من تراث الصوفية الحقِّ
رسالة إلى الشيخ المرشد محمد أبِى النصر الحمصِىّ رضِى الله عنه[١]

قبسات من فوائد شيخ حماه العالم المجاهد محمد الحامد الحنفِىّ
المتوفَى سنة ١٣٨٩هـ رحمه الله تعالى

أثبتَ الأستاذ عبد الحميد طهماز فى كتابهالذى ترجم فيه العلامة المجاهد الشيخ محمد الحامد رحمه الله رسالة كتبها الشيخ رحمه الله تعالى عندما كان فى مصر إلى شيخه ومرشده سيّدِى الشيخ محمد أبِى النصر قدس سره يَظهر لنا منها كيف كان رحمه الله يسير فى طريق التصوف على بصيرة ورشاد ويقيس ما يعرض له بمقياس الشرع الذى أخلص له ودافع طيلة حياته عنه.

وهذه الرسالة من عيون كنوزه العلمية وذخائره الأدبية ولذلك نثبتها فيما يلِى.  قال الشيخ محمد الحامد رحمه الله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على سيّدنا محمد رسول الله وعلى ءاله وصحبه ومن والاه. من العبد الفقير إلى الله تعالى محمد الحامد إلى سيده ومرشده الأستاذ الشيخ محمد أبي النصر قدس سره

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته وبعد فإنِى ألثم يدكم الشريفة بشفة الروح سائلًا الله تعالى أن يحفظ فيكم بقية الصالحين ويديم مناركم عاليًا وذكركم ساميًا وبعد فإنِّى مستشعر تقصيرِى إذ لم أحدث بكم عهدًا كتابيًا بعد أن كتبت إليكم أوائل ذِى الحجة الماضِى وقد يظن أن هذا الانصراف عن الكتابة لذهول أو نسيان أو لإطراحٍ للمودة وهجران للمحبة. إننِى أرجو من سيّدِى أن لا يظن بولده هذا الظن فما أنا بالذِى يقطع حبل المودة ولست أجفو من حنا علِىّ وبرّنِى وكان لِى الدوحة التِى أتظلل بها إذا حمِىَ علىَّ الهجير ولأنا كما يقول ناظم الموال المصرِىّ

يا سادتِى إن نسيتونِى أنا فاكر
     وحياة من أنزل القرءان وفيه فاطر

وإن هجرتم أنا لودادكم شاكر
        غبتم عن العين ما غبتم عن الخاطر

غير أن الهموم والأحزان التِى ألحّت علِىَّ فى مصر غلبتنِى على أمرِى وصرفتنِى عن أداء واجباتِى نحوكم ولعل الأوقات تصفو فأصفو وأعود سيرتِى الأولى وأملِى أن لا يكون هذا بعيدًا.

عندي أمور كنت مترددًا فِى مكاشفتكم بها ولكن صح العزم منِى على ذكرها فى هذا الكتاب لتعود الكتابة بالنفع على الكاتب وقد يبسط الأدنَى بين يدَىْ الأعلى ما يساوره ويعرض له وعلى هذا قام شأن أهل الشأن.

كنت سائرًا فى كنف حسن الظن بالقوم عامة وبشخصيات منهم خاصة مبتعدًا عما يحدث لي سوء ظن أو يخدش حسن اعتقادِى بهم لا سيما وقد ضربتم لِى بحالكم سيرة صالحة لأولئك الذين تتعطر بذكرهم المجالس وتجلو بذكراهم القلوب. كنت صريحًا على طيب قلبِى نحو تلك الشخصيات منصرفًا عن مطالعة كتبهم لما شاع فى الأوساط العلمية أن فيها ما يصطدم والشريعة المطهرة وأن المعتذرين عنهم يقولون إنها لعلوها عن مدراك حملة الشرع يظن بها ذلك وهِى على التحقيق روح الشريعة ولبابها وحيث إنِى مقتنع بأنِى لست من ذوِى الافهام الدقيقة التِى تنحل أمامها المشكلات فقد رأيت أن أتحاشَى جانبًا عن موطن النزاع وأكون على اعتقاد الحسنَى فى المتنازعين قائلًا إن الخلاف لفظِى وإنهم متلاقون فى نقطة واحدة وهكذا أصممت أذنِى عما يعكر علِىَّ حالِى ولكن هذا النوع من السير لم يطل بِى خصوصًا فى مصر وخصوصًا فى هذا الزمن الذِى ظهر به ما كان كامنًا وانكشف ما كان يحرص الأشياخ على بقائه فِى خفائه. على أنِى تصاممت فى أول الأمر وتغافلت إلى أن صرت إلى حال لا ينفعنِى معها التصامم ولا التغافل إذ وقفتُ فى مفترق الطريقين حق وباطل، وأيقنتُ حينئذٍ أنِى أمام حقيقة واقعة وأنَّ عليّ أن أميز بين الحق والباطل قيامًا بالتكليف الإلهِىّ وتحقيقًا لمقتضيات الإيمان الذِى به النجاة يوم يخسر المبطلون.

أما هذه الامور فهِى مما ترفضه الشريعة بالبداهة إذ إن القول بها معناه التملص من حبال الدين والتحلل من قيوده فيما أوجبه من العقائد وقضَى بالمصير إليه والتزامه, وها أنا ذا مبتدئ بها تعديدًا واحدًا إثر واحد، والله المستعان.

الأول فى الرد على من قال بنجاة إبليس يوم القيامة.

ألقَى إلىَّ بعض الناس أن الشيخ عبد الكريم الجيلِىّ صاحب كتابالانسان الكامل يقول بنجاة إبليس يوم القيامة، فدهشت لهذا النبإ الذِى لا يتصور عاقل صدوره من مسلم يؤمن بالقرءان فضلًا عمن يومِئ إليه كثير من الصوفية بأنه عارف محق. وليت شعرِى ماذا يكون موقفنا من القرءان إن لم نعترض على هذا الزعم ولم نتشمر لجحده وإنكاره. هل يكون إلا إهمالًا له وهجرانًا وتمسكًا بما يضاده علىَّ طول الخط. سمعنا الله تعالى يقو ل (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (١٦) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) ويقول أيضًا (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) الآية وهِى صريحة فى أن هذه الخطبة لإبليس تكون فى جهنم لأن الإصراخ لا يكون إلا لمن كان تحت العذاب لحاجته إليه. قيل لِى إنه يمكن الإحتجاج لهذا القول بقوله تعالى خطابًا لإبليس (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) حيث غيَّا ((جعل لهذا غاية)) بيوم الدين فيمكن أن ينجو بعده فقلت هذا المفهوم معطّل بالآيتين السابقتين المفيدتين أنه فى النار وأنه خالد فيها وقد حكم الله تعالى عليه فى ءايات كثيرة بالكفر والكفرة خالدون فى النار أبدًا.

وعلى هذا فقد قطعتُ بأن هذا القول كفر بواح عندِى من الله فيه برهان وانضاف إليه علمِى بعد مدة بأن الإمام الشعرانِىَّ رحمه الله تعالى نصَّ على أن هذا القول مكذوب على الشيخ محيى الدين والشيخ عبد الكريم الجيلِىّ فالحمد لله على ذلك إذ تبينتُ أنَّ ما هو كفرٌ منحولٌ لهما مدسوسٌ فى كتبهما وهما بريئان منه.

الثانِىفى الرد على من يقول بأن المطيع والعاصِى سواء أمام الحق عز وجل.

أخرج بعض المعاصرين كتابًا ذكر فيه نقولًا عجيبة عن بعض كتب القوم منها أن الشيخ عبد الرحمن الجيلِىّ قضَى فى كتابه الانسان الكامل بأن المطيع والعاصِى سواء أمام الحق عز شأنه لإطاعة كل منهم فى اسمه الهادِى والثانِى أطاعه فى اسمه المضل فكلامهما إذًا مطيع ومُقَرَّبٌ ومثابٌ على طاعته.

قرأت القرءان فوجدت الله تعالى يقول (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)[٢]. وسمعته يقول (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)[٣] ويقول أيضًا (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)[٤]. هذا قول الله الذِى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ينفِى المساواة بين أهل السعادة وأهل الشقاوة فكيف يقدم مؤمن على القول بخلافه وهل يكون سيدنا محمد رسول الله وحبيبه صلى الله عليه وسلم كأبِى جهل لعنه الله تعالى، اللهم لا، وإن هذا الزعم باطل وكذب ظاهر لا يقبل التأويل، وإن أريد بأنهما سواء من حيث إن كلًا منهما نفذت فيه إرادة الله فهو مظهر لتحقيقها فهذا حقّ ولكنه لا يلزم فيه التساوِى فى إطلاق الطاعة عليهما لأن الإرادة غير الأمر وقد يريد الله من عبده ما يأمر بضده إذ ليست الإرادة الإلهية إلا التخصيص للشىء ببعض ما يجوز عليه لا الأمر به ولا الرضَى عن فاعله لتنزه الله تعالى عن الأفاعيل النفسانية والميول الطبيعية وعلى هذا فالمطيع مثاب والعاصِى معاقب.

الثالث فى الرد على من يقول بأن أهل النار يتلذذون فيها.

عزا هذا المعاصر إلى الشيخ الجيلِىّ أيضًا أنه ذكر فى كتاب الانسان الكامل أن أهل النار يتلذذون فيها كما يتلذذ أهل الجنة بجنتهم. وهذا بناء منه على النظرية السابقة من أن المطيع والعاصِى سواء أمام الحق عز شأنه.

عرضت هذه النحلة على القرءان الكريم فوجدته يقضِى بخلافها إذ يقول عز شأنه (كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا)[٥]، ويقول(وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ )[٦] ويقول (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ )[٧] والآيات فى هذا المعنى كثيرة جدًا

فمن قال بخلافها فقد عطلها وكفر بها وكنت رأيت هذا المعنى فى كتاب الفصوصوشرحه فقد قرر الماتن وتبعه الشارح الجزائرِىّ أن العذاب ينقلب على أهله عذوبة فى النهاية فهم فيه يتلذذون. هذا القرءان ناطق بعكس ذلك تمامًا إذ هو مصرح بالخلود فى العذاب لا فى العذوبة. وأين هو منها، الشريعة تقضِى على قائل هذا القول بالكفر لأنه لم يؤمن بآيات الله تعالى الناطقة بالوعيد على أتمه وليس للتأويل فيه مجال والتأويل الذِى ينبو عنه النظم الكريم مردود على صاحبه.

الرد على من يقول بخروج الكافرين من النار

ويقرب من هذا الزعم الباطل ما يلهج بعضهم من خروج الكافرين من النار, وقد أشبع التقِىّ السبكِىّ وهو من أنصار الصوفية القول فى هذه المسألة(الإعتبار ببقاء الجنة والنار) رد فيها على من قال بخروجهم منها أو بفنائها، وقرر أنها عقيدة كفرية لمصادمتها الآيات القرءانية وخرقها الإجماع المنعقد على خلود الكفرة فيها، وعَدَّدَ الآيات فِى الخلود لأهل الجنة وأهل النار فإذا هى اثنتان وثلاثون ءاية ولعمر الحق إن واحدة منها كافية لحصول اليقين عند المؤمن.

الرابع فى الرد على من يقول بنجاة فرعون.

القول بنجاة فرعون المنسوب إلى الشيخ محِى الدين تعلقًا بقوله تعالى حكاية عنه حين عاين الهلاك وأدركه الغرق (ءامَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[٨] قال القائلون ولم يزد الله تعالى فى ذلك المقام على أن عاتبه وبكته بقوله(ءالْآن وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)[٩] الآيات قالوا ذلك غافلين عن قوله تعالى(فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ)[١٠] فإيمانه إيمان يأس غير مقبول.

ثم ماذا يصنعون بقوله تعالى (وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ)  أفيقدمهم إلى النار ويوردهم إياها ثم يعود أدراجه إلى الجنة ما هذه المهزلة التِى يتنزه عنها القرءان.

ولئن قالوا إن رجوعه للنكاية بهم حيث لم ينجهم منها مع أنهم عبدوه قلنا لهم إنهم إنما كفروا بسببه فهو رأسهم فى الكفر وكبيرهم فى الضلال فتقدم أمامهم إلى النار على أن الضمير فى قوله(وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ)[١١] يعود عليهم وعليه، لئلا يلزم تفكيك النظم بتشتيت الضمائر والقرءان الفصيح لا يقبل هذا الضعف فى التركيب.  وماذا يصنعون بقوله تعالى(فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى) ألسيت الأولى هِى الدنيا والآخرة هى يوم القيامة وما بعده.

على أن هناك ءايات أخرى قاطعة لشبهتهم وليس بعدها مجال لقائل ولا اجتهاد لمجتهد وإذ الاجتهاد فى موارد النصوص ممنوع وليس لله مع أحد كلام فى ما قضاه. قال الله تعالى فى سورة القصص:(وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ)  فإذا كان الله تعالى نفَى عنهم النصرة يوم القيامة ولعنهم فى الدنيا وفى الآخرة وأخبر أنهم من المقبوحين فيها. إذا كان ذلك كذلك فهل بقِىَ شك
فى كفر فرعون وجنوده لا هم وحدهم فقط لأن الضمائر فى الأيات له ولجنوده.

إذًا فالقول بنجاة فرعون كفر صريح وعن هذا أقسم الشيخ الشعرانىّ فى كتابهاليواقيت والجواهر بأن هذا القول مدسوس على الشيخ محيى الدين ومنحول له ولم يقل به وهذه هى العقيدة الصحيحة المنجية عند الله تعالى
ورضي الله تعالى عن الشعرانِىّ الذِى دفع عن القوم وبين أن كثيرًا مما هو فى كتبهم دسه الوضاعون فيها وليس للقوم علم به حتى إنه حكم بأن كل ما فى الفتوحات والفصوصمما يخالف مذهب أهل السنة مدسوس على الشيخ.ومثله ما هو منسوب إلى الجيلِىّ من القول بتساوِى المطيع والعاصِى وبانقلاب العذاب عذوبة كل هذا كذّبه الشعرانِىّ ونقل عن الشيخ الأكبر القول الصريح بخلود الكفرة فى العذاب أبدًا دون تحفيف كما قال الله تعالى (فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ )[١٢]. ويكفِى الاعتماد على ما ذكره أيضًا من أن أحد العلماء اليمانيين أخبره أن النسخة الأصليةللفتوحا وهى فى قونيخالية من كل هذه الكفريات وهى التِى بخط الشيخ محيى الدين وغيرها من النسخ دخلها التحريف والتبديل.

في مصر الآن رجل من أجلاء أهل السنة يشايع الشعرانِىّ فى قوله (إن كل ما يخالف الشريعة مدسوس على القوم)ويكفينِى الاعتماد على ما ذكره الشعرانِى فهو عالم بطريق القوم وخبير به وتصوفه يتمشَى مع العلم دون خروج عليه، لا أستطيع غير هذا من حيث إنِّى ءامنت بالقرءان، ولا يسعنِى أن أسلم بما يضاده إذ هو جمع بين الضدين وهو مستحيل قطعًا والله تعالى سائلِى عن عقيدتِى فبم أجيبه لو جمعت إلى الإيمان بكتابه التسليم بهذه الكفريات، ومن زعمهم مؤمنين فقد كفر، والفقهاء مقررون أن الشك فى كفر الكافرين كفر.

على أن القوم قرروا بأن طريقهم محكم البناء على أسس الكتاب والسنة وأن كل حقيقة خالفت الشريعة فهِى زندقة، وها هو مولانا خالد قدس سره كان يوصِى المريدين فى مرض موته بالتزام عقيدة الأشعرِىّ إذ هى العقيدة عند أهل السنة. إذًا فلم أتعد الحدود ولم أتجانف لإثم إذا أبطلت ما أبطل القوم أنفسهم. أما التسليم فيما يقولونه عن المقامات والاحوال والواردات والأمور الغيبية والكشفية مما لا تعترضه الشريعة فأنا مؤمن به كل الإيمان وحاشاهم أن يكذبوا فى دعاويهم. أما تلك الطامات فهم بريئون منها وإن وجدت فى كتبهم فهِى من غيرهم على هذا ألقى الله تعالى.

الخامس فى الرد على من قال بوحدة الوجود.

وقد فسرها البعض عنهم بأن هذا الكون بحيواناته وجماداته مجموعة إلهية والله تعالى هو روح لها وهذا كفر قطعًا إذ هو الحلول الذِى تبرأ منه المؤمنون ويقضون بأنه كفر. أما المنظومات والمنثورات التِى رأيتها فىٍ الحلول فشىء كثير, على أن هناك جملة منسوبة إلى صاحب كتاب الانسان الكاممحصلُها أن النصارَى إنما كفروا لحصرهم الإشراق فى المسيح وأمه عليهما السلام فقد كفروا بهذا الحصر وخرجوا عن زمرة الموحدين القائلين بالشيوع وهذا القول مهما قلبت فيه وجوه التأويل فلا مخلص إلا بالحكم بأن هذه الجملة مدسوسة عليه أيضًا، ثم قال وهو فى كثير من مواقفه فى كتابه يتكلم بالحق المبين الذِى لا شائبة فيه ولا غبار عليه، وإذا كان النصارَى كفروا بدعواهم الحلول فى اثنين أو ثلاثة أفلا يكون القول بالحلول فى الجميع كفرًا. هذا يا سيّدِى ما يحوك فى نفسِى حدثتكم به لئلا أخفِىَ عليكم شيئًا من شأنى. وإنِى والله لولا أمران بهما بقاء نسبتِى إلى الطريق ولولاهما لم يعد لي فيه أدنَى ارتباط وإلا من حيث الذكر المأمور به فى كتاب الله تعالى لأن هذه المكفرات لا يسكت عنها.

الأمر الأول ما رأيته فى كتاب الإحياء وكتاب عوارف المعارف والرسالة القشيرية وكلمات ساداتنا النقشبنديّة والرفاعية وكلام سيدِى الشيخ عبد القادر الكيلانِى وسيدِى الشيخ أحمد الرفاعِىّ وأمثالهما وكتب الشعرانِىّ كل هؤلاء أتوا بالكثير الطيب الذِى به بعث الله تعالى سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم فهم قد أظهروا التصوف بثوب شرعِىٍّ جميل لا يَعترِضُ عليه إلا كل أحمق ناقص العقل قاصر النظر قليل الفهم للدين على حقيقته.

الأمر الثانِى محبتِى إياكم فوجهكم الكريم به تعلقِى بالطريق ونسبتِى إليه ووالله إنِّى لم أهوَ فى الناس مثلكم بعد الجناب الأعظم وصحابته الميامين الغر رضِى الله تعالى عنهم وصلى الله تعالى على سيدهم ومهما كان فى مصر شيوخ فأين هم منكم، ماء ولا كصداء ومرعَى ولا كالسعدان[١٣] وأين النجوم من الشمس المشرقة، إنِّى معترف بأنِّى ذو تقصير فى العمل بل أكاد أكون خليًا منه ولكنِى بنعمة الله ثم ينظركم الشريف قائم على حماية العقيدة التِى هِى أساس الفلاح ولا يمكننِى بحال من الأحوال أن أسوغ ما ينقضها ولو من وجه بعيد.

انتهَى كلامه رحمه الله تعالى وكان تاريخ هذه الرسالة الكريمة يوم الجمعة لست بقين من صفر سنة ١٣٥٨ هـ. 


[١] المرجع كتاب العلامة المجاهد الشيخ محمد حامد رحمه الله تعالى تأليف عبد الحميد محمد طهماز.

[٢]سورة ص ءاية ٢٨.

[٣] سورة الجاثية ءاية ٢٠.

[٤] سورة القلم ءاية ٣٥.

[٥] سورة الإسراء ءاية ٩٧.

[٦] سورة المائدة ءاية ٨٠.

[٧] سورة النساء ءاية ٥٥.

[٨] سورة يونس ءاية ٩١.

[٩] سورة يونس ءاية ٩١.

[١٠] سورة غافر ءاية ٨٥.

[١١] سورة هود ءاية ٩٩.

[١٢] سورة البقرة ءاية ٨٦.

[١٣] صداء بئر لم يكن عندهم ماء أعذب منها والسعدان نبت وهو من أفضل مرعَى الإبل.