زراعة عضو استؤصل فِى حدٍّ أو قَصاص[١]
(المسألة الأولى)

قبسات من فوائد مدير جامعة دار العلوم فِى كراتشِى
الشيخ محمد تقِىّ ابن المفتِى محمد شفيع العثمانِىّ حفظه الله


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه سيدنا ومولانا محمد النبىّ الأمين وعلى ءاله وأصحابه الطيبين الطاهرين وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 أما بعد فموضوع هذا البحث معرفة الحكم الشَّرعِىّ فِى مسألة زراعة عضو استؤصل فِى حدِّ أو قصاص وإعادته إلى محله بعملية من عمليات الطبّ الحديث هل يجوز ذلك شرعًا، وما حكم من فعل ذلك. 

وبما أنَّ المسألة أخذت اليوم مكانها من الأهمية بفضل ما وصل إليه التقدّم الطبّىُّ فِى مجال زرع الأعضاء الذِى لم يكن موجودًا فِى الأزمنة الماضية، فقد يزعم الزَّاعمون أنها مسألة مستجدة لا يمكن أن يوجد لها ذكر صريح فِى كتب الفقهاء السالفين، ولكن هذا الزعم غير صحيح، والواقع أن الفقهاء المتقدمين ذكروا هذه المسألة ودرسوها من النواحِى المختلفة بما يدل فِى جانب على مدى توسّعهم فِى تصوير المسائل ودقة أنظارهم فِى بيان الأحكام، وفِى جانب ءاخر على أن إعادة العضو إلى محلّه لم يكن أمرًا غير متصور فِى عهدهم بل كان أمرًا عرفه وجربَّه المتقدمون حتى فِى القرن الثانِى من الهجرة إذ يتحدث عنه الإمام مالك رحمه الله تعالى بكل بصيرة طيّبة لا تزال صادقة حتى اليوم .


وقبل أن ءاتِى بنصوص الفقهاء فِى المسألة أريد أن أحدد مجال البحث فِى نقاط ءاتية

  1. إذا جنَى رجل على ءاخر فقطع عضوًا من أعضائِهِ ثم أعاده المجنِىُّ عليه إلى محله قبل استيفاء القصاص أو الأرش وهل يؤثر ذلك فِى سقوط القصاص أو الأرش؟ ولو أعاده بعد استيفاء القصاص هل يؤثر ذلك فيما استوفاه من القصاص أو الأرش؟ وأُلقب هذه المسألة بـزرع المجنِىِّ عليه عضوه.
  2. إذا قُطع عضو الجانِى قصاصًا فهل يجوز له أن يعيده إلى محلّه بطريق الزراعة أو يعتبر ذلك إبطالًا لحكم القصاص؟ وإن أعاد الجانِى عضوه المقتصّ منه هل يجوز للمجنى عليه أن يطالبه بالقِصاص مرة ثانية؟
  3. إن زرع أحدٌ عضوه المنفصل عنه سواء كان فِى حدّ أو قصاص لو لسبب آخر فأعاده إلى محلّه هل يعتبر ذلك العضو طاهرًا؟ أو يعتبر نجسًا بحيث لا تجوز معه الصلاة فيؤمر بقلعه مرة أخرى؟
  4. هل يجوز للسارق المقطوع يده أو رجله أن يعيدها إلى محلّهما؟ أو يعتبر اعتداء على الحكم الشرعِىّ فِى قطع يد السارق ولئن فعل ذلك أحد هل تقطـع يده مّرة ثانية؟
  5. لا يسقط الأرش بإعادة عضو المجنى عليه .
  6. يسقط الأرش بذلك .
  7. يسقط الأرش فِى الأذن ولا يسقط فِى السنّ .

وأريد أن أتكلّم عن كل واحدة من هذه المسائل فِى فصل مستقلٍّ وبالله التوفيق.

المسألة الأولَى زرعُ المجنِىّ عليه عضوه 

أما المسألة الأولَى وهِى أن يعيد المجنىُّ عليه عضوه المقطوع إلى محلّه فأول من سئل عنها وأفتى فيها فيما أعلم إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى فقد جاء فِى المدونة الكبرَى ( قلتُ والقائلُ سحنون أرأيت الأذنين إذا قطعهما رجلٌ عمدًا فردهما صاحبهما فبرأتا فثبتتا أو السِن إذا أسقطهما الرجل عمدًا فردها صاحبها فبرأت وثبتت أيكون القودُ على قاطع الأذن أو قاطع السن قال أى ابن القاسم سمعتهم يسألون مالكًا فلم يرد عليهم فيها شيئًا. قال وقد بلغنِى عن مالك أنه قال فِى السنّ القود وإن ثبتت وهو رأيى والأذن عندِى مثله أن يقتص منه.  والذِى بلغنِى عن مالك فِى السّنّ لا أدرِى أهو فِى العمد يُقتص منه أو فِى الخطإ أن فيه العقل إلا أن ذلك كله عندِى سواء فِى العمد وفِى الخطإ[٢].

ثم تتابعت فيه الروايات عن الإمام مالك وتلامذته رحمهم الله واتفقت الروايات جميعًا على أن المجنىَّ عليه فِى العمد إن أعاد عضوه إلى محلّه فلا يسقط القصاص عن الجانِى سواء كان العضو قد عاد إلى هيئته السابقة أو بقِىَ فيه عيب أما إذا كانت الجناية خطأ فإن قضِىّ على الجانِى بالدّية ثم أعاد المجنىُّ عليه عضوه بعد القضاء فالروايات متفقة أيضًا على أن الأرش لا يُرَدُّ. وأما إذا أعاد عضوه قبل القضاء على الجانِى بالدية ففيه ثلاث روايات.

وقد فصل ابن رشد الجدّ هذه المسألة فِى كتابه البيان والتحصيل فقال (وأما الكبير تُصاب سنّه فَيُقْضَى له بعقلها ثم يردها صاحبها فثبتت فلا اختلاف بينهم فِى أنه لا يرد العقل إذ لا ترجع على قوتها. هذا مذهب ابن القاسم وقول أشهب فِى كتاب ابن المواز وروايته عن مالك. والأذنُ بمنزلة السنّ فِى ذلك لا يردُّ العقل إذا ردّها بعد الحكم فتثبت واستمسكت.  وإنما اختُلِفَ فيهما إذا ردّهما فثبتتا واستمسكتا وعادتا لهيئتهما قبل الحكم على ثلاثة أقوال أحدها قوله فِى المدونة إنه يُقْضَى له بالعقل فيهما جميعًا إذ لا يمكن أن يعودا لهيئتهما أبدًا.  وقال أشهب إنه لا يقضى له فيهما بشىء إذا عادا لهيئتهما قبل الحكم. والثالث الفرق بين السنّ والأذن فيقضى بعقل السن وإن ثبتتْ ولا يقضى له فِى الأذن بعقل إذا استمسكتْ وعادت لهيئتهما وإن لم تعد لهيئتهما عقل له بقدر ما نقصت) ثم قال (ولا اختلاف بينهم فِى أنه يقضَى له بالقصاص فيهما وإن عادا لهيئتهم)[٣].

فالحاصل أن القصاص لا يسقط بالإعادة فِى حال من الأحوال وأما الأرش ففيه ثلاث روايات

ووجهُ الفرق بين السنّ والأذن على هذه الرواية الثالثة ما حكاه العتبِىُّ فِى المستخرجة عن ابن القاسم برواية يحيَى قال وسئل يعنِى ابن القاسم عن الرِجل يقطع أذن الرجل فيردّها وقد كانت اصطلمت فثبتت أيكون لها عقلها تامًّا فقال إذا ثبتت وعادت لهيئتها فلا عقل فيها فإن كان فِى ثبوتها ضعف فله بحساب ما يرى من نقص قوتها.  قيل له فالسنّ تطرح ثم يردها صاحبها فثبتت فقال يغرم عقلها تامًا قيل له فما فرق بين هذين عندك قال لأن الأذن إنما هى بضعة إذا قطعت ثم ردّت استمسكت وعادت لهيئتها وجرى الدم والروح فيها، وإن السنّ إذا بانت من موضعها ثم رُدّت لم يجر فيها دمها كما كان أبدًا ولا ترجع فيها قوتها أبدًا وإنما رَدُّها عندِى بمنزلة شىء يوضع مكان التى طرحت للجمال وأما المنفعة فلا تعود إلى هيئتها أبدًا.

وشرحه ابن رشد ببيان الروايات الثلاثة المذكورة[٤] ولكنه لم يذكر أحد منهم وجه الفرق بين القصاص والأرش على الروايات التى تقول بسقوط الأرش دون القصاص عن الجانِى بعد إعادة المجنى عليه عضوه المقطوع .

ولكن الذى يظهر أن المختار عن المالكية عدم الفرق بين القصاص والأرش حيث لا يسقط واحد منهما هكذا ذكره خليل فِى مختصره واختاره الدردير والدسوقى وغيرُهما وعلّله الدردير بأن الموضحة إذا برئت من غير شين فإنه لا يسقط الأرش، فكذلك الطرف إذا أعيد فإنه لا يسقط أرشه مع كون كل منهما خطأً.

٢. مذهب الحنفية فِى المسألة.

ثم الذِى ذَكَرَ هذه المسألة بعد الإمام مالك هو الإمام محمد بن الحسن الشيبانىّ رحمه الله فقال فِى كتابه الأصل (وإذا قلع الرجل سن الرجل فأخذ المقلوعة سنة فأثبتها فِى مكانها فثبتت وقد كان القلع خـطأ فعلى القالع أرش السنّ كاملاً وكذلك الأذن)[٥].

فاختار محمد رحمه الله أن إعادة العضو لا يُسقط الأرشَ عن الجانِى. ثم أخذ عند الفقهاء الحنفية فقال شمس الأئمة السرخسِىّ رحمه الله (وإذا قلع الرجل سنّ الرجل خطأ فأخذ المقلوع سنه فأثبتها مكانها فثبتتْ فعلى القالع أرشها لأنها وإن ثبتت لا تصير كما كانت ألا ترى أنها لا تصل بعروقها ثم قال (وكذلك الأذن إذا أعادها إلى مكانها لأنها لا تعود إلى ما كانت عليه فِى الأصل وإن التصقت)[٦].

وهنا علّل السرخسِىّ عدم سقوط الأرش بكون العضو بكون العضو لا يعود إلى حالته السابقة بعد الالتصاق وفرّع عليه المتأخرون أن هذا إذا لم يعد إلى حالته الأولى بعد الثبات فِى المنفعة والجمال والغالب أن لا يعود إلى تلك الحالة.  وإذا تصور عود الجمال والمنفعة بالإثبات لم يكن على القالع شىء كما لو نبتت السنّ المقطوع) كما ذكره الزيلعىّ غيره عن شيخ الإسلام[٧].

ولكن المسألة عن الحنفية مفروضة فِى جناية الخطأ كما رأيت فِى عبارة الإمام محمد بن الحسن والإمام السرخسِىّ ولهذا اكتفوا بذكر سقوط الأرش ولم أجد فِى كتب الحنفية حكم العمد وأنه هل يسقط القصاص عندهم فيه بإعادة العضو أو لا؟ والظاهر أنه لا يسقط وإن أعاده المجنى عليه على هيئته وذلك لأن القصاص جزاء للاعتداء القصدِىّ من الجانِى وهو واقع لا يزول بهذه الإعادة فلمّا ذهب الحنفية إلى أن الأرش لا يسقط بها فلأن لا يسقط بها القصاص أولى[٨].

نعم، ذكر الحنفية أن القصاص يسقط فيما إذا نبتت سنّ المجنى عليه بنفسها ولكن لا يقاس عليه مسألة زرع العضو وإعادته، وذلك لأمرين الأول أن العضو المزروع لا يكون فِى قوة النابت بنفسه، والثانِى إن نبتت السنُّ بنفسها ربما يدلُّ على أنَّ السن الأولى لم يقلعها الجانِى من أصلها فتصبر شبهةً فِى وجوب القصاص بخلاف ما أعيد بعملية فإنه ليس فِى تلك القوة ولا يدل على أن الجانِى لم يستأصله،  فالظاهر أن إعادة العضو من قبل المجنِىّ عليه لا يسقط القصاص عند الحنفية أيضًا كما لا يسقطه المالكية .

٣- مذهب الشافعية.

ثم تكلم فِى المسألة الإمام الشافعى رحمه الله تعالى فقال فِى كتاب الأم (وإذا قطع الرجل أنف رجل أو أذنه أو قلع سنه فأبانه ثم إن المقطوع ذلك منه ألصقه بدمه أو خاط الأنف أو الأذن أو ربط السنّ بذهبٍ أو غيره فثبت وسأل القود قله ذلك لأنه وجب له القصاص بإبانته)[٩].

وذكر النووىّ رحمه الله هذه المسألة فِى الروضة فألحق بها مسألة الدية فقال (قطع أذن شخص فألصقها المجنى عليه فِى حرارة الدم فالتصقت لم يسقط القصاص ولا الدية عن الجانِى لأن الحكم يتعلق بالإبانة وقد وجدت)[١٠].

فاتضح بهذه النصوص أن مذهب الشافعِىّ فِى هذا مثل المختار من مذهب المالكية أن إعادة العضو المجنِىّ عليه لا يسقط القصاص ولا الأرش.

٤. مذهب الحنابلة.

وأما الحنابلة فلهم فِى هذه المسألة وجهان وقد ذكرهما القاضِى أبو يعلَى فقال (إذا قطع أُذُنَ الرجلِ فأبانها ثم ألصقها المجنِىُّ عليه فِى الحال فالتصقت فهل على الجانِى القصاص أم لا؟ قال أبو بكر فِى كتاب الخلاف لا قصاص على الجانِى وعليه حكومة الجراحة فإن سقطت بعد ذلك بقرب الوقت أو بُعْدِهِ كان القصاص واجبًا لأن سقوطها من غير جنايةٍ عليها من جنايةِ الأول وعليه أن يعيد الصلاة.  واحتج بأنها لو بانت لم تلتحم فلمّا ردّها والتحمتْ كانت الحياة فيها موجودة فلهذا سقط القصاص.

وعندِى أن على الجانِى القصاص لأن القصاص يجب بالإبانة وقد أبانها ولأن القصاص الإلصاق مختلف فِى إقرار عليه فلا فائدة له فيه[١١].

وكذلك ذكر ابن قدامة القولين ولم يرجح واحدًا منهما وكذلك فعل أبو إسحاق ابن مفلح فِى المبدع[١٢]وذكر المرداوِىّ وشمس الدين وابن مفلح فِى الفروع القولين واختار قول القاضِى إنه لا يسقط القصاص[١٣] واختار البهوتِى قول أبِى بكر فِى أنه يسقط القصاص والأرش كليهما[١٤].

والخلاصة أنّ ما ذهب إليه الجمهور من المالكية والحنفية والشافعية وجماعة من الحنابلة أن زرع المجنِى عليه عضوه لا يسقط القصاص أو الأرش من الجانِى لأن القصاص جزاء للاعتداء الصادر منه وقد حصل هذا الاعتداء بإبانة العضو فاستحق المجنى عليه القصاص فِى العمد والأرش فِى الخطأ فلا يسقط هذا الحق بإعادة عضوه إلى محله.

والله تعالى أعلم.


[١] المرجع كتاب بحوث فِى قضايا فقهية معاصرة للشيخ محمد تقِىّ العثمانِىّ رحمه الله تعالى.

[٢] المدونة الكبرى باب ما جاء في دية العقل والسمع والأذنين ١٦/١١٣.

[٣] البيان والتحصيل ٦١/٦٦ ، ٦٧ كتاب الديات راجع أيضا الحطاب ٦/٢٦٢ , والمواق ٦/٢٦٤.

[٤] البيان والتحصيل لابن رشد ٦١/١٥٨، ١٥٩.

[٥] كتاب الأصل لمحمد بن حسن الشيباني ٤/٤٦٧ كتاب الديات.

[٦] المبسوط للسرخسِى ٢٦/٩٨ والمسألة مذكورة أيضا فى الهداية وشروحها، راجع فتح القدير ٦/٢٢٧، وبدائع الصنائع ٧/٣١٥.

[٧] تبيين الحقائق للزيعلي ٦/١٣٧، والبحر الرائق ٨/٣٠٥، وردّ المحتار لابن عابدين ٦/٥٨٥.

[٨] ردّ المحتار ٦/٥٨٥ , ٥٨٦.

[٩] كتاب الأم للشافعي رحمه الله ٦/٥٢، تفريع القصاص فيما دون النفس من الأطراف.

[١٠] روضة الطالبين وعمدة المفتين للنووِىّ ٩/١٩٧ وراجع أيضا المجموع شرح المهذب ١٧/٢٥٢.

[١١] المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين لأبي يعلى ٢/٢٦٧ , ٢٦٨.

[١٢] المغني لابن قدامة ٩/٤٢٢ ، والشرح الكبير ٩/٤٣١ ، والمبدع لابن مفلح ٨/٣٠٩.

[١٣] الإنصاف للمرداوِى ١٠/١٠٠ والفروع لابن مفلح ٥/٦٥٥.

[١٤] كشاف القناع للبهوتي ٥/٦٤١ ، وشرح منتهى الإرادات ٣/٢٩٦.