زراعة العضو في نفس الجسم الذي اقتطع منه[١]

قبسات من فوائد عالم فاس
الشيخ الفقية الأصولِىّ محمد بن محمد التاويل
المتوفى سنة ١٤٣٦هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم.  لزراعة العضو فى نفس الجسم الذِى اقتطع منه حالتان الحالة الأولى إعادة ما قطع من الإنسان بسبب جناية عليه أو بسبب حادث عرضِىٍّ إلى مكانه الذِى قطع منه ورَدُّهُ إلى جسم صاحبه.

وهذه الحالة عرفها الفقه الإسلامِى مبكرًا منذ عهد التابعين ودرسها من زوايا مختلفة من بينها جواز رَدِّها ومنعه، وقال فيها كلمته التِى جاءت متباينةً طرفان ووسط، فقال الشافعِىّ وسعيد بن الُمسيب والثورِىّ وأحمد فيمن قلعت سِنُّهُ أو قطعت أذنه لا يجوز له أن يردها ويلزمه قلعها إذا رَدَّها والتأمَتْ ويجبره السلطان على قطعها إذا أبَى ويعيد كل صلاة صلاها بها. وردَّهُ ابن العربِىّ وقال هذا غلط وقد جهل من خفِىَ عليه أن ردها وعودها بصورتها لا يوجب عودها بحكمها لأن النجاسة كانت فيها للانفصال وقد عادت متصلة[٢] وتؤيده القاعدة الأصولية أن الحكم يدور مع العلة وجودًا وعدمًا.

وقال عطاء بن أبِى رباح وعطاء الخراسانِى لا بأس بردها[٣].  وقال إمام الحرمين المذهب أن الآدمِىّ لا ينجس بالموت، وقال القول بنجاسة ما قطع من الإنسان غلط[٤] وصحح القول بطهارته كطهارة أعضائه بعد الموت[٥] وهو الجارِى على المشهور والأظهر في المذهب المالكِىّ الذِى يرَى طهارة الإنسان حيًا وميتًا وطهارة ما قطع منه في حياته وبعد موته[٦] لقوله صلى الله عليه وسلم (المؤمن لا ينجس)[٧] وحديث أبِى هريرة رضِى الله عنه (إن المسلم لا ينجس)[٨] وقال ابن عباس رضِى الله عنهما المسلم لا ينجس حيًا ولا ميتًا[٩] ومن هنا قال المالكية فيمن سقطت سِنُّهُ وأسنانه أنه يجوز له ردها وتثبيتها بشريط من ذهب أو فضة إذا احتاج لذلك ففِى الدسوقِى فإذا سقطت السن جاز ردها وربطها بشريط من ذهب أو فضة وإنما جاز ردها لأن ميتة الآدمِى طاهرة[١٠] وإذا كانت طاهرة فلا مانع ولا محظور في التداوِى بالطاهر بل هو المطلوب ومثل السن غيرها من سائر الأعضاء ومقابل المشهور المنع قال ابن سحنون لا بأس أن يُدَاوِىَ جرحه بعظام الأنعام المذكاة ولا يداويه بعظام ميتة أو عظام إنسان أو خنزير ولا بعظام ما لا يحل أكله من الدواب[١١]  فقد سوَى بين عظام الإنسان وعظام الخنزير والميتة في المنع من التداوِى بها ولا فرق بين العظام وغيرها من الأعضاء كل ذلك لا يجوز عنده وإنما اقتصر على العظام لأنها المستعملة فِى العلاج في وقته.

وفِى مختصر الطحاوِى[١٢] ويكره لمن بانت منه سِنُّهُ أن يعيدها كذا كان أبو حنيفة رضِى الله عنه يقول وكان يقول قد صارت ميتة كذا رواه أبو يوسف رضِى الله عنه فِى أماليه وقد رُوِىَ خلاف ذلك وإباحة إعادة السن إلى مكانها وقال العظم لا يموت وبه نأخذ وأما أبو يوسف رضِى الله عنه فكان لا يرَى بذلك بأسًا اهـ وفيه أيضًا[١٣] ومن تحركت سِنُّهُ ولم تبن منه فلا بأس أن يشدها بالفضة وكره أبو حنيفة أن يشدها بالذهب ولم ير محمد رضوان الله عليه بذلك بأسًا اهـ وفِى التعليق على الطحاوِى روَى الطبرانِىّ عن عبد الله بن عمر رضِى الله عنهما أن أباه سقطت ثنيته فأمره النبِىّ صلى الله عليه وسلم أن يشدها بذهب[١٤] وعن عبد الله بن أُبَىّ بن سلول رضِى الله عنه قال اندقت ثنيتِى يوم أحد فأمرنِى النبِىّ صلى الله عليه وسلم أن أتخذ ثنية من ذهب وروَى الطبرانِىّ عن محمد بن سعدان عن أبيه قال رأيت أنس بن مالك رضِى الله عنه يطوف به بنوه حول البيت على سواعدهم وقد شدوا أسنانه بذهب[١٥].

وللحنابلة قولان الأول قول أحمد وهو مثل قول الشافعِىّ أنه لا يجوز ردّ العضو المقطوع ويجبر السلطان على قلعه، والثانِى مثل قول المالكية وعطاء أنه لا بأس برده وهو الأصح عندهم.

أما الحنفية فمذهبهم منع الانتفاع بأىّ جزء من أجزاء الإنسان ومنع التداوِى بعظامه. يقول صحاب الفتاوِى الهندية الانتفاع بأجزاء الآدمِى لا يجوز قيل للنجاسة وقيل للكراهة وهو الصحيح، ويقول أيضًا ولا بأس بالتداوِى بالعظم إلا عظم الخنزير والآدمِىّ فإنه يكره التداوِى بهما[١٦].

وبناء على هذا فإنه لا يجوز عندهم ردّ ما انفصل من جسم الإنسان إلى موضعه إلا أنهم لا يتشددون تشدد الشافعِى ولا يجبرونه على نزعه بعد رده، وقالوا فيمن ردّ سنه أو أذنه فثبتا يسقط حقه فِى القصاص أو الدية وقيل يجب له الأرش، جاء في الفتاوِى البزازية ولو أثبت المقلوع سنه مكانها فالتحمت أو الأذن المقطوعة مكانها فالتصقت يجب الأرش كاملًا لأنها لا تثبت كما كانت وقال بكر فإن ثبتت بلا تفاوت سقط الواجب، ومثله في الفتاوِى الهندية[١٧] وهو الجارِى على مذهبهم فِى أن النهِى لا يفيد الفساد.

والخلاصة أن هناك ثلاثة ءَارَاءٍ الأول يجوز ردّه وبقاؤه وصحة الصلاة به والثانِى لا يجوز ردّه وإذا ردّه لا يجب فصله والثالث لا يجوز رده ويجبره السلطان على إبانته.

وربما استدل بعضهم للأول برده صلى الله عليه وسلم عين قتادة بعد سقوطها وهو استدلال غير دقيق فإن عين قتادة بقيت متصلة بمحلها وإنما تدلت على وجنته ولم تنفصل كما تدل على ذلك رواية البغوِىّ وأبِى يعلَى بسندهما عن قتادة أنه أصيبت عينه يوم بدر فسالت حدقتها على وجنتيه فأرادوا أن يقطعوها فقالوا لا حتى نستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأمروه فقال لا ثم دعا به فوضع راحته على حدقته ثم غمزها فكان لا يدرِى أىُّ عينيه ذهب[١٨].

الحالة الثانية هِى حالة استئصال جزء من جسم الإنسان وزرعه فِى مكان ءاخر من نفس الجسم الذِى اقتطع منه كما يقع فِى استئصال الشرايين من جسم المريض لتعويض شرايين القلب عند انسدادها وسلخ قطعة من جلد المريض وزرعها فِى مكان ءاخر وهِى حالة صَدَرَتْ بعضُ الفتاوَى المعاصرة لشيوخ سعوديين بجوازها وهِى فتوَى تتنافَى مع ما سبق عن الشافعية والحنفية وبعض الحنابلة من أنه لا يجوز ردّ العضو المقطوع فِى جناية أو حادثة لأنهم إذا منعوا ردّ المقطوع فأحرى أن يمنعوا قطع العضو الحِىّ ابتداءً ليزرع فِى مكان ءاخر بعد قطعه لأن علة المنع عندهم موجودة فِى المقطوع أولًا وفِى المستأصل حديثًا والحكم يدور مع العلة وجودًا وعدمًا يلزم من وجودها وجوده ومن عدمها عدمه.

كما تتنافَى مع باقِى أدلة المنع من استئصال عضو من إنسان حِىٍّ لزرعِهِ فى جسم ءَاخَرَ التِى يأتِى بيانها. وقد يستدل البعض أو يستأنس بما روِىَ عن عائشة رضِى الله عنها في جوابها للمرأة التِى سألتها عن الكلف فِى الوجه فقالت لها (لقد كنا فِى زمن النبِىّ صلى الله عليه وسلم لو أن إحدانا كانت إحدى عينيها أحسن من الأخرَى فقيل لها انتزعيها وحوليها مكان الأخرَى وانتزعِى الأخرَى فحوليها مكانها ثم ظنت أن ذلك يسوغ لها ما رأينا به بأسًا).  وهو استدلال لا ينهض ولا يصح الاحتجاج به لعملية نقل عضو من الجسم لزرعه فِى مكان ءاخر من نفس الجسم.

أولًا لأنَّه خبر لا تُعْلَمُ صحته وقد أشار إليه القرطبِىّ وصرح بعدم صحته[١٩].

ثانيًا لأن عائشة رضِى الله عنها لم تفتها بالجواز بل علقت عملية النقل والتحويل على ظنّ الجواز ألا ترَى إلى قولها (ثم ظنت أن ذلك يسوغ لها ما رأينا به بأسًا) فهِىَ لم تسمح بذلك إلا بعد التأكد من جواز ذلك شرعًا وقد يكون في كلامها إشارةٌ إلى منع ذلك كما تفيده كلمة لو فِى جوابها فإنها حرف امتناع لامتناع أى امتناع نقل العين وتحويلها لامتناع ذلك شرعًا لا لألم وكأنها بهذا الجواب ترغب المرأة فِى طاعة زوجها فِى مباح يطلبه منها حتى لو كان تحويل أعز أعضائها من مكان إلى مكان إذا كان أمرًا جائزًا وسائغًا هذا ما قصدته عائشة رضِى الله عنها ولم تقصد جواز نقل العين من مكان إلى مكان أى على تقدير صحة الأثر.

وثالثًا هو مخالف لفتواها لعبد الله بن عباس حين أراد علاج عينه فقد روِىَ عن ابن عباس رضِى الله عنهما أنه لما كفّ بصره أتاه رجل فقال لو صبرت سبعة أيام لم تصلِ إلا مستلقيًا داويتَ عينك ورجوتُ أن تبرأ فأرسل فِى ذلك إلى عائشة وأبِى هريرة وغيرهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه فكلٌ قال له إن متّ فِى هذه الأيام ما الذِى تصنع بالصلاة فترك معالجة نفسه[٢٠]. فهذه عائشة وجماعة من الصحابة رضِى الله عنهم لا يرون جواز العلاج المؤدِى إلى ترك ركن من أركان الصلاة وإذا لم تُجِزْ علاجَ العين المؤدِى لترك القيام فِى الصلاة فكيف تُفْتِى بقلعها من مكانها واستئصالها ونقلها إلى مكان ءاخر.

ورابعًا هو مخالف لفتواها بمنع قشر الوجه فقد سُئِلَتْ عن قشر الوجه فقالت إن كان فى شىء ولدَتْ وهو بها فلا يحل لها إخراجه وإن كان فِى شىء حدث فلا بأس بقشره[٢١].

والله تعالى أعلم.


[١] المرجع كتاب زراعة الأعضاء من خلال المنظور الشرعِىّ للشيخ محمد التاويل رحمه الله تعالى.

[٢] أحكام القرءان لابن عربِى ٢/٦٣٠.

[٣] الجامع لأحكام القرءان ٦/١٢٩.

[٤] نهاية المطلب في دراية المذهب ١/٢٤٨.

[٥] المرجع نفسه ١/٢٥.

[٦] خليل بشرح الدردير ١/٥٣-٥٤.

[٧] رواه البخاري كتاب الجنائز باب غسل الميت ووضوئه بالماء والسدر.

[٨] مسلم كتاب الحيض باب الدليل على أن المسلم لا ينجس.

[٩] رواه الحاكم في كتاب الجنائز برقم ١٤٢٢ وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

[١٠] حاشية الدسوقِى ١/٦٣.

[١١] الرهونِى ١/٨٤.

[١٢] مختصر الطحاوِىّ ص ٤٣٧.

[١٣] مختصر الطحاوِىّ ص ٤٣٢.

[١٤] رواه الطبرانِى في المعجم الكبير رقم ٩٢٧.

[١٥] رواه الطبرانِى في المعجم الكبير برقم ٦٦٦.

[١٦] الفتاوِى الهندية ٥/٢٥٠ وفِى المعيار ١/٩٣ عن سحنون المنع.

[١٧] الفتاوِى الهندية ٦/٢٠٦.

[١٨] الإصابة ٥/٢٣٠.

[١٩] الجامع لأحكام القرءان ٥/٢٣٥.

[٢٠] المغنِى ٢/١٤٧.

[٢١] التوضيح شرح الجامع الصحيح ٢٥/٤٥.