رسالة فِى الاستواء[١]

قبسات من فوائد الحافظ الفقيه شمس الدين محمد ابن طولون الحنفِىّ
المتوفى سنة ٩٥٣ هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وسلم أما بعد فقد قال الله تعالى (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) وتمسكت الكرامية ومن نحا نحوهم بهذه الآية للزعم بأن الله تعالى جالس على العرش فنقول إنه لا يجوز أن يكون مراد الله من ذلك الاستواء هو الاستقرار على العرش ويدل عليه وجوه

الوجه الأول أن ما قبل هذه الآية وهو قوله تعالى (تنزيلًا ممن خلق الأرض والسماوات العلى) يدل على أنه تعالى غير مختص بشىء من الأحياز والجهات قال الفخر الرازِىّ فى كتابه تأسيس التقديس لو كان تعالى فى جهة فوق لكانَ سماءً ولو كان سماءً لكان مخلوقًا لنفسه وذلك محالٌ فكونه فى جهة فوق محال وإنما قلنا إنه لو كان فى جهة فوق لكان سماء لوجهين الأول أن السماء مشتق من السمو وكل شىء سماك فهو سماء فهذا هو الاشتقاق الأصلِىُّ اللغوِىّ وعُرْفُ القرءان أيضًا متقرر عليه بدليل أنهم ذكروا فى تفسير قوله تعالى (وَيُنَزّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) أنه السحاب قالوا وتسمية السحاب بالسماء جائز لأنه حصل فيه معنى السُّمُوّ. فثبت أن الاشتقاق اللغوِىّ والعرف القرءانِىّ متطابقان على تسمية كل ما كان موصوفًا بالسمو والعلو بأنه سماء.

الثانِى أنه سبحانه لو كان فوق العرش لكان من جلس فى العرش ونظر إلى فوق لم يَرَ إلَّا نهاية ذات الله تعالى وكانت نسبة نهاية السطح الأخير من ذات الله تعالى إلى ساكن العرش كنسبة السطح الأخير من السماوات إلى ساكن الأرض وذلك يقتضِى القطع بأنه لو كان فوق العرش لكان ذاتُهُ كالسماء لسكان العرش فثبت أنه تعالى لو كان مختصًا بجهة فوق لكان ذاته سماء.

وإنما قلنا إنه لو كان ذاته سماء لكان ذاته مخلوقًا لقوله تعالى (تنزيلًا ممن خلق الأرض والسماوات العلى) ولفظ السماوات لفظة جمع مقرونة بالألف واللام فهذا يقتضِى كون كل السماوات مخلوقًا لله تعالى فلو كان هو تعالى سماءً لزم كونه خالقًا لنفسه وكذلك أيضًا قوله تعالى (إن ربكم الله الذى خلق السماوات والأرض فى ستة أيام) يدل على ما ذكرناه فثبت أنه تعالى لو كان مختصًا بجهة فوق.

لكان سماء ولو كان سماء لكان مخلوقًا لنفسه وهذا محال فوجب أن لا يكون مختصًا بجهة فوق فإن قيل لفظ السماء مختص فى العرف بهذه الأجرام المستديرة وأيضًا فَهَبْ أن هذا اللفظ فى أصل الوضع يتناول ذات الله تعالى إلا أن تخصيص العموم جائز قلنا أما الجواب عن الأول فهو أن هذا الفرق ممنوع وكيف لا نقول ذلك وقد دللنا على أنه بتقدير أن يكون الله تعالى مختصًا بحهة فوق فإن نسبة ذاته تعالى إلى ساكن العرش كنسبة السماء إلى ساكن الأرض فوجب القطع بأنه لو كان مختصًا بجهة فوق لكان سماء.  وأما الجواب عن الثانِى فهو أن تخصيص العموم إنما يصار إليه عند الضرورة فلو قام دليل قاطع عقلِىٌّ على كونه تعالى مختصًا بجهة فوق لزمنا المصير إلى هذا التخصيص أما ما لم يقم شَىْءٌ من الدلائل على ذلك بل قامت القواطع العقلية والنقلية على امتناع كونه تعالى فى الجهة فلم يكن بنا إلى التزام هذا التخصيص ضرورة فسقط هذا الكلام انتهى.

الوجه الثانِى ما بعد هذه الآية هو قوله تعالى (له ما فى السماوات وما فى الأرض) فقد بَيَّنَا أن السماء هو الذى سمى فكل ما كان فى جهة فوق فهو سماء وإذا كان كذلك فقوله (له ما فى السماوات وما فى الأرض) يقتضِى أنَّ كلَّ ما كان حاصلًا فى جهة فوق كان فِى السماء وإذا كان كذلك فقوله (له ما فى السماوات) يقتضِى أن كل ما كان حاصلًا فى جهة فوق فهو ملك لله تعالى ومملوك له فلو كان تعالى مختصًا بجهة فوق لزم كونه مملوكًا لنفسه وهو محال فثبت أن ما قبل قوله تعالى (الرحمن على العرش استوى) وما بعده يَنْفِى كونه مختصًا بشىء من الأحياز والجهات وإذا كان كذلك امتنع أن يكون المراد بقول (الرحمن على العرش استوى) هو كونه مستقرًا على العرش.

الوجه الثالث أن ما قبل هذه الآية وما بعدها مذكور لبيان كمال قدرة الله تعالى وغاية عظمته فى الإلـهية ونفاذِ التصرف لأن قوله (تنزيلًا ممن خلق الأرض والسماوات العلى) لا شك أن المفهوم منه بيان كمال قدرة الله تعالى وكمال إلاهيته وقوله (له ما فى السماوات وما فى الأرض وما بينهما وما تحت الثرى) بيان أيضًا لكمال ملكه وإلاهيته وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يكون قوله (الرحمن على العرش استوى) كذلك وإلا لزم أن يكون ذلك كلامًا أجنبيًا عما قبله وما بعده وذلك غير جائز وأما إذا حملناه على كمال استيلائه على العرش الذى هو أعظم المخلوقات والموجودات المحدثة كان ذلك موافقًا لما قبل الآية وما بعدها فكان هذا الوجه أولى.

الوجه الرابع أن الجالس على العرش لا بد أن يكون الحيز الحاصل منه فى يمين العرش غير الحاصل منه فى يسار العرش فلزم كونه فى نفسه مؤلفًا مركبًا وذلك محال.

الوجه الخامس أن الجالس على العرش إن قدر على الحركة والانتقال كان محدثًا لأن ما لا ينفك عن الحركة والسكون كان محدثًا، وإن لم يقدر على الحركة كان كالمربوط بل كان كالزَّمِنِ بل أسوأ حالًا منه فإن الزَّمِنَ إذا شاء الحركة فى رأسه أو فى حدقته أمكنه ذلك وكذا المربوط وهو غير ممكن فى حق الله تعالى.

الوجه السادس أنه لو حصل فى العرش فإنه إن حصل فى سائر الأحياز لزم كونه مخالطًا للقاذورات والنجاسات وإن لم يكن كذلك كان له طرف ونهاية والزيادة والنقصان وكل ذلك على الله محال.

الوجه السابع قوله (ويحمل عرش بك فوقهم يومئذ ثمانية) فلو كان العرش مكانًا لمعبودهم لكانت الملائكة الذين يحملون العرش حاملين إله العالم وذلك غير معقول لأن الخالق هو الذى يحفظ المخلوق أما المخلوق فلا يحفظ الخالق.  ولا يحمله لا يقال هذا إنما يلزم إذا كان الإله معتمدًا على العرش لأن الاستقرار على الشىء إنما يحصل إذا كان معتمدًا عليه ألا ترى إنا إذا وصفنا جسمًا على الأرض قلنا إنه مستقر على الأرض ولا نقول الأرض مستقرة عليه والإنسان معتمد على الأرض والأرض غير معتمدة عليه فلو كان الإله معتمدًا على العرش فحينئذٍ لا يكون مستقرًا على العرش وعلى هذا التقدير يلزمهم ترك ظاهر الآية وحينئذ تخرج الآية عن كونها حجة.

الوجه الثامن أنه تعالى قال (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) وقوله (وهو معكم أين ما كنتم) وقوله (وهو الذى فى السماء إله وفى الأرض إله) ظاهره يَنْفِى كونه مستقرًا على العرش وليس تأويل هذه الآيات لِنَفْىِ الآيات التى تمسكوا بها على ظاهرها أولى من العكس.

الوجه التاسع أنه تعالى كان ولا عرش ولا مكان فلما خلق الخلق فيستحيل أن يقال إنه تعالى صار مستقرًا على العرش بعد أن لم يكن لأنه تعالى قال (ثم استوى على العرش) وكلمة ثم للتراخِى.

الوجه العاشر لو كان تعالى مستقرًا على العرش لكان الابتداء بتخليق العرش أولى من الابتداء بتخليق السماوات لأن على القول بأنه مستقر على العرش يكون العرش مكانًا له والسماوات مكان عبيده والأقرب إلى العقول أن يكون تهيئةُ مكان نفسه مقدمًا على تهيئة مكان البعيد ولكن من المعلوم أن تخليق السماوات مقدم على تخليق العرش بقوله تعالى (إن ربكم الله الذى خلق السماوات والأرض فى ستة أيام ثم استوى على العرش) وقد علمت أن حرف ثم للتراخِى.

وإذا قد علمت هذا فالدلائل العقلية التى قدمنا دليلًا منها يبطل كونه تعالى مختصًا بِشَىْءٍ من الجهات وإذا ثبت هذا ظهر أنه ليس المراد من الاستواء الاستقرار فوجب أن يكون المراد به هو الاستيلاء والقهر ونفاذ القدرة وجريان أحكام الإلـهية وهذا يستقيم على قانون اللغة قال الشاعر كما نقلوه فى كتبها

قد استوى بشر على العراق        من غير سيف ودم مهراق

والذى يقرر ذلك أن الله تعالى إنما أنزل القرءان بحسب عرف أهل اللسان وعادتهم ألا ترى أنه تعالى قال (وهو خادعهم) وقال (ومكروا ومكر الله) وقال (الله يستهزئ بهم) والمراد فى الكل أنه تعالى يعاملهم معاملة الخادعين والماكرين والمستهزئين فكذا ههنا المراد من الاستواء على العرش التدبير لأمر الملك والملكوت ونظيره أن القيام أصلٌ للانتصاب ثم يذكر بمعنى الشروع فى الأمر كما يقال قام بالـمُلْكِ فإن قيل هذا التأويل غير جائز لوجوه

الأول أن الاستيلاء عبارة عن حصول الغلبة بعد العجز وذلك فى حق الله تعالى محال.

الثانى أنه إنما يقال فلان استولى على كذا إذا كان له منازع ينازعه وذلك فى حق الله محال.

الثالث أنه إنما يقال فلان استولى على كذا إذا كان فلان المُستولى عليه موجودًا قبل ذلك وهذا فى حق الله محال لأن العرش إنما حدث بتكوينه وتخليقه.

الرابع الاستيلاء بمعنى هذا حاصلٌ بالنسبة إلى كل المخلوقات فلا يبقى لتخصيص العرش بالذكر فائدة.  أى أن مرادنا بالاستيلاء القهر وعلى هذا التقدير فقد زالت هذه المطاعن بأسرها فإن الله قاهر للعالم كله مع أنه هو خالقه من غير منازع ينازعه.

وأما تخصيص العرش بالذكر فهو لأنه أعظم المخلوقات فخص بالذكر لهذا السبب كما أنه خُصَّ بالذكر فى قوله تعالى (هو رب العرش العظيم) لهذا المعنى أى لتأكيد قهر الله تعالى لكل المخلوقات فإذا كان العرش وهو أعظم المخلوقات حجمًا مقهورًا لله عزَّ وجلَّ فما دونه بالأولى مقهور له تعالى. والله تعالى أعلم.


[١] المرجع رسالة الاستواء لابن طولون (مخطوط).