة وأنا أقتصر على نقل جوابين

أحدهما أنَّ معنى الحديث أن المراد بطلاق الثلاث ليس إيقاعه بلفظ واحد بل بألفاظ متفرقة متوالية بأن يقولَ أنتِ طالق أنتِ طالق أنتِ طالق كما قاله الإمام الشافعِىّ وجزم به النسائِىّ وصححه النووِىّ والقرطبِىّ وابن سُريج وأبو يحيى الساجِىُّ وغيرهم وذكره البيهقِى عن الشعبِىّ عن ابن عباس أيضًا.

وليس فِى شىء من جميع الروايات التصريح بأن الثلاث واقعة بلفظ واحد. قال فِى أضواء البيان ولفظ طلاق الثلاث لا يلزم منه لغة ولا عقلًا ولا شرعًا أن يكون بلفظ واحد لصدق العبارة على الثلاث الواقعة بألفاظ متفرقة بل يتعين أن تكون بألفاظ متفرقة لما نقله البيهقِىّ عن ابن عباس راوِى الحديث وراوِى الحديث أدرَى بمعناه ثم قال ويؤيده ما ذكره ابن القيم فى زاد المعاد فِى حديث عائشة رضِى الله عنها الثابت فِى الصحيحين وهو أن رجلًا طلق امرأته ثلاثًا فتزوجت فسُئل النبِى صلى الله عليه وسلم فقال لا حتى يذوق عُسيلتها كما ذاق الأول حيث قال ابن القيم فهذا مما لا ننازعكم فيه ولكن أين فِى الحديث أنه طلَّقَ الثلاث بفمٍ واحدٍ بل الحديث حجة لنا فإنه لا يقال فعل ذلك ثلاثًا وقال ثلاثًا إلا من فعل وقال مرة بعد مرة اهـ  ثم قال فِى الأضواء ويقال لابن القيم فلا مناص لك من الاعتراف بكون الثلاث فِى حديث ابن عباس مفرقة أما جعلك الثلاث فِى حديث عائشة مفرقة وفِى حديث ابن عباس مُجْتَمِعةً فلا وجه له ولا دليل عليه اهـ ثم قال وإذا لم يتعين فِى الحديث كون الثلاث بلفظٍ واحدٍ سقط الاستدلال به لأن الخلاف فِى خصوص الثلاث بلفظٍ واحد اهـ

والثانِى أن يكون الحديث منسوخًا وقد جزم بالنسخ أبو داود والحافظ ابن حجر فِى الفتح وغيرهما وهو قول إمامنا الشافعِىّ ومما يؤيد النسخ إجماع الصحابة فِى زمن عمر رضِى الله عنه على نفوذ طلاق الثلاث بفمٍ واحد.

ومن المستحيل أن يتعمد عمرُ مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه أحد من الصحابة مع كثرتهم وعلمهم وورعهم ومخالفتهم له فِى كثير من الأحكام وهذا لا يعتقده من له دين.

أخرج النسائِىّ عن محمود بن لبيد أُخْبِرَ النبِىُّ صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات فقام مُغْضَبًا فقال أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم قال الحافظ ابن كثير إسناده جيد وقال الحافظ ابن حجر فِى بلوغ المرام رواته مُوثقون وقال فِى الفتح رواته ثقات.

ويؤيد النسخ إفتاء ابن عباس بخلاف ما روى فقد أخرج أبو داود بسند صحيح بطريق مجاهد قال كنت عند ابن عباس فجاء رجل فقال إنه طلق امرأته ثلاثًا فسكت حتى ظننت أنه سيردُّها عليه فقال يَنْطلِقُ أحدكم فيركب الأحموقة ثم يقول يا ابن عباس إن الله قال ومن يتق الله يجعل له مخرجًا وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجًا عصيت ربك وبانت امرأتك اهـ

وحكَى غيرُ واحد من العلماء الإجماع على وقوع طلاق الثلاث بلفظ واحد. قال فِى منتقَى الأخبار بعد كلام وهذا يدل على إجماعهم على وقوع الثلاث بالكلمة الواحدة اهـ

وقال الحافظ ابن رجب اعلم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من أئمة السلف المعتدّ بقولهم فِى الفتاوَى فِى الحلال والحرام شىء صريح فِى أن الطلاق الثلاث يُحسَبُ واحدة إذا سيق بلفظ واحد ولا نعلم أحدًا من الأئمة خالف فِى هذه المسألة مخالفة ظاهرة ولقد طُفتُ فِى الآفاق ولقيت علماء الإسلام وأرباب المذاهب فما سمعت من يقول إن الطلاق الثلاث فِى كلمة لا يلزم ويجعله واحدة وما سمعت بهذه المسألة بخبر ولا أحسست لها بأثر إلا الشيعة الذين يرون نكاح المتعة جائزًا ولا يرون الطلاق واقعًا وقد اتفق علماء الإسلام وأرباب الحلِّ والعَقْدِ فِى الأحكام على أن الطلاق الثلاث بكلمة لازم اهـ

كتبه محمد بن الشيخ محمد سراج المفتِى الجبرتِى الآنِى سنة ١٤٢١هـ

والله سبحانه وتعالى أعلم.


[١] المرجع رسالة الشيخ محمد بن المفتِى محمد سراج المطبوعة فِى الحبشة والتِى وزعها كاتها نفسه.