رسالة فِى بيان جواز التوسل[١]

قبسات من فوائد الشيخ المفتِى محمد سراج بن محمد سعيد الجبرتِىّ الشافعِىّ
المتوفى سنة ١٣٩٢هـ رحمه الله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذِى أنعم علينا بالإسلام وأكرمنا بأن جعلنا من أمة حبيبه محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المستحق للعبادة من جميع الأنام المتفرد فِى ألوهيته المتعالِى المتوحد فِى ربوبيته المستغنِى فِى علو ذاته وسمو صفاته عن أن تحيط به العقول أو تصل إلى حقيقته الأفهام وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله أفضل الخلائق وخاتم الرسل والأنبياء الكرام المنزل عليه القرءان العظيم الذِى هو نور من الله وكتاب مبين يهدِى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ودعا به إلى الله تعالى فبشر وأنذر ورغب وحذر ونهَى وأمر وبين وأوضح ويسَّر وما عسَّر حتى ترك أمته على المحجة البيضاء والشريعة الغراء المستمرة على الدوام فأسأل الله الكريم أن يصلِىَّ ويسلم على هذا النبِىّ العظيم صلاة وسلامًا يليقان بمقامه العالِى ويدومان بدوام الليالِى والأيام وعلى ءاله الطاهرين وأصحابة المكرمين القادة الأعلام ومن تبعهم بإحسان من هداة الأمة الذين هم ورثة الأنبياء من العلماء والأولياء ذوِى التُّقَى والإلهام.

أما بعد فيقول الفقير خادم طلبة العلم محمد سراج بن محمد سعيد الجبرتِىّ كتب إلِىَّ بعض طلبة العلم الذين تعلموا فِى الحجاز رسالة يقول فيها بَيِّن لنا هل التوسل والاستغاثة حقُّ الله تعالى فلا يجوز أن يُستعملا فِى غيرِهِ تعالى أم هما خِيَرةِ العبد إن شاء استغاث بالله تعالى وإن شاء استغاث بغيره فإننا اختلفنا فيما بيننا بعضُنا يقول لا يجوز التوسل والاستغاثة بنبِىّ مرسل ولا ملك مقرب ولا ولِىٍّ صالح لأن ذلك دعاء لغير الله والدعاء لغير الله رُوْحُ الشرك ويستدل قائل ذلك بالكتاب والسنة الصحيحة وأقوال السلف الصالح وبعضنا يقول يجوز ذلك ولا دليل له على ذلك من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح بَيِّن لنا ذلك فلم أُجبه عن ذلك لكثرة أشغالِى ولعدم من يُذَكِّرُنِى فهذا إن شاء الله أوان إنجاز ما طلبه منِى وأسأل الله أن يعيننِى على إتمام ذلك إنه ولِىّ التوفيق.

اعلم أن الكلام فِى القرءان عظيمٌ يحتاج إلى معرفة علم العربية وقواعد الأصول وعلم الأحاديث النبوية ومعرفة صحيحها من غيره لأنَّها المُبَيّنَة لمعانيه المرادة منه ويحتاج أيضًا إلى الاطّلاع على كلام المفسرين للقرءان من السلف الصالح وعلى أحوالهم وأقوالهم وطبقاتهم لأنهم هم الحجةُ بعد الكتاب والسنة ومن تكلم فِى القرءان من غير هذا الطريق فقد عرَّض نفسه للهلاك إذ قد ورد فِى أحاديث صحيحة الوعيد على القول بالرأىِ فِى القرءان فيجب على مَنْ يستدل بالقرءان على شىء من الأشياء أن يكون موافقًا للسنة الصحيحة وطريق السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم وما أجمعوا عليه لأنه ما مِن فِرْقَةٍ من الفرق الضالة إلا وهِى تستدل بالقرءان مع مخالفتها للسنة والسلف الصالح وتزعمُ مع ذلك أنها مُحِقَّة نسأل الله تعالى أن يحفظنا عما ابتلاهم به إنه رؤوف رحيم.

وأقول إن التوسل والتشفُّع وكذا الاستفتاحُ والاستعانةُ متقاربة فِى المعنى متَّحِدة فِى الاستعمال ومعنى ذلك طلب حصول ما يُرْجَى من الله ببركة مَن ذُكِرَ أو بِسببه وقد ورد ذلك فِى الكتاب والسنة الصحيحة ومِن فعلِ السلف وأقوالهم.

أما الكتاب فقوله تعالى (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية ذكر أهل التفسير أن اليهود كانوا يقولون اللهم انصرنا عليهم بالنبِىِّ المبعوث فِى ءاخر الزمان اهـ وهذا ما يقتضيه اللفظ إذ الاستفتاح طلب الفتح. وقوله تعالى (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ) الآية دلَّ على جواز الاستغاثة بغير الله تعالى ومع ذلك عَدَلُوا إلى السؤال من نبيهم لعِلْمهم أنه ذو منزلة عند ربهم فيجيبه وهم ليسوا كذلك وقد أجاب الله نبيَّهُ موسى عليه الصلاة والسلام وأخبرنا بذلك مادحًا نبيَّه ومذكِّرّا إنعامه عليهم بذلك. وقوله تعالى (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) الآية دلّ على أن وجوده فيهم أمانٌ لهم من وقوع العذاب عليهم وما ذلك إلا لرفعة قدره صلى الله عليه وسلم عند ربه وكرامته عليه حيث لم يعذِب مَنْ كذبوه وءاذَوْهُ مع إصرارهم على ذلك فكيف يقال فيمن ءَامَنَ به وأحبه وطلب من ربه أن يُؤَمّنه من عذابه وأن يعطيه مأموله به إنَّ ذلك لا يجوز وإنَّ ذلك شرك وإنه مثلُ دعاء الأصنام حاشا وكلا فإن الأصنام وجودها سبب لغضب الله ونزول عذابه على متخذيها ولا تسمع ولا تُبْصِر ولا تنفع ولا تشفع وإن زعم عبدَتُها أنها تشفع وهِى مبغوضةٌ عند الله عزَّ وجلَّ ومَنْ يحبها ويتقرب بها إلى الله على أىّ وجه كان مبغوضًا عند الله عزَّ وجلَّ وملعونًا.  وأولياؤه والصالحون من المؤمنين محبوبون عند الله تعالى ومحبتهم سبب لرحمة الله تعالى محبته فكيف يقاس مَن يكون سبب لنزول رحمة الله على ما يكون سبب لغضبه ولعنته ونزول عذابه فوالله إن هذا القول ما كان يُظَنُّ أن يقوله كافر عاقل فضلًا عن أن يكون يقوله مسلم فضلًا عن عالم سبحانك هذا بهتان عظيم.

وقوله تعالى (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) الآية دلّ على جواز الاستغاثة بغيره تعالى ممن لا تُكْرَه الاستغاثة به. وَوَجْهُ الدلالة أن الاستغاثة لو كانت حقًا لله تعالى مختصَّةً به غيرَ جائزة لما أضافها إلى نَبِيّهِ وكَلِيْمِهِ وَلَمَا أغاث نبِىُّ الله ذلك المستغيث به.

وقوله تعالى (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) الآية دلّ على أن صلاح الصالح نافع حتى بَعْدَ موته إذ جُعِل عِلَّة لإكرام ولدَيْه وكفَى بهذا دليلًا.

وقد اقتصرت فِى الاستدلال بهذه الآيات على هذه النبذة اليسيرة لِضِيْق الوقت وكثرة الأشغال وعسَى أن يوفقنِى الله لإشباع الكلام، وفِى هذا القدر كفاية لمن عنده أدنَى إيمان وأقلُّ إذعان.

وأما الأحاديث الصحيحة الواردة فِى ذلك فكثيرة ومن ذلك ما ذكره البخارِىّ وبَوَّبَ عليه فِى صحيحه فقال (باب من استغاث بالضعفاء والصالحين) وذكرَ فِى هذا الباب حديثين

أحدهما حديث سعد ابن أبِى وقاص رضِى الله عنه أنه رأى أنَّ له فضلًا على من دونه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تُنْصَرُون وُتُرْزقون إلا بضعفائكم، ورواه النسائِى عن سعد أيضًا بلفظِ أنه ظنَّ أنَّ له فضلًا على مَنْ دونه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنما نصر الله هذه الأمة بضعفائهم بدعواتهم وصلاتهم وإخلاصهم، ورواه أحمد والنسائِى عن أبِى الدرداء رضِى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عيله وسلم أما تُنصرون وتُرزقون بضعفائكم. دلَّ هذا الحديث على أن الله تعالى جعل عباده الصالحين سببًا لحصول الرزق والنصر، فماذا يقولُ أعداءُ الصالحين بعد بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك.  والحديث الثانِى سيأتِى إن شاء الله تعالى.

وعن خالد بن سعيد بن العاص عن أبيه قال قدِمَتْ بكرُ بن وائل مكة فقال النبِىُّ صلى الله عليه وسلم لأبِى بكر ائتهم فاعْرِضْ عليهم الإسلامَ والحديثُ طويل ومحل الشاهد منه قالوا هو شِعاركُم فنُصِروا على القوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بِى نُصُِروا رواه الطبرانِىُّ وقال الحافظ الهَيْثَمِىّ رجاله رجال الصحيح غيرَ خلَّاد بن عيسى وهو ثقة وفِى هذا الحديث دلالةُ بَيِّنَةٌ على عُلُوِّ قدرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعة منزلته حيث ذكر القومُ اسمه فِى الحرب فنصرهم الله تعالى ببركة ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم وإن شئت قُلْتَ باستنصارهم به كما أخبر بذلك أنهم نُصِروا به وذلك لَمَّا كان بمكة قبل الهجرة ففيه أكبر دلالة على التوسل به صلى الله عليه وسلم.

ورَوَى مسلمٌ فِى باب صحبة المماليك عن أبِى مسعود الأنصارِىّ رضِى الله عنه قال كنت أضرِبُ غلامًا لِى فسمعتُ من خلفِى صوتًا اعْلم أبا مسعود للهُ أقدرُ عليك منك عليه فالتفتُّ فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلتُ يا رسول الله هو حُرٌّ لوجه الله فقال أما لو لم تفعل للَفَحَتْكَ النار اهـ وفِى رواية له تلِى هذه عن أبِى مسعود أيضًا أنه كان يضرب غلامه فجعل يقول أعوذ بالله قال فجعل يضربه فقال أعوذ برسول الله فتركَه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم واللهِ للهُ أقدرُ عليك منك عليه فَأَعْتَقَهُ اهـ

وفِى هذا الحديث دلالة واضحة على التوسل به صلى الله عليه وسلم حيث استعاذ ذلك العبدُ به صلى الله عليه وسلم وأقرَّه على ذلك وأنكر على أبِى مسعود ضَرْبَه فلما أعتقه أعلمه أنه لو لم يُعتقه لَعُذِّبَ ومن شأنه صلى الله عليه وسلم أنه لا يقوم لغضبه شىء إذا انْتُهِكت حرُماتُ الله فلما لم يَزْجُرْ ذلك المملوك فِى قوله أعوذ برسول الله ولم يُنْكِر عليه عُلِم أن ذلك جائز وهذا أقلُّ درجاته.

وعن أُسَيْد بن عبد الله بن أُسَيْد رضِى الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح بصعاليك المسلمين وفِى رواية يستنصر بصعاليك المسلمين اهـ رواه الطبرانِىُّ قال الحافظ الهيثمِىّ رجال الرواية الأولى رجال الصحيح. وأخرج البخارِىّ عن أبِى سعيد الخدرِىّ رضِى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتِى على الناس زمان يغزوا فِئامٌ من الناس فيقال هل فيكم من صَحِبَ أصحابَ النبِىِّ صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيُفْتح لهم ثم يأتِى على الناس زمانٌ فيغزو فئام من الناس فيقال لهم هل فيكم من صاحَبَ مَنْ صَاحَبَ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم.

وأخرجه مسلم أيضًا ولفظه عن أبِى سعيد رضِى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتِى على الناس زمان يُبْعَث فيقولون انظروا هل تجدون فيكم أحدًا مِنْ أصحاب النبِىّ صلى الله عليه وسلم فيوجد الرجل فيفتح لهم به ثم يبعث البعث الثانِى فيقولون هل فيكم من رأى أصحاب النبِىّ صلى الله عليه وسلم فيفتح لهم ثم يبعث البعث الثالث فيقال انظُروا هل ترون فيهم مَنْ رأى مَنْ رأى أصحابَ النبِىّ صلى الله عليه وسلم ثم يكون البعث الرابع فيقال انظروا هل ترون فيهم أحدًا رأى من رأى أحدًا رأى أصحاب النبِىّ صلى الله عليه وسلم فيوجد الرجل فيفتح لهم.

وعن جابر رضِى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتين على الناس زمان يخرج الجيش من جيوشهم فيقال هل فيكم من صحب محمدًا فيستنصرون به فيُنصرون رواه أبو يعلَى من طريقين ورجالهما رجال الصحيح، قاله الحافظ الهيثمِىُّ.

وعن أبِى عبيد قال ذُكِرَ أهل الشام وهو عند علِىّ وهو بالعراق فقالوا الْعَنْهُم يا أمير المؤمنين قال لا إنِى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول البُدَلاء بالشام وهم أربعون رجلًا كلما مات رجل أبدل الله مكانه يُسْتَسقَى بهم الغيث وينصر بهم على الأعداء ويَصرِف الله عن أهل الشام بهم العذاب رواه الإمام أحمد فِى مسنده قال الحافظ الهيثمِىّ رجاله رجال الصحيح غير شُريْح بن عُبيد وهو ثقة اهـ

وأخبر صلى الله عليه وسلم بأن فِى أمته مَنْ يُستسقَى بهم الغيث ويُنْتَصَرُ بهم على الأعداء ويَصرف الله بهم العذاب.

وعن أنس رضِى الله عنه أن عمر بن الخطاب رضِى الله عنه كان إذا قحطوا استَسْقَى بالعباس بن عبد المطلب فقال اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسْقِيْنا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا قال فيُسْقَون رواه البخارِىّ فِى الصحيح فى الاستسقاء وفِى مناقب العباس وفِى هذا الحديث وجوهٌ فِى الدلالة على التوسل

أحدها أنه صريح فِى أن الصحابة كانوا يتوسلون به صلى الله عليه وسلم عمرُ وغيره بقوله كنا.

وثانيها أنهم كانوا يَعْلَمون أن التوسل بالصالحين إلى الله مَرْضِىٌّ عند الله وأنه أقربُ فِى حصول مرادهم من دعائهم بغير توسل.

وثالثها وقوعه بلفظ التوسل الذِى يكرهه المخالف فِى ذلك فهو نصٌّ فِى محل النزاع.

ورابعها يفيد إجماع الصحابة على ذلك لكونه بمَحْضَر جمْعٍ كثير من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وغيرهم من الصحابة ولم يُنْكِر ذلك أحدٌ وغيرُ ذلك مما يَظهر للمتأمل فيه.

وقد وقع بعد ذلك التوسل بالاستسقاء من الصحابة أيضًا قال الحافظ ابن حجر فِى التلخيص إنَّ معاوية استسقى بيزيد بن الأسود، أخرجه أبو زرعة الدمشقِىّ فِى تاريخه بسند صحيحٍ ورواه أبو القاسم اللالكائِىّ فِى السنة فِى كرامات الأولياء منه.

وروى ابن بشكوال عن ابن أبِى جميلة قال أصاب الناس قحط بدمشق فخرج الضحاك بن قيس يستسقِى فقال أين يزيد بن الأسود فقام وعليه بُرْنُسٌ ثم حمد الله وأثنَى عليه ثم قال أى رَبِّ إن عبادك تقربوا بِى إليك فاسقهم قال فما انصرفوا إلا وهم يخوضون فِى الماء ورَوَى أحمد فِى الزهد أن نحو ذلك وقع لمعاوية مع أبي مسلم الخولانِىّ اهـ

فإن قيل هذا فِى التوسل بالأحياء وهل لكم دليل على جواز التوسل بالأموات.  فالجواب ما فعله صلى الله عليه وسلم بنفسه شفاعة لفاطمة بنت أسد رضِى الله عنها وتعليمًا لأمته فعن أنس رضِى الله عنه فِى حديث وفاة فاطمة بنت أسد أمِّ علِى رضِى الله عنهما أن النبِىّ صلى الله عليه وسلم دخل قبرها فاضطجع فيه فقال اللهُ الذِى يحِى ويُميتُ وهو حِىٌّ لا يموت اغفر لأمِى فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها ووسع عليها مُدخَلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلِى فإنك أرحم الراحمين اهـ رواه الطبرانِى فِى الكبير والأوسط وهو حديث حسنٌ لغيره قال الحافظ الهيثمِىّ وفيه رَوْحُ بن صلاح وثقه بن حبان والحاكم وفيه ضُعف وبقية رجاله رجال الصحيح.

أقول له شاهدٌ صحيح وهو حديث عثمان بن حنيف وقد تقرر فِى علم الحديث أن ما قَصُر عن رُتبة الحسن إذا اعتضد بمثله وأولَى بما هو فوقه يَرْتقِى بذلك إلى درجة الحسن إذا لم يكن الضعف بكذب الراوِى أو تُهمتِهِ به وهنا لم يكن الراوِى شديد الضعف فضلًا عن أن يكون متَّهمًا بالكذب.

وفى هذا الحديث التوسل بالأموات لأن الأنبياء كلهم ماتوا ولم يصحَّ حياة أحد منهم إلا نبِىّ الله عيسى صلى الله عليه وسلم.

وعن عثمان بن حُنيف رضِى الله عنه أن رجلًا ضريرًا أتَى النبِىَّ صلى الله عليه وسلم فقال ادع الله أن يعافينِى قال إن شئت دعوتُ وإن شئتَ صبرتَ فهو خير لك قال فادعُه فأمره أن يتوضأ فيُحسِن الوضوء ويدْعُوَ بهذا الدعاء اللهم إنِىّ أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبِى الرحمة يا محمد إنِى أتوجه بك إلى ربِى فِى حاجتِى هذه لِتُقْضََى لِى اللهم فَشَفِّعْهُ فِىَّ اهـ رواه الإمام أحمد والترمذِى وقال حسن صحيح ورواه ابن ماجَه وابن خزيمة والحاكم وصححاه ولفظ رواية الحاكم فدعا بهذا الدعاء فقام وقد أبصر اهـ وهذا الحديث صَحَّحَهُ جمع من الحفاظ منهم الحافظ المنذرِىّ وصلاح الدين العلائِىّ والحافظان العراقِى وابن حجر العسقلانِىّ.

وفِى هذا الحديث إذن النبِىّ صلى الله عليه وسلم وَأَمْرُهُ بالتوسل به وفِى عُدُوْلِهِ عن الدعاء له بنفسه إلى تعليمه هذا الدعاء سِرٌ بديعٌ وذلك أنه يعلم أنه يموت فلا يتمكن مَنْ بعده أن يدعُوَ له بنفسه فَعَلَّمَهُ هذا الدعاء ليُمكن هذا الرجل وغيره أن يدعوا بهذا الدعاء فِى أىّ وقت شاء، وذلك من كما شفقته بأمته ورأفته بهم جزاه الله عن أمته ما هو أهله وليس فه دليل على اختصاص التوسل به فِى حياته صلى الله عليه وسلم لأنَّ النبِىّ فى مقام التشريع فلا يكون شىء من أمره أو نَهيِه مختصًا بأحد أو بذلك الوقت ونحوِ ذلك إلا بدليل صحيح صريح ولا دليل هنا على الاختصاص وقد ورد حديث صحيح يدل على العمل به بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.

فعن عثمان بن حنيف أن رجلًا كان يَخْتَلَفُ  إلى عثمان بن عفان رضى الله عنه فكان عثمان فى حاجة له فكان عثمان  لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته فلقِىَ عثمان بن حُنيف رضى الله عنه فشكى إليه فقال ايْتِ الميضأة فتوضأ ثم ايتِ المسجد فصلِّ فيه ركعتين ثم قُل اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبِىّ الرحمة يا محمد إنِىّ أتوجه بك إلى ربِى ليقضِىَ حاجتِى وتذكر حاجتك ورُحْ إلِىَّ حتى أَرُوْحَ معك فانطلق الرجل فصنع ما قال ثم أتى باب عثمان فجاء البواب فأخذ بيده فأدخله على فأجلسه على الطُّنْفُسَةِ وقال ما حاجتُك فذكر له حاجته فقضَى له ثم قال ما ذكرتُ حاجتك حتى كانت هذه الساعة وقال ما كان من حاجة فأتِنا ثم إن الرجل خرج من عنده فلقِىَ عثمان بن حنيف فقال جزاك الله خيرًا ما كان ينظر فِى حاجتِى ولا يلتفتُ إلِىّ حتى كَلَّمْتَهُ فِىَّ فقال عثمان بن حنيف والله ما كلمتُه ولكن شهدتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل ضريرٌ فشكَى إليه ذهاب بصره فقال له النبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَدْعُوْ أو تَصبِر فقال يا رسول الله إنه ليس لِى قائد ويشُق علِىَّ فقال له النبِىُّ صلى الله عليه وسلم اِئتِ الميضأة فتوضأ ثم صلِّ ركعتين ثم ادعُ بهذه الكلمات قال عثمان بن حنيف والله ما تفرَّقنا ولا طال بنا الحديثُ حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط اهـ رواه الطبرانِىّ بطرق وقال بعد ذكره طرقه والحديث صحيح.

وهذا الحديث صححه ابن خزيمة شيخ الطبرانِىّ والحاكم وقال على شرط الشيخين وصححه من المتأخرين المنذرِىّ والشرف الدمياطِىّ والحافظ ابن حجر والسيوطِىّ. ففِى الحديث زيادةً على ما تقدم دلالةٌ ظاهرةٌ فى التوسل به صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لأن هذا الصحابِىّ عمل به كما ترى حيث علَّمه ذلك الرجل وأمره أن يعمل به وذلك فى زمان عثمان بن عفان رضى الله عنه ولا مخالف له فى ذلك على أننا فى غِنًى عن إقامة الأدلة على ذلك بذلك الحديث الصحيح الذِى أخرجه الترمذِىُّ وغيره وهو شاهد لهذا الحديث وأنَّ المانع لذلك يحتاج إلى دليل صحيح صريح ولا يجد إلى ذلك سبيلًا.

فعُلِم بما ذكرنا أن التوسل بنبِى مرسل وملك مقرب وولِىٍّ صالح ثابتٌ بالكتاب والسنة وجائزٌ بل هو سنةٌ ثابتةٌ وقُربةٌ إلى الله تعالى وفَعَلَهُ النبِىُّ صلى الله عليه وسلم وصدر الأمر به عنه، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ أمته تُنْصر وترزق بضعفائها، وأخبر عن الذين ذكروا اسمه فِى محاربة عدوهم ونُصِروا أنهم نُصِروا به، وأخبر أن التابعين يتوسلون بأصحابه وأن أتباع التابعين يتوسلون بالتابعين وأن أتباع أتباع أتباع التابعين كما فِى رواية مسلم يتوسلون بأتباع أتباع أتباع التابعين ووقع كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ولولا ضيْقُ الوقت لكتبت الوقائع التِى وقعت من التابعين فى توسلهم بالصحابة ومن تابعِى التابعين وغير ذلك مما ظهرت فيه معجزات النبِىّ صلى الله عليه وسلم فِى إخباره بالمُغَيَّبات فوقعت كما أخبر.

إذا تقرر هذا فالذِى يقول إنه يستدل بالكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح مخطِئٌ خطأً فاحشًا إن كان مقلِّدًا وإلا فهو كاذبٌ على السلف.

وبالجملة فسبيل السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة بعدهم بل وجميع المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها ويمنِها وشامِها هو أنَّ التوسل إلى الله تعالى بأنبيائه وأصفيائه الصالحين جائز ومَرْضَىٌّ عند الله تعالى شَرَعَهُ على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وأجمعوا على ذلك قولًا وعملًا إلا شذوذًا لا يُعْبأُ بهم إذ ليس لأحدٍ مع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالٌ فإنه محجوجٌ بكلامه وواجبٌ عليه الرجوع إلى قوله صلى الله عليه وسلم وأنَّ الذِى يزعُم أن ذلك شِرك فهو يُريد أن يَرُدَّ على النبِىِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما قال رئيسُ الخوارج ذو الخُوَيْصِرَةِ التميمىُّ للنبِىّ صلى الله عليه وسلم اِعْدِلْ فقال له صلى الله عليه وسلم وَيْلك من يعدل إن لم أعدل اهـ وقال أيضًا فِى قسمة قسمها صلى الله عليه وسلم هذه قسمة ما أريد بها وجه الله فقال عمر أو خالد ائذن لِى يا رسول الله أَضْرِبْ عنق هذا المنافق فقال النبِىُّ صلى الله عليه وسلم دَعْهُ لا يتحدَّثُ الناس أن محمدًا يقتل أصحابه فلما ولَّى ذلك الرجل قال النبِىُّ صلى الله عليه وسلم إنَّ مِنْ ضِْئضِئِ هذا قومًا يقرؤون القرءان لا يتجاوز حناجرهم يَمْرقون من الدين مروق السهم من الرَّمِيَّة وفِى رواية إنَّ له أصحابًا تَحْقِرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة الحديثَ بمعناه وهو مشهور فى الصحيحين وغيرهما.

ومن لم يَرْضَ بما سَنَّهُ رسول الله صلى الله وسلم وعمل به الصحابة والتابعون وتابعوهم ثم جميع المسلمين إلى هذا الوقت شرقًا وغربًا ويمينًا وشمالًا فهو مبتدعٌ مفتونٌ يجب عليه الرجوع إلى الحق إن كان يحب لنفسه النجاة ورَمْيهُ المسلمين بالشرك يرجع وبالُ ذلك عليه كما ثبت ذلك فى الصحيح وقد قال الله تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا).

وأول من ابتدع هذه البدعة هو أبو العباس أحمد ابن تيمية فأنكر علماء عصره قاطبة وبَدَّعُوهُ بل كفَّرَهُ بعضهم وسُجِنَ ومات فِى السجن، وكذلك أتباعُهُ لم يزل العلماء ينهون الناس عن اتباعهم ولكنهم لِمَا قدَّر الله عليهم من الضلال كتبوا على مذهب شيخهم الذِى خرق به إجماع المسلمين ثم خمَدَ مذهبه فلم يَتِق لِمُنْتحِلِى مذهبه شوكةٌ حتى جاء محمد بن عبد الوهاب النجدِىُّ فِى أوائل القرن الثانِى عشر فدعا إلى مذهب ابن تيمية وتبعه أهل المشرق من أهل نجد الحجاز ومن يقرب منهم فآذوا المسلمين وسفكوا دماءهم.

فظهر بذلك وبما تقدم عليهم من حوادثِ أهلِ المشرقِ أهلِ نجدٍ ومَن حولهم وإفسادِهِمْ مثل ما وقع لأبِى طاهر القُرْمُطِىّ قبحه الله الذِى أخذ الحجر الأسود وذهب به إلى بلاده وغير ذلك مصداقُ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتنة ههنا الفتنة ههنا وأشار بيده نحو المشرق اهـ وظهر أيضًا سِرُّ إبائه صلى الله عليه وسلم الدعاءَ لأهل نجد لمَّا طُلب ذلك منه حين قال اللهم بارك لنا فِى شامنا اللهم بارك لنا فِى يمننا قالوا يا رسول الله وفِى نجدنا قال اللهم بارك فِى شامنا اللهم بارك لنا فِى يمننا قالوا يا رسول الله وفِى نجدنا قال اللهم بارك لنا فِى شامنا اللهم بارك لنا فِى يمننا قالوا وفِى نجدنا يا رسول الله قال هناك الزلازل والفِتَنُ وبها يطلع قرن الشيطان اهـ رواه البخارِىّ فِى الصحيح وقد ظهرت بركة دعائه صلى الله عليه وسلم فِى الشام واليمن بكثرة العلم والعلماء وقوة الدين وكثرة المصنفات فِى كل وقت ولا يُعْلَم من ذلك شىء يُعْرَفُ فِى أهل نجد والذِى يظهر من الشر والفتنة فيهم أكثر من أهل الخير.

والذِى ظهروا به الآن هو مثلُ مذهب الخوارج حيث كفَّروا الصحابة وسفكُوا دماء المسلمين وادّعَوْا أنَّ مَن لم يكن على عقيدتهم فهو كافر، انظر فتح البارِى جزء ١٢ فى باب قتل الخوارج من كتاب استتابة المرتدين والمعاندين، وهؤلاء كما ترى يرمون المسلمين بالشرك ويستدلون على ذلك بآيات وردت فِى عبدة الأصنام بِحَمْلها على المسلمين قال عبد الله بن عمر رضِى الله عنهما فِى الخوارج إنهم انطلقوا إلى ءايات نزلت فِى عبدة الأصنام فجعلوها على المؤمنين اهـ

وكان ابن عمر يراهُم شِرار خلق الله ذكر ذلك عنه البخارِىّ فِى باب قتل الخوارج والملحدين فِى الجزء التاسع.

فإذا ثبت ذلك كلُّه ثبت أن الوهابية على خطأ عظيم وأنهم على خلاف مذهب الصحابة والسلف الصالح وإن زعموا أنهم على مذهب السلف لأنهم يرمُون المسلين بالشرك وليس هذا مذهبَ السلف بل هو مذهبُ الخوارج.

ورى الحافظ أبو يعلَى والطبرانِىّ فِى الكبير عن جابر بن عبد الله رضِى الله عنهما أنه سأله رجل هل كُنتم تدْعُون أحدًا من أهل القبلة مُشْرِكًا قال معاذ الله قال هل كنتم تدعون أحدًا منهم كافرًا قال اهـ لا قال الحافظ الهيثمِىّ رجاله رجال الصحيح وفِى هذا القدر كفاية لمن عنده إيمان وإنصاف والله سبحانه وتعالى أعلم.

كتبه محمد سراج بن محمد سعيد الجبرتِىّ الآنِىّ


[١] المرجع رسالة الشيخ المفتِى محمد سراج فِى التوسل المطبوعة فِى الحبشة والتِى وزعها ولده الشيخ محمد بن المفتِى محمد سراج.