زراعة عضو استؤصل فِى حدٍّ أو قَصاص[١]
(المسألة الثانية والثالثة والرابعة)

قبسات من فوائد مدير جامعة دار العلوم فِى كراتشِى
الشيخ محمد تقِىّ ابن المفتِى محمد شفيع العثمانِىّ حفظه الله

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وسلم. أما بعد فقد خلصنا فِى بحث المسألة الأولى إلى أن الجمهور قد ذهب إلى أنَّ المجنِىَّ عليه إذ أعاد زرع عضوه المبان لم يسقط القصاص ولا الأرش عن الجانِى والآن فبحثنا إن شاء الله فِى

المسألة الثانية إعادة الجانِى عضوه المقطوع بالقصاص

المسألة الثانية هِى أن الجانى إذا قُطع عضوه من القصاص فأعاده إلى محله بعد استيفاء القصاص هل يعتبر ذلك مخالفة لأمر القصاص فيقتص منه مرة أخرى؟ أو لا يعتبر؟

جزم الإمام الشافعِىّ رحمه الله تعالى بأن القصاص قد حصل بإبانة عضو الجانِى مرة فلو أعاده إلى محله فإنه لا يلغِى استيفاء القصاص السابق فلا يُقتص منه مرّة ثانية وإن ترك العضو المزروع فِى محله لا يعتبر مخالفة لأمر القصاص.  قال رحمه الله بعد بيان المسألة الأولى وهِى إعادة المجنى عليه عضوه إلى محلّه (وإن لم يثبته المجنِى عليه أو أراد إثباته فلم يثبت[٢] وأقص من الجانِى عليه فأثبته فثبت لم يكن على الجانِى أكثر من أن يبان منه مرّة وإن سأل المجنى عليه الوالِى أن يقطعه من الجانِى ثانية لم يقطعه الوالِى للقَوَد لأنه قد أتَى بالقَوَد مرّة إلا أن يقطعه لأنه ألصق به ميتة.[٣]

فظهر أن الجانى لا يمنع من ذلك ولا يقطع عضوه مرة ثانية لمخالفتـه لموجب القصاص. وأما ما ذكره الشافعِىّ رحمه الله من الأمر بقطعه بسبب إلصاق الميتة فسيجىء الكلام على ذلك تحت المسألة الثالثة إن شاء الله تعالى.

وأما الحنابلة فعندهم فِى هذه المسألة قولان أحدهما موافق للشافعية وجزم به ابن قدامة فِى المغنِى فقال (وإن قطع أُذُنَ إنسانٍ فاستوفِى منه فألصق الجانِى أذنه فالتصقتْ وطلب المجنىُّ عليه إبانتها لم يكن له ذلك لأنَّ الإبانة قد حصلت والقصاص قد استوفِى فلـم يبقَ له قبله حـق ثم قال (والحكـم فِى السنّ كالحكم فِى الأذن)[٤].

وكذلك جزم القاضِى أبو يعلى بأنه لا يقتص منه ثانيًا فقال (فإذا قطعنا بها أُذُنَ الجانِى ثم ألصقها الجانى فإن قال المجنىُّ عليه ألصق أذنه بعد أن أثبتها أزيلوها عنه قلنا بقولك لا نزيلها لأن القصاص وجب بالإبانة وقد وجد ذلك[٥].

ولكن جزم ابن مفلح فِى الفروع بأنه يقتص من الجانِى مرة ثانية فقال (ولو ردّ الملتحم الجانى أقيد ثانية فِى المنصوص)[٦].

واختاره المرداوِىّ والبهوتِىّ أيضًا، قال البهوتِىّ (ومن قطعت أذنه ونحوها كمارِنِه قصاصًا فألصقها فالتصقتْ فطلب المجنِىُّ عليه إبانتها لم يكن له ذلك لأنه استوفِى القصاص. قَطَعَ به فِى المغنِى والشرح.  والمنصوصُ أنه يقاد ثانيًا اقتصر عليه فِى الفروع وقدمه فِى المحرر وغيره. قال فِى الإنصاف[٧] فِى ديات الأعضاء ومنافعها أُقيد ثانية على الصحيح من المذهب. وقطع به فِى التنقيح هناك وتبعه فِى المنتهى. قال فِى شرحه للمجنِىِّ عليه إبانته ثانيًا نصَّ عليه لأنه أبان عضوًا من غيره دومًا فوجبت إبانته منه دوامًا لتحقق المقاصة[٨].

وأما المالكية فقد ذكروا إعادة المجنِىّ عليه عضوه كما نقلنا عنهم فِى المسألة الأولى ولم يذكروا إعادة الجانِى عضوه بعد القصاص بهذه الصَّراحة التِى وجدناها فِى كتب الشافعية والحنابلة، ولكن وجدتُ للمسألة ذكرًا مختصرًا فِى كلام ابن رشد رحمه الله حيث يقول (فإن اقتص بعد أن عادا لهيئتها فعادت أذن المقتصّ منه أو عينه فذلك وإن لم يعودا أو قد كانت عادت سنّ الأول أو أذنه فلا شىء له وإن عادت سنّ المُستقاد منه أو أُذُنه ولم تكن عـادت سنّ الأول ولا أذنه غُـرِّم العقل. قالـه أشهب فِى كتـاب ابن الموَّاز[٩].

وحاصله أن إعادة الجانِى عضوه إنما لا يؤثر فِى القصاص إذا كان المجنِىُّ عليه أعاد عضوه أيضًا أما إذا لم يعد المجنِى عليه وأعاده الجانِى فإنَّ الجانِى يُغرَّم العقل.

أما الحنفية فلم أجد عندهم مسألة إعادة الجانى عضوه ولكن ذكر فِى الفتاوَى الهندية عن المحيط مسألة تشابه ما نحن فيه وهِى ما إذا قلع رجل ثنية رجل عمدًا فاقتص له من ثنية القالع ثم نبتت ثنية المقتصّ منه لم يكن للمقتصّ له أن يقلع تلك الثنية التى نبتت ثانيًا[١٠].

وهذا يدل على أنَّ الأصل عند الحنفية أنَّ المجنِىَّ عليه إنما يستحق إبانة عضو الجانِى مرّة واحدة وليس من حقِهِ أن يبقِى العضو فائتًا على الدوام فالظاهر أن مذهبهم مثل مذهب الشافعية فِى هذه المسألة[١١].

المسألة الثالثة هل العضوُ المزروع فِى المسألتين نجسٌ

كل ما قدمنا كان يتعلق بمسألة القصاص وإنما نظرنا إلى الآن فِى مسألة زراعة العضو المقطوع من حيث أنه يعارض مقتضى الحكم بالقصاص أو لا.  وننتقل الآن إلى مسألة أخرى وهِى هل يجوز للمجنِىّ عليه أو الجانِى ديانةً أن يعيد عضوهما المبان إلى محلّه؟ وهل يعتبر ذلك العضو طاهرًا أو نجسًا؟ وهل تجوز الصلاة معه أو لا يجوز؟

وإنما نشأت هذه المسألة لأن الفقهاء قد اختلفوا فِى العضو المبان من الحِىِّ هل هو طاهر أم نجس؟  فذهبت جماعة إلى أن كل ما أبين من الحى فهو نجس على الإطلاق استدلالًا بقوله عليه السلام ما قطع من حَىٍّ فهو ميت[١٢] اهـ  وبما رواه أبو واقد الليثِىّ رضى الله عنه قال قد النبى صلى الله عليه وسلم المدينة وهو يُجبّون أسنمة الإبل ويقطعون أليات الغنم فقال ما يقطع من البهيمة وهى حيّةٌ فهو ميت[١٣].

فذهب الشافعِىّ رحمه الله إلى أن هذا الحكم عامّ لكل حَىِّ فقال فِى كتاب الأم (وإذا كُسِرَ للمرأة عظم فطار فلا يجوز أن ترقعه إلا بعظم ما يؤكل لحكم ذكيًا وكذلك إن سقطت سنُّه صارة ميتة فلا يجوز له أن يعيدها بعدما بانت) ثم قال (وإن رقع عظمه بعظم ميتَة أو ذَكِىّ لا يؤكل لحمه أو عظم إنسان فهو كالميتة فعليه قلعه وإعادة كل صلاة صلاها وهو عليه فإن لم يقلعه جبره السلطان على قلعه[١٤].

وما نقلنا عنه فِى المسألة الثانية من قوله (وإن سأل المجنِىُّ عليه الوالى أن يقطعه من الجانِى ثانية لم يقطعه الوالى للقود لأنه قد أتى بالقود مرّة إلا أن يقطعـه لأن ألصق به ميتة[١٥]. فكأن الإمام الشافعى رحمه الله حسب ما يبدو من كتاب الأم لا يرى فِى إعادة الجانى عضوه مانعًا من حيث مخالفته لمقتضَى القصاص ولكنه لا يراه جائزًا من حيث أن العضو المبان نجس فلا يجوز إلحاقه بالجسم ولو ألحقه أمره السلطان بالقلع لكونه مانعًا من صحة الصلاةز

ولكننا إذ نراجع كتب الشافعية المعتبرة نجد أن معظمهم اختاروا طهارة جزء الآدمِىّ وإن بان منه حال حياته فيقول النووِىّ رحمه الله (الأصل أن ما انفصل من حَىّ فهو نجس ويُستثنى الشعر المجزوز من مأكول اللحم فِى الحياة) ثم قال (ويستثنى أيضاً شعر الآدمىّ والعضو المبان منه) قال (فهذه كلها طاهرة على المذهب)[١٦].

ويقول الشربينىّ الخطيب رحمه الله (والجزء المنفصل من الحيوان الحىّ ومشيمته كميتته أى ذلك الحىّ إن طاهرًا فطاهر وإن نجسًا فنجس) ثم قال (فالمنفصل من الآدمى أو السمك أو الجراد طاهر ومن غيرها نجس[١٧].

ويقول الرملىّ رحمه الله (والجزء المنفصل بنفسه أو بفعل فاعل من الحيوان الحِىّ كميتته طهارة وضدها) قال (فاليد من الآدمىّ طاهرة ولو مقطوعة فِى سرقة)[١٨].

ويذكر الشبراملسِىّ تحته (انظر لو اتصل الجزء المذكور بأصله وحلته الحياة فهل يطهر ويؤكل بعد الذكية أو لا ونظيره ما لو أحيا الله الميتة ثم ذكيت ولا يظهر فِى هذه إلا الحلّ فكذا الأُولى[١٩].

وهذا يدل على أن العضو المبان من الآدمى الحىّ طاهر مطلقًا وأما العضو المنفصل من غيره[٢٠] فإنما يحكم بنجاسته إذا لم يتصل بعد الإبانة بمحلّه الأصلىّ فلو اتصل وحلـّته الحياة عاد طاهرًا.

وإن هذه النصوص بظاهرها معارضة لما نقلنا عن كتاب الأم فلعلّ ما فِى كتاب الأم رجع عنه الشافعى بعد ذلك أو اختار الفقهاء الشافعية قولًا يخالف رأيه، وعلى كلٍّ فالمذهب عند الشافعية الآن طهارة العضو المبان من الآدمى وعليه فلا يؤمر بقلعه إذا أعاده إلى محلّه ولا يحكم بنجاسته وفساد صلاته.

أما الحنفية فالأصل أن الأعضاء التِى لا تحلّها الحياة كالظفر والسنّ والشعر لا تجنس بإبانتها من الآدمى الحىّ ولكن الأعضاء التى لا تحلها الحياة مثل الأذن والأنف وغيرهما فإنها تجنس بعد إبانتها من الحىّ ولكن قرر المتأخرون منهم أنها ليست نجسة فِى حق صاحبها فلو أعادها صاحبها إلى أصلها لا يحكم بنجاستها وإنما هى نجسة فِى حق غيره . فلو زرعها غير المقطوع منه فِى جسمه كانت نجسة، وهذا أيضًا إذا لم تحلها الحياة أما إذا حلّتها الحياة بعد الزرع فلا نجاسة فِى حق الغير أيضًا.

أما الأصل المذكور فقد بينه ابن نجيم بقوله ( إن أجزاء الميتة لا تخلو  إما أن يكون فيها دمٌ أو لا فالأولى كاللحم نجسة والثانية ففِى الخنزير والآدمى ليست نجسة إن كانت صلبة كالشعر والعظم بلا خلاف) ثم قال (وأما الآدمى ففيه روايتان فِى رواية نجسة) قال ( وفِى رواية طاهر لعدم الدم وعدم جواز البين للكرامة)[٢١] .

ولكن جاء فِى الفتاوى الخانية (قلع إنسان سنه أو قطع أذنه ثم أعادها إلى مكانهما وصلى أو صلى وسنه أو أذنه فِى كمّه تجوز صلاته فِى ظاهر الرواية[٢٢] .

والمسألة المذكورة فِى التجنيس والخلاصة والسراج الوهاج أيضًا كما فِى البحر ورد المحتار واستشكلها بعض العلماء بالأصل المذكور فإن الأذن تحلها الحياة فينبغى أن تصير نجسة بالإبانة على ما ذكرنا من أصل الحنفية وأجاب عنه المقدسِىّ كما نقل عنه ابن عابدين بقوله (والجواب على الإشكال أن إعادة الأذن وثباتها إنما يكون غالبًا بعود الحياة إليها فلا يَصْدُقُ أنها مما أبين من الحىّ لأنها بعود الحياة إليها صارت كأنها لم تَبِنْ ولو فرضنا شخصًا مات ثم أعيدت حياته معجزة أو كرامة لعاد طاهرًا[٢٣].

وعلق عليه ابن عادين بقوله (أقول إن عادت الحياة إليها فهو مسلم لكن يبقَى الإشكال لو صلى وهى فِى كمّه مثلاً، والأحسنُ ما أشار إليه الشارح أى صاحب الدر المختار من الجواب بقوله وفِى الأشباه إلخ وبه صرح فِى السراج أى حيث قال والأذن المقطوعة والسنّ المقطوعة طاهرتان فِى حق صاحبهما وإن كانتا أكثر من قدر الدرهم فما فِى الخانية من جواز صلاته ولو الأذن فِى كمّه لطهارتهما فِى حقه لأنها أذن[٢٤].

وعبارةُ الأشباه التِى أشار إليها ابن عابدين نصها ما يلى (الجزء المنفصل من الحىّ كميتة كالأذن المقطوعة والسن الساقطة إلا فِى حق صاحبه فطاهر وإن كثر[٢٥].

وتَبَيَّنَ بهذه النصوص الفقهية أن العضو المبان من الآدمى ليس نجسًا فِى حق صاحبه عند الحنفية وكذلك إذا حلته الحياة بعد الإعادة فإنه ليس نجسًا فِى حق أحدٌ، وإنما النَّجس عند الحنفية فِى حقّ الغير ما أبين من الآدمى فلم تَحُلَّهُ الحياة بالإعادة، فثبت أن الحكم عند الحنفية فِى مسألتنا مثل المختار من مذهب الشافعية أن إعادة العضو المُبان إلى محلّه لا ينجّسه فلا يُمنع منه ولا تفسد به الصَّلاة.

أما المالكية فإن المتعمد عندهم أن ما أبين من الآدمىّ ليس نجسًا.  قال الدردير فِى الشرح الكبير (فالمنفصل من الآدمىّ مطلقًا طاهر على المعتمد).

وقال الدسوقِى تحته (أى بناء على المعتمد من طهارة ميتته وأما على الضعيف فما أبين منه نجسٌ مطلقًا) ثم قال (على المعتمد من طهارة ما أبين من الآدمِىّ مطلقًا يجوز ردُّ سنٍّ قُلعت لمحلها لا على مقابله)[٢٦].

وذكر الحطّاب أن القول بالنجاسة على كونه مرجوحًا إنما يؤثر فِى ابتداء الإعادة فَيُمْنَعُ منه الرجلُ ابتداءً ولكن إذا ردّ الإنسان السنّ إلى موضعها فثبتت والتحمت جازت صلاته على هذا القول أيضًا.

وفِى البرزالىّ (إذا قُلع الضِرس وربط لا تجوز الصـلاة به فـإن ردّه والتـحم جازت الصلاة به للضرورة[٢٧].  وذكر الزرقانِىّ عن المدونة أن القول بالنجاسة وإن كان ضعيفًا كما أسلفنا يُستثنى من مواضع الضرورة. قال رحمه الله (وعلى عدم طهارة ميتته لا تُرَّدُ سنّ سقطت وعلى طهارتها تردّ. وظاهره لم يُضطَرَّ وإن لردّها على هذا بخلافه على الأول فيجوز للضرورة كما فِى شرح المدونة ورُوِىَ عن السلف عبدِ الملك وغيره أنهم كانوا يردونها ويربطونها بالذهب[٢٨] .

فظهر أن الراجح فِى مذهب المالكية طهارة العضو المُبان فيجوز إعادته إلى محلّه ولو عاد وثبت والتحم حكم بطهارته وجواز الصلاة فيه على القولين جميعًا.

والحنابلة عندهم فِى ذلك روايتان. قال ابن مفلح (وإن عاد سنه بحرارتها فعادت فطاهرة وعنه نجسة[٢٩].

ولكن رجَّح المرداوِىّ الطهارة وذكر أن عليه الأكثرين قال رحمه الله (فإن سقطت سنّه فأعادها بحرارتها فثبتت فهِى طاهرة هذا المذهب وعليه الجمهور وقطع به أكثرهم وعنه أنها نجسة) قال (وكذا الحكم لو قطع أذنه فأعادها فِى الحال. قـاله فِى القواعد)[٣٠] .

وبهذا القول جزم البهوتى أيضًا[٣١]وهو مُؤَيَّدٌ بما رواه أبو يعلى عن الإمام أحمد رحمه الله برواية الأثرم فِى مسألة القصاص نفسها قال (ونقل الأثرم عنه فِى الرجل يُقتص منه أذن أو أنف فيأخذ المقتص منه فيعيد بحرارته فيثبت وهل تكون ميتة؟ فقال أرجو أن لا يكون به بأس) ثم قال (فقيل له يعيد سنّه؟ قال أما سنُّ نفسـه فلا بأس وهذا يدل على الطهارة لأنه بعض من الجُملة فلـــما كانت الجملة طــاهرة كان أبعاضها طاهرة.[٣٢]

فثبت بما أسلفنا والحمد لله أن الراجح فِى المذاهب الأربعة جميعًا أن الرجل إذا أعاد عضوه المبان إلى محلّه فإنه يبقى طاهرًا ولا يحكم بنجاسته ولا بفساد صلاته ولا يؤمر بقلعه من هذه الجهة.

فلما ثبت أن إعادة العضو لا يُخالف مقتص القصاص ولا يَستلزم النجاسة ظهر أنه مباح لا بأس به. والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

المسألة الرابعة إعادة العضو المبان فِى حدّ

والمسألة الرابعة إذا أبين عضو رجل فِى حدّ شرعىّ كالسرقة والحرابة هل يجوز للمحدود أن يعيده إلى محله بعد استيفاء الحد؟ وهل يعتبر ذلك افتياتًا على الحد الشرعىّ؟

وإن هذه المسألة لم أجدها فِى كلام الفقهاء ولعل وجه ذلك أن إبانة العضو فِى الحد إنما يتصور فِى اليد أو الرجل لأن الحد الذى يبان فيه عضو من الأعضاء ينحصر فِى سرقة أو حرابة. والعضو المبان فِى كل واحد منهما يد أو رجلٌ.

هذا وتجارب الطب الجديد وإن فتحت ءافاقًا جديدة فى مجال الجراحة ورزع الأعضاء ولكنها لم ينجح إلى اليوم فِى إعادة هذه الجوارح إلى محلّها نجاحًا كاملًا. وإن الأيدِى والأرجل المزروعة على ما تكلف من النفقات الباهظة وتتطلب الجهد الشاق لا تعمل عملها السابق حتى أن الأعضاء المصنوعة من الخشب أو الحديد تفيد المريض أكثر بالنسبة إلى الأعضاء الأصلية المزروعة.

وقد راجعتُ بعض الأطباء الموثوق بهم فأيدوا هذا المعنى وأكدوا أن إعادة اليد أو الرجل لا تكون ناجحة ولما كانت إعادة اليد أو الرجل أمرًا لا يقع حتى فِى زماننا فالبحث عن حكمه الشرعىّ بحث نظرِىٌّ بحت لا علاقة له بالواقع العملىّ بخلاف مسألة القصاص فإنه يمكن أن يبان فيه أى عضو من أعضاء اليدين بما فيها الأعضاء الممكن زرعها وإعادتها فلا يخلو البحث فيها من فائدة عملية ولذلك ذكرتها بشيء من البسط والتفصيل.

أما البحث عن مسألة العضو المقطوع فِى السرقة أو الحرابة فلا يتعلق بالواقع العملىّ فلا نخوض فيها قبل وقوعها وكان السلف يكرهون الخوض فِى مسائل لم تقع بعد.

ولذلك لا أرى الكلام فِى هذه المسألة حتى نشاهدها تقع عينًا ولكنى أريد أن أذكر الأصل الذى تبتنى عليه المسألة لو فرضنا أنها وقعت ليكون مساعدًا فِى استخراج الحكم حينئذٍ، وذلك أن المسألة لها منزعان

المنزع الأولأن يقاس الحد على القصاص فنقول قد ثبت بما أسلفنا فِى مبحث القصاص أن المختار عند جمهور الفقهاء أن القصاص ينتهى حكمه بإبانة العضو وليس من جملة القصاص أن يبقى العضو فائتًا إلى الأبد فكذلك الحدّ إذا أقيم مرة بإبانة اليد أو الرجل انتهت وظيفة الحدّ وليس المقصود تفويت اليد أو منفعتها على سبيل الدوام ولذلك يجوز للسارق والمحارب أن يستعمل يدًا أو رجلًا مصنوعة.  فلا مانع من أن يزرع المقطوعة.

والمنزع الثانى أن بين الحدّ والقصاص فرقًا وهو أن المقصود من القصاص أن يصيب الجانىَ ضرر مماثل لضرر المجنِىِ عليه وذلك يحصل بإبانة عضوه فإن الجناية الصادرة من الجانى لم تتجاوز أن تقطع عضوُا ولم تكن مانعة من إعادته إلى محله إذا اختار المجنِىُّ عليه ذلك، فكذلك استيفاء القصاص يحصل بمجرد الإبانة ولا يمنع ذلك أن يعيد الجانى عضوه إلى محله بخلاف إبانة العضو فِى الحد فإنه ليس ذلك لأن يعيد الجانى عضوه إلى محله بخلاف إبانة العضو فِى الحد فإنه ليس مقابلًا لضرر مماثل وإنما هو مقدر الله تعالى عقوبة ابتدائية، وحيث قد فرض الله سبحانه وتعالى قطع اليد أو الرجل فليس المقصود منه فعل الإبانة وإنما المقصود إبانته لتفويت منفعته على الجانى ولو أجزنا للجانى أن يعيده مرة أخرى فإنَّ ذلك تفويت لمقصود الحدّ.

فالنظر فِى المسألة موقوف على أن المقصود من الحد هل هو إيلام الجانِى بفعل الإبانة فقط أو المقصود تفويت عضوه بالكليَّة؟ وعلى الأول تجوز الإعادة وعلى الثانِى لا تجوز.

المسألة غير متصورة الوقوع حتى اليوم. ولئن وقعت فسيشرح الله تعالى صدور المجتهدين حينذاك بما فيه رضاه إن شاء الله.

والله تعالى أعلم.


[١] المرجع كتاب بحوث فِى قضايا فقهية معاصرة للشيخ محمد تقِىّ العثمانِىّ رحمه الله تعالى.

[٢] إن هذا ليس قيدًا احترازيًا للحكم وإنما صور المسألة فيما يمكن فيه القول بالاقتصاص مرّة ثانية على أساس أن المجنى عليه لم يعد عضوه إلى محله فكيف يعيده الجانى ؟ فذكر أن هذا النظر غير صحيح لأن الواجب على الجانى هو الإبانة مرة واحدة وقد حصل ويؤخذ منه بالبداهة أن الحكم كذلك بالأولى إذا أثبت المجنى عليه عضوه فإن حال الجانى والمجنى عليه يصير سواء فِى تلك الصورة

[٣] كتاب الأم للشافعى ٦/٥٢ وبمثله صرح النووى فِى روضة الطالبين ٩/١٩٧.

[٤] المغنى لابن قدامة ٩/٤٢٣ ومثله فِى الشرح الكبير ٩/٤٣١.

[٥]  كتاب الروايتين والوجهين 2/268 ثم تكلم : هل يأمره الإمام بإزالتها لكونها نجسة ؟ وسيأتى الكلام على ذلك فِى مسألة النجاسة إن شاء الله تعالى.

[٦] الفروع لابن مفلح ٥/٦٥٥,.

[٧] الإنصاف للمرداوى ١٠/١٠٠.

[٨] كشاف القناع للبهوتى ٥/٦٤١.

[٩] البيان والتحصيل لابن رشد ١٦/٦٧.

[١٠] الفتاوى الهندية ٦/١١ الباب الرابع من الجنايات.

[١١] هكذا قال الشيخ وقد يقال هذا النابت ثانية هو عضو جديد فما يدريه وليس عين العضو الأول فما يدريه أن الحنفية يفرقون فِى هذه الحال فياليته لم يتعجّل فِى الاستنتاج والقول بالرأى ومما استعجل به الشيخ فقال برأيه أيضًا على خلاف الفقه إجازته استخدام ما يُسمى بحقوق الطبع وحقوق التأليف وما يشابهها على الوجه المتعارف عليه اليوم على خلاف منهج السلف جميعًا وعلى خلاف ما أفتَى به أبوه المفتِى محمد شفيع العثمانِى رحمه الله وصنّف فيه رسالة مفردة. والدين النصيحة. المنتصر بالله.

[١٢] أخرج

[١٣] أخرجه الترمذى

[١٤] كتاب الأم

[١٥] كتاب الأم ٦/٥٢,

[١٦] روض الطالبين ١/١٥.

[١٧] مغنى المحتاج ١/٨٠.

[١٨] نهاية المحتاج ١/٢٢٨.

[١٩] حاشية نهاية المحتاج ١/٢٢٨.

[٢٠] أى مما ميتته نجسة لا ما كانت ميتته ظاهرة. المنتصر بالله.

[٢١] البحر الرائق ١/١٠٧.

[٢٢] فتاوى قاضِى خان ١/٣٠ فصل فِى النجاسة تصيب الثوب.

[٢٣] وهذا عين الدليل الذى استدل به الشبراملسى من الشافعية فِى حاشيته على نهاية المحتاج وقد مر قريبًا.

[٢٤] رد المحتار ١/٢٠٧ ومنحة الخالق ١/١٠٧.

[٢٥] الأشباه والنظائر من الحموى الفن الثانى – كتاب الطهارة ١/٢٠٣.

[٢٦] الدسوقى على شرح خليل ١/٥٤.

[٢٧] مواهب الجليل للحطاب ١/١٢١.

[٢٨] الزرقانِى على مختصر خليل ١/٢٩.

[٢٩] الفروع لابن مفلح ١/٣٧٠.

[٣٠] الإنصاف للمرداوِى ١/٤٨٩.

[٣١] شرح منتهى الإرادات ١/١٥٥.

[٣٢] كتاب الروايتين والوجهين ١/٢٠٢.