دعوَى المساواة فى الإرث[١]

قبسات من فوائد عالم فاس
الشيخ الفقية الأصولِىّ محمد بن محمد التاويل
المتوفى سنة ١٤٣٦هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وسلم

فى البداية وقبل الدخول فِى مناقشة الموضوع وتحليله نُسجل بكل أسف وحزن أن إثارة هذا الموضوع فى بلد يدين أهله بالإسلام منذ قرابة أربعة عشر قرنًا شىءٌ مُخزٍ وعارٌ على من أثاره ومن شَجَّعَ عليه أو سمح بإثارته تحت أى غطاء ونستنكر بكل قوة إثارته ونؤكد بكل ثقة واطمئنان وصدق وإيمان أن المطالبة بالمساواة فِى الإرث بين الذكر والأُنثَى بدعوَى الاجتهاد أو بدعوَى التجديد وتغير الظروف أو بدعوَى إنصاف المرأة ورفع الظلم عنها أو غير ذلك من الشعارات الباطلة التِى يرفعها دعاة المساواة لتبرير دعاويهم هِى دعوَى باطلة ضالة مضلة مرفوضة شرعًا قطعًا كتابًا وسنةً وإجماعًا ولا حياءَ لمن ينادِى بها أو يدعمها سواء فِى ذلك المساواة فى السهام والأنصبة بأن تأخذ البنت فى أبيها وأمها مثل ما يأخذه الابن فيهما وتأخذ الأخت مع أخيها قدر ما يأخذه أخوها فيه إذا اجتمعا وترث الأم فى ولدها قدر ما يرثه الأب فى ولده وتأخذ الزوجة فى زوجها قدر ما يأخذه فيها. أو المساواة فى الحجب والتعصيب بأن تنزل البنت منزلة الابن عند عدمه وتحل محله وتُعْطَى حكمه فى حجب الإخوة والأخوات وباقِى العصبة وتستأثر بالإرث دونهم كما يحجبهم الابن الذكر سواء بسواء كل ذلك باطل مرفوض شرعًا كتابًا وسنةً وإجماعًا.

وهي بالإضافة إلى بطلانها شرعًا تكشف عن مَدى الجهالات التِى يتخبط فيها هؤلاء الضالون. جهالة بالشرع وجهالة بالحكمة من تفضيل الذَّكر على الأنثى فى الإرث وجهالة بقواعد الاجتهاد الفقهِىّ والبحث العلمِىّ الصحيح وجهالة بخطورة هذه الدعوَى دينيًا وأُخرَويًا وجهالة بمركز المرأة ومكانتها فى الإرث فى الشريعة الإسلامية.

ولتوضيح ذلك أكثر قسمت هذا العرض إلى محاور:

المحور الأول فى بيان بطلان هذه الدعوَى شرعًا كتابًا وسنةً وإجماعًا.

المحور الثانِى فى بيان بطلان هذه الدعوَى اجتهادًا.

المحور الثالث فى بيان الحكمة من تفضيل الذكر على الأنثى فى الإرث.

المحور الرابع فى مركز المرأة ومكانتها فى الإرث.

المحور الخامس فى خطورة هذه الدعوَى دينيًا وأُخرَوِيًا.

 

المحور الأول فى بيان بطلان هذه الدعوى شرعًا

التفاوت فى الإرث بين الذكر والأنثى وتفضيل الذكر وإعطاؤه ضِعْفَىْ ما ترثه الأنثى هو من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة يعرفه الخاص والعام غنِىّ عن الاجتهاد والاستدلال. ولكن للتذكير والتبليغ ولإقامة الحجة على الذين يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق نُذَّكِرُ الجميع بقوله تعالى فى ميراث الأولاد (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ). وقوله فى ميراث الاخوة (وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وقوله تعالى فى ميراث الزوجين (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ) وقوله فى ميراث الأبوين (وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ) يعنِى والباقِى بعد ثلث الأم أو سدسها كله للأب ضرورة أنه لا وارث معها فى الحالتين.

فهذه نصوص قرءانية إلهيةٌ صريحةٌ فى تفضيل الذكر على الأنثى وعدم التسوية بينهما فى الأنصبة والمقادير ودلالتها على ذلك قطعية لا تحتمل أي تأويل لا قريب ولا بعيد كما أنه لا معارض لها ولا ناسخ وقد أكدت ذلك السنة النبوية الشريفة وإجماع الأمة الإسلامية جيلًا بعد جيل منذ نزول هذه الآيات إلى الآن.

وقد تمنى بعض النساء فى أول الإسلام بعد نزول هذه الآيات وهذه الفرائض أن لو كانت أنصباؤهن كأنصباء الذكور ومساوية لها. فأنزل الله هذه الآية (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) وهِى تذكير لهُنَّ بأن عدم المساواة فى الإرث وتفضيل الذكور على الإناث هو قرار إلهِىٌّ وحكم ربانِىّ يجب تقبله ثم هو تفضيل مبنِى على العلم المحيط بمصالح العباد رجالهم ونسائهم وما يحتاجون إليه من أموال وما يستحقون من إرث.

وهِى من جهة أُخرى زجر لهن ونهِى عن مجرد تمنِى المساواة حتى فى داخل أنفسهن فضلًا عن المطالبة بها أو انتقاد التفاضل بينهما لأن ذلك ضرب من الحسد الخَفِىّ ودليل على عدم الرضا بحكم الله والتسليم له وقد قال تعالى (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) وقال (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).

وإذا كان لا إيمان لمن لا يرضَى بحكم الرسول فكيف يكون حال من لا يرضَى بحكم الله تعالى ويعلن معارضته ويطالب بتغييره. أترك الجواب لكم ولهم.

هذا عن الشق الأول من المساواة أي المساواة فى الأنصباء. وأما المساواة فى الحجب فإن الكتاب والسنة وإجماع الأمة متضافرة على بطلانها وعلى أن البنت أو البنات لا يستأثرن بالميراث كله ولا يحجبن الإخوة والأخوات الشقائق أو لأب ولا غيرهم من العصبة وأن البنت لا تكون ابنا أبدًا.

أما الكتاب فإن الله تعالى لما حدد ميراث الواحدة فى النصف والمتعددة فى الثلثين دل ذلك على أنهن لا يحِطن بالميراث كله ولا يسقطن العصبة وأنهن لا يزاد لهن على فرضهن المحدد وأيضًا فإن قوله تعالى (الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) هكذا بتقديم الخبر على المبتدأ يدل على الحصر أي ليس لها إلا النصف. وليس لهن إلا ثلثا ما ترك للقاعدة الأصولية والبلاغية أن تقديم الخبر على المبتدأ يفيد الحصر على حد قوله تعالى (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) وقوله (وللعاهر الحجر).

وأما السنة فإنه قضَى فى فريضة سعد بن الربيع بتوريث العم مع البنتين وفى فريضة أوس بن ثابت بتوريث ابنَىْ العم مع البنتين وفى فريضة مولَى حمزة بتوريث مولاة النعمة مع البنت وقضَى بتوريث الأخت مع البنت وبنت البنت وقَضى معاذ بن جبل بتوريث الأخت مع البنت فى حياته كما تدل على ذلك الأحاديث التالية:

1- روى الترمذِىّ عن جابر بن عبد الله قال (جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله فقالت يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قُتل أبوهما معك يوم أحد شهيدًا وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالًا ولا تنكحان إلا ولهما مال قال يقضِى الله فى ذلك فنزلت ءاية الميراث فبعث رسول الله إلى عمهما فقال اعطِ ابنتَىْ سعد الثلثين واعط أمهما الثمن وما بقِىَ فهو لك) رواه الترمذِىّ وغيره وقال حديث حسن صحيح.

2- وفى حديث ءاخر أن أوس بن ثابت الأنصارِىّ توفِىَ وترك امرأة يقال لها أم كجة وثلاث بنات له منها فقام رجلان هما ابنا عم الميت ووصياه يقال لهما سويد وعرفجة فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته وبناته شيئًا فذكرت أم كجة ذلك لرسول الله فدعاهما فقالا يا رسول الله ولدها لا يركب فرسًا ولا يحمل كَلًّا ولا ينكأ عدوًا فقال انصرفا حتى أنظر ما يُحدث الله لِى فيهن فأنزل الله (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضً) فأرسل النبِىّ إلى سويد وعرفجة أن لا يفرقا من مال أوس شيئًا فإن الله جعل لبناته نصيبًا ولم يبين كم هو حتى أنظر ما يُنزل ربنا فنزلت (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) إلى قوله تعالى(الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) فأرسل إليهما وقال لهما اعطيا أم كجة الثمن مما ترك أوس ولبناته الثلثين ولكما بقية المال.

3- وروَى الدارقطنِىّ عن ا بن عباس رضِى الله عنهما أن مولَى حمزة توفِىَ فترك ابنته وابنة حمزة فأعطَى النبِىّ ابنته النص ولابنة حمزة النصف ورواه النسائِىّ وابن ماجه من حديث ابنة حمزة أنه ورث بنت حمزة من مولى لها ورواه الدارمِىّ من حديث عبد الله بن شداد قال فيه (إن ابنة حمزة أعتقت عبدًا لها فمات وترك ابنته ومولاته بنت حمزة فقسم النبي ميراثه بين ابنته ومولاته بنت حمزة نصفين).

4- وعن هزيل بن شرحبيل قال سئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن وأخت فقال للابنة النصف وللأخت النصف وائت ابن مسعود فسيتابعنِى فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبِى موسى فقال لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين أقضِى فيها بما قضَى النبِىّ للابنة النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين وما بقِىَ فللأخت فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال لا تسألونِى مادام هذا الحبر فيكم رواه البخارِىّ.

5- وفى صحيح البخارِىّ عن الأسود بن يزيد قال أتانا معاذ بن جبل باليمن معلمًا وأميرًا فسألناه عن رجل توفِىَ وترك ابنته وأخته فأعطَى الابنة النصف والأخت النصف.

6- وفى رواية قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله (النصف للابنة والنصف للأخت).

7- وقال (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأَوْلَى رجل ذكر) رواه البخارِىّ.

8- وفى رواية (قسم المال بين أهل الفرائض على كتاب الله فما تركت الفرائض فلأَوْلَى ذكر) (رواه أبو داود 122/3).

فهذه الأحاديث كلها صريحة فى أن البنت أو البنات ليس لهنَّ إلا ما فرضه الله لهن من النصف للواحدة والثلثين للمتعددة وأنهن لا يحجبن الإخوة ولا غيرهم من العصبة.

وشذ الشيعة الروافض فقالوا باستبداد البنت بالميراث وأنها تحجب الإخوة والأخوات وباقِى العصبة كما يحجبهم الابن الذكر وكما تحجب هي الإخوة للأم زاعمين أن فاطمة رضِى الله عنها هى الوارث الوحيد لرسول الله.  وهو مذهب فاسد باطل خالفوا فيه قوله (نحن معاشر الأنبياء لا نُوَّرِثُ) فورثوا فاطمة رضِى الله عنها فى أبيها وخالفوا أقضيته وقوله فى أن (البنت لا تحجب الأخوات) فأحرَى غيرهن من الذكور العصبة.

وقد حاول الفاطميون فرض هذا المذهب بالقوة فقتلوا وعذبوا مئات العلماء والفقهاء فى المغرب ومصر الذين رفضوا مذهبهم ورفضوا الإفتاء والقضاء به ولكنهم فشلوا فى فرضه فزال بزوالهم وعاد المسلمون لدينهم وسُنة نبيهم والآن بعد ألف عام يحاول المبتدعة الجدد الضلال إحياء تلك البدعة الضالة المضلة متجاهلين قوله صلى الله عليه وسلم (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار).

المحور الثانِى فى بطلان الاجتهاد فى المساواة

المطالبة بالاجتهاد فى نصوص الإرث وإعادة قراءتها من جديد على ضوء الظروف المستجدة للخروج بالمساواة بين الذكر والأنثى هِى كما قلنا تنم عن جهالة فادحة بقواعد الاجتهاد الفقهِىّ وضوابط البحث العلمِىّ الصحيح وتتجلَى هذه الجهالة فى أنَّ تفضيل الذكر على الأنثى فى الميراث هي من القضايا المعلومة من الدين بالضرورة والثابتة بالنصوص القطعية مَتْنًا ودِلالة ولا تَحتمل ولا تَقبل إلا قراءة واحدة لمن يفهم اللغةَ العربية وقواعدها وأصولَ الفقه وقواعده وهِى بذلك غيرُ قابلة للمناقشة والاجتهاد أصلًا فضلًا عن التغيير والتبديل.

أولًا لأنَّ الاجتهاد فيها لا يمكن أن يأتِىَ بجديد يختلف عما قررته الشريعة الإسلامية كتابًا وسنةً وإجماعً من تفضيل الذكر على الأنثى وعدم التسوية بينهما ولا تتعدَى المناقشة فيها أن تكون جدلًا عقيًما لا يستند إلى علمٍ ولا كتابٍ مبينٍ ولا يَهدف إلى معرفة الحق وإنّما يقصد به إضلال الخلق وابطال الحق وتغيير شرع الله الذِى ارتضاه لعباده وفرضَ عليهم الاستمساك به واتباعه.

وثانيًا فإن ما قاله الله لا ينسخه إلا الله كما قال تعالى (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) فهذه الآية تؤسس لقاعدة تشريعية أصولية عظيمة لا يريد البعض الاعتراف بها والاذعان لها وهِى أن ما جاء به القرءان من شرائع وما نصَّ عليه من فرائضَ وأحكام لا حق لأحد فى تبديلها أو تعديلها تحت أىّ مبرر مهما أوتِىَ من علم ونفوذ أو مكانة وجاهٍ عند الله حتى الرسول لا يستطيع تبديلها أو تغييرها من تلقاء نفسه ويأمره الله بإعلان ذلك للناس (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) ليعِىَ الجميع الدرس جيدًا ويقفوا عند حدودهم ولا يتطاولَ أحدٌ بعدهم على ما هو خاصٌ سبحانه وهِى ءَايَةٌ كافية فى الرد على دعاة المساواة فى الارث فإذا كان الرسول لا يحق له تبديل ما أنزل الله فى كتابه من أحكام وكان مُلزمًا باتباع ما يوحَى إليه بِنَصِّهِ وفَصِّهِ فكيف يحق لمن جاء بعده التطاول على ذلك إلا أن يكون ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر فينكر هذا الأمر كما يشير لذلك قوله تعالى (قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ).

وثالثًا للقاعدة الأصولية التِى تقول لا اجتهادَ مع النص وهِى قاعدةٌ مستمدة من الكتاب والسنة مجمعٌ عليها من طرف الجميع يحتج بها الفقهاء والنحاة ورجال القانون وجميع الباحثين والمفكرين يحتكم الجميع إليها ويعمل بمقتضاها ويقف عندها ولا يتجاوزها وهِى عند الجميع بمنزلة علامة قف منصوبة فى طريق البحث العلمِىّ الصحيح لا يتجاوزُها إلا جاهل بها أو متهورٌ لا يحترم قواعد البحث والاجتهاد كما أنَّها فى حد ذاتها هِى قاعدة منطقية عقلانية لأن الاجتهاد هو البحث عن المجهول ومحاولة اكتشافه ومعرفته.  فالفقيه يبحث لمعرفة حكم الله فى النازلة المعروضة عليه المُجْتَهَدِ فيها وعن  مراده تعالى الذِى لم يفصح عنه ولم يعلنه والقانونِىُّ يبحث ويجتهد لمعرفة رأىَ القانون فى نازلته والمحلل السياسِىُّ والعسكرِىُّ والاقتصادِىُّ كلهم يبحثون ويجتهدون لاستخلاص ما لم يُقَلْ لهم ولم يسمعوه للوصول إليه قبل الإفصاح عنه وهكذا كلُّ اجتهادٍ وكلُّ مجتهدٍ وباحثٍ يسعَى من وراء بحثه واجتهاده إلى معرفة الرأىِ والحكم الذِى لم يسمعه من الجهة التى يبحث عن رأيها فى الموضوع الذي يبحث فيه.

فإذا كانت الجهة التي يبحث عن رأيها قد أعلنت رأيها بصراحة ووضوح وبلغ إلى الباحث وعَرَفَهُ كان البحث والاجتهاد لمعرفة رأيها عبثًا لا فائدة منه فإذا قال الله تعالى فى ميراث الإخوة والأخوات وميراث الأبناء والبنات (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وقال فى ميراث الزوجين (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ) الآية وقال فى إرث الوالدين (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) وعمل بذلك الصحابة فى عهد النبِىّ صلى الله عليه وسلم لم يبقَ مكان ولا حاجة للبحث والاجتهاد لمعرفة حكم الشرع فى المساواة وعدمها فى الإرث لأنه صرَّحَ به وبوضوح لا لبس فيه ولا غموض إذا كان المراد معرفة حكمة فى ذلك.

أما إذا كان المراد مناقشة فكرة تفضيل الذكر على الأنثى وانتقادها وتعويضها بالمساواة بين الجنسين فذلك شىء ءاخر لا يسمَى اجتهادًا ولكنه اعتراض وتخطئة وتشطيب بالقلم الأحمر على وصية الله وفتواه ومحادة لله ورسوله يتناولها قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وفى آية أخرى (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ).

ورابعًا فإن تفضيل الذكر على الأنثَى فى الميراث من الأحكام الثابتة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، ومن القواعد الأصولية أن الأحكام الثابتة بالنصّ لا تتغير بتغير الظروف والزمان والمكان بل هِى من الأحكام الخالدة بخلود هذا الدين دائمة باقية ببقاء كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فى نصوصه وأحكامه التِى من بينها تفضيل الذكر على الأنثى فى الإرث.

وأىُّ اتفاق من جماعةٍ أو أمةٍ على إلغاء هذا التفضيل وإقرار المساواة باسم الاجتهاد أو التجديد فلن يغير من الحقيقة شيئًا ولن يُعْطِيَهُ صفةَ الشرعيةِ ويبقَى مجردَ افتراء على الله يتحمل وِزرَهُ من يُقِرُّهُ ومَنْ يَقْضِى به ومن يأخذه فالحرام فى الشريعة يبقَى حرامًا إلى الأبد والحلال يبقَى حلالًا إلى الأبد ولا ينقلب الحرام إلى حلال ولا الحلال إلى حرام بمجرد قانون أو مرسوم، ولهذا يقول العلماءُ حُكْمُ الحاكم لا يُحِلُّ حرامًا ولا يُحَرّمُ حلالًا لقوله صلى الله عليه وسلم (فمن قضيت له بشىءٍ من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من نار) وهو عام فى كل الحقوق المالية وغيرها.

والله تعالى أعلم.



[١] المرجع كتاب دعوَى المساواة فى الإرث للفقيه محمد بن محمد التاويل رحمه الله تعالى.