شرع الله فى نظر المسلمین[١]

قبساتٌ من فوائد وكيل مشيخة الإسلام محمد زاهد الكوثرِى
المتوفى سنة ١٣٧١هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله حقّ حمده وصلوات على محمد خير خلقه وبعد فإنَّ شرع الله فى نظر المسلمين هو القانون الإلهِىُّ الذِى أدَى به محمد صلى الله عليه وسلم رسالة ربه بتبليغه للأمة لإسعادهم فى معاشهم ومعادهم فلا يسوغ لمسلم غير مغلوب على أمره أن يستبدل ببعض أحكامه فضلًا عن أحكامه كُلِّها إلا فى حالةِ إكراهٍ يبيحُ النطق بكلمة الكفر، و لا أن يرضَى به بديلًا فى حال من الأحوال، وهو صالحٌ لتقويم أود الأمة وإصلاح شؤونها فى كل زمان وكل مكان بخلاف القوانين الوضعية وأين للعقل البشرِىّ الإحاطة بجميع مصالح الأمة على اختلاف الأزمنة والأمكنة حتى يُقَنِّنَ قانونًا كهذا فما يبرمه اليوم ينقضه غدًا والله سبحانه قد أحاط بكل شىء علمًا فشرعه فى نظر المسلم هو المحيط بمصالح عباده فى كل زمان وكل مكان فمن حاول أن يقربَ الشرعَ الإسلامِىَّ من قوانينَ غيرِ إسلاميةٍ ويُحَوِّرَهُ على غرارها فهو مريضُ القلب أثيمُ العقل لا يَلْقَى سوَى الدمار والفساد حيث يبغِى الرُقِىَّ والصلاح، ومَنْ فَضَّلَ عَقْلَهُ على علمِ الله وشرعِهِ فليس هو من الإسلام فى شىء وكذلك من ضاق صدرًا من شرع المسلمين باعتبار عده غير صالح للزمن الذِى هو فيه، قال الله تعالى(فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمً).

وقد ذكر الحافظ أبو شامة المقدسِىُّ أنَّ نور الدين الشهيد  ذلك الملكَ الصالحَ الذِى قَلَّ نظيرُهُ فى ملوك الإسلام لما وَلِىَ الحكم كانت البلاد على حال شديدة السوءِ جميع النواحِى ففكر بعض عقلاء الدولة فيما يجب السير عليه فى إصلاح شؤون البلاد ورأوا أنَّ مجرد تنفيذ أحكام الشرع عند ثبوت إجرام المجرمين ثبوتًا شرعيًا لا يكفِى فى قمعهم ومنعهم من المُضِىِّ فى إفساداتهم فلابد من أخذهم بأحكام قاسية سياسيةً حتى يستتب الأمن وتصلح الأحوال فَرَجَوْا من العالم الصالح الشيخ عمر الموصلِىّ بالنظر إلى أنه الناصح الأمين عند جلالة الملك قبل توليه الحكم أنْ يُوصِلَ إلى مسامعه ذلك الرأىَ فقبل رجاءهم وكتب إلى الملك يوصيه بالضرب على أيدِى الأثيمين بأحكام صارمة بدون انتظار إلى ثبوت إجرامهم ثبوتًا شرعيًا وبعد أن قرأ الملك توصية الشيخ كتب على ظهر الورقة ما معناه (حاشا أن أًجازِى أحدًا بجرم لم يثبت ثبوتًا شرعيًا وحاشا أن أتهاون فى عقوبة مجرم ثبت جرمه ثبوتًا شرعيًا ولو جريتُ على ما رَسَمَتْهُ التوصيةُ لِى لكنتُ كمن يفضل عَقْلَهُ على علم الله ولو لم يكن هذا الشرع كافيًا فى إصلاح شؤون العباد لما بَعَثَ به خاتم رسله) وأعادها إلى الشيخ.

ولما اطلع الشيخ على هذا التوقيع الملكِىّ الحازم بكَى بكاء مرًّا وقال يا للخيبة كان الواجب أن أقول ما قاله الملك فانعكس الأمر فتاب من توصيته أصدق توبة وجرَى الملك فى تسيير الأمور على ما رسمه الشرع فصلحت البلاد وزال الفساد فى مدة يسيرة وأصبحت تلك الأصقاع بحيث لو سافرت غادةٌ حسناء وحدها ومعها أثمن الجواهر والأحجار الكريمة من أقصَى البلاد إلى أقصاها لما حَدَّثَتْ أحدًا نَفْسُهُ أن يمسَّها بسوء لا فى مالها ولا فى عرضها وقد اكتظَّتْ كتبُ التاريخ بما تمَّ على يد هذا الملك العظيم من الإصلاحات الهامة ودفع عدوان الصليبيين من أرض الشام بل من أرض مصر أيضًا بتجريد جيش تحت إمرة أحد قواده.

وأحكام الشرع لا تنتهِى عجائب أسرارها فى الإصلاح وليست هِى كأحكام العقول الخاطئة وها هِىَ الدول الإسلامية لم تَسْعَدْ دولةٌ منها إلا بمقدار تمسكها بأهداب الشرع و لا شقيتْ إلا بنسبة ابتعادها عن أحكام الشرع ولنا ألف دليل ودليل على ذلك من التاريخ الإسلامِىّ وقد نطق علِىّ بن أبِى طالب كرم الله وجهه بكلمة حكيمة جدًا حيث قال (ما ترك الناس شيئًا من أمر دينهم لاستصلاح دنياهم إلا فتح الله عليهم ما هو أضَرُّ منه) و هِى حقيقة ملموسة فى جميع أدوار التاريخ وقد صدق الشاعر الذِى قال لعبد الملك بن مروان

نرقع دنيانا بتمزيق ديننا         فلا ديننا يبقَى ولا ما نرقع

ومَثَلُ هذا الممزق المرقع مثل من يمزق سروايله الساترة لسوءته لترقيع موضع من جبته.

وأحكام الشرع هِى ما فهمه الصحابة والتابعون وتابعوهم من كتاب الله و سنة رسوله على مُوجَبِ اللسان العربِىّ المبينِّ، وعملُ الفقهاء إنما هو الفهمُ من الكتاب والسنة وليس لأحد سِوَى صاحب الشرع دخل فى التشريع مطلقًا، ومَنْ عَدَّ الفقهاءَ كمشرّعين وجعلهم أصحاب شأن فى التشريع فقد جهل الشرع والفقه فِى ءَانٍ واحدٍ وفتحَ مِن جَهْلِهِ باب التَّقَوُّلِ لأعداء الدين كما هو مشهود،وأما المتأخرون من الفقهاء فليس لهم إلا أن يتكلموا فى نوازل جديدة ولا أن يُبْدُوا ءَارَاءَ فى الشرع على خلاف ما فَهِمَهُ مِن النصوص رجالُ الصدر الأول الذين هم أهلُ اللسان المطلعون على لغة التخاطب بين الصحابة قبل أن يعتريها تغيير وتحوير والمتلقون للعلم عن الذين شهدوا الوحىَ فما فهموه من الشرع فهو المفهوم وما أبعدوه عن أن يكون دليلًا بعيدٌ عن أن يُتمسك به، وإنَّما يكون الكلام فيما لم يتكلموا فيه أو اختلفوا فى حكمه. ومَنْ تخيل حاجة الإسلام إلى مثل ذلك الألمانِىّ فى النصرانية فقد أساء المقارنة بين الإسلام الذِى نصوصه محفوظة كما بلغه الرسول صلى الله عليه و سلم وبين النصرانية التِى تاريخُ كتبها المحرفة لا يدع مجالًا للترقيع فمن يلهج بالإصلاح فى الإسلام من أغمار هذا العصر فقد جمع إلى تلك الإساءة الجهل بتاريخ الدين الإسلامِىّ وتاريخ الكنيسة لكن صدق من نطق (لتتبِعُنَّ سَنَنَ من قبلكم) الحديثَ اهـ

ويا أسف المسلم كل الأسف من وجود أناس فى أزياء العلماء تحملهم شهوةُ الظهور على التظاهر بمظهر الاستدراك على فقهاء الصدر الأول وعلى محاولة ابتداع أساليب بها يُحَرّفون الكلمَ عن مواضعه ويجعلون الشرعَ الواضحَ المنهاجِ الصريحَ الأحكام يتقلبُ مع الزمن وذلك لأجل التقرب إلى الذين لا يضمرون للإسلام خيرًا،تراهم يقولون (عندنا العرفُ وعندنا المصلحةُ بهما كم تتغيرُ الأحكام وكم لنا من هذا القبيل) يريدون بذلك أن يجعلوا شرع الله متقلبًا مع الزمن ومع الظروف كأدمغتهم المتميعة القابلة لكل شكل مع كل ظرف. نعم يوجد فى فلاسفة الغربيين اللادينيين من يبغِى دينًا يتقلب مع الزمن ولكن بغيته هذه ليست إلا شبكةً يريد أن يوقع فيها مقلدتهم من أبناء الشرق الأغرار المتفلسفين.

وليس للعرف فى الشرع إلا ما بَيَّنَه علماء المذاهب فى كتب القواعد وكتب الأصول والفروع مثلُ حَمْلِ الدرهم فى العقود على الدرهم المتعارف فى البلد وكذا الرطلُ وكونِ المشروط عرفًا كالمشروط لفظًا وزوالِ خيار الرؤية برؤية المشترِى إحدَى غرف الدار عندما كان العرف جاريًا بين الناس ببناء دورهم متساويةَ الغرف وعدمِ زوال الخيار المذكور عند تغيير العرف المذكور واعتبار اللفظ صريحًا فى معنًى تُعُورِفَ فيه بخلاف ما إذا نُقِل إلى معنًى ءاخر و تُنُوسِىّ المعنَى الأَول وحملِ الطعامِ واللحمِ والبُرِّ ولحم الضأن فِى بلد تُعُورِفَ تخصصيهما بهما إلى غير ذلك مما هو مفصل فى التحقيق الباهر فى شرح الأشباه والنظائر المحفوظ فى المكتبة الرافعية فى خمس مجلدات ضخام لشيخ مشايخ مشايخنا العلامة هبة الله التاجِىّ والمجموعِ الُمذَّهَب فى قواعد المذهب للصلاح العلائِىّ وغيرِهِما من الكتب المؤلفة فى قواعد المذاهب وهِى الواسطة بين الفروع والأصول ولها أهمية عُظمَى فى التَّفَقُّهِ وإن أُهْمِلَتْ دراستها فى الأدوار الأخيرة وليس فِى شىءٍ منها عَدُّ عرفِ طائفةٍ شرعًا مشروعًا حتى يُظَنَّ أن عمل أهل المدينة فى عهد الفقهاء السبعة ليس بالعمل المتوارث طبقة عن طبقة عن النبِىّ صلى الله عليه وسلم اغترارًا بتقولات بعض الماجنين فإذاتعورف فى بلد احتساء الشاىّ البارد كناية لبعضهم عن الخمر تسترًا وغشيان الحانات فهل يجعل ذلك ذريعة إلى إباحة هذا أو ذاك؟ فليتق الله المرجفون فى محاولاتِهِمْ تغييرَ الشرع باسم العرف ولا يتسع المقام للتوسع فى ذلك بأكثر من هذا بل الأمر يحتاج إلى كتاب خاص.

ومن جملة أساليبهم الزائفة فى محاولة تغيير الشرع بمقتضَى أهوائهم قول بعضهم إنَّ مبنَى التشريع فى المعاملات ونحوها المصلحة فإذا خالف النصُّ المصلحة يُترك النصُّ ويُؤخذ بالمصلحة! فيا للخيبة ممن ينطق لسانه بمثل هذه الكلمة ويجعلها أصلًا يبنِى عليه شرعه الجديد! وما هذا إلا محاولة نقض الشرع الإلهِىّ بتحليل ما حرمه الشرع باسم المصلحة. فسل هذا الفاجر ما هِى المصلحة التِى تريد بناء شرعك عليها إن كانت المصلحة الشرعية فليس لمعرفتها طريق غير الوحِى، وإن كنت تريد المصلحة الدنيوية على اختلاف تقدير المقدرين فلا اعتبار لها فى نظر المسلم عند مخالفتها للنصِّ الشرعِىّ إذ العقلُ كثيرًا ما يظن المفسدة مصلحة بخلاف الشرع، وأما المصلحة المرسلة وسائر المصالح المذكورة فى كتب الأصول وكتب القواعد ففيما لا نصَّ فيه باتفاق بين علماء المسلمين فلا يتصور الأخذ بها عند مخالفتها لحجج الشرع.

وأولُ مَنْ فتح باب هذا الشر شر إلغاء النصِّ باعتباره مخالفًا للمصلحة هو النجم الطوفِىّ الحنبلِىّ فإنه قال فى شرح حديث لا ضرر ولا ضِرار (إن رعاية المصلحة مقدمة على النصّ والإجماع عند التعارض) وهذه كلمةٌ لم ينطق بها أحد من المسلمين قبله ولم يتابعه بعده إلا مَنْ هو أَسْقَطُ منه والقولُ بأنَّ إجراء ذلك فى المعاملات دون العبادات باعتبار أن العبادات حق للشارع والمعاملات إنما وضعت أحكامها لمصالح العباد وكانت هِى المعتبرة فرق بدون فارق لأنَّ الله أن يأمر بما شاء من غير فارق بين أن يكون أَمْرُهُ فى العبادات أو المعاملات وهو الذي أباح أنواعًا من البيوع وحرم أنواعًا منها كذا السلم والصرف والإجارة وغيرها من أبواب الفقه، فإذا راج هذا المَكْرُ من هذا المُضِلِّ تَسْرِى خديعته فى الأبواب كلها ويكون شرعُ الله أثرًا بعد عين ولكن أبى الله إلا أنْ يُتِمَّ نورَهُ. وَمَنِ الذِى ينطق لسانه بأن المصلحة قد تعارض حجج الله من الكتاب والسنة والإجماع. والقولُ بذلك قولٌ بأن الله لا يعلم مصالح عباده فكأنهم أدرَى بها حتى يتصور أن تعارض مصالحهم للأحكام التي دَلَّتْ عليها أوامر الله المبلغة على لسان رسوله، سبحانك هذا إلحاد مكشوف. ومن أعار سمعًا لمثل هذا التقول فلا يكون له نصيبٌ مِن العلم ولا مِن الدين، وليستُ تلك الكلمةُ غلطةً فقط من عالمٍ حسن النية تحتمل التأويلَ بل فتنةٌ فتحَ بابَها قاصدُ شرٍ ومثيرُ فتنٍ.

وعن هذا الطوفِىّ الحنبلِىّ يقول ابن رجب فى طبقات الحنابلة لم يكن له يد فى الحديث وفى كلامه تخبيط كثير وكان شيعيًا منحرفًا عن السنة.  قال ابن مكتوم اشتهر عنه الرفض والوقوع فى أبِى بكر رضِى الله عنه وابنته عائشةرضِى الله عنها ومن شِعْرِهِ

كَمْ بين من شُكَّ فى خلافتِهِ         وبينَ من قيل إنَّــــــهُ اللهُ

يعني أبا بكر وعليًا رضِى الله عنهما فهل هذا يَصْدُرُ ممن فى قلبه إيمان. وكان يقول عن نفسه

حنبلِىٌّ رافضِىٌّ ظاهرِىٌّ            أشعرِىٌّ إنها إحدَى الكُبر

 راجع ترجمته من طبقات ابن رجب والدرر الكامنة وشذرات الذهب.

أفمثلُ هذا الزائغِ يُتَّخَذُ قدوةً فى مثل هذا التأصيل الذِى يَرمِى إلى استئصال الشرع. ولا يغترَّنَّ القارئُ الكريم بتلقيب بعضِ المُهْمِلِينَ إياه بالإمام النجم الطوفِى فإننا فى زمن نرَى من لا يصلح أن يكون إمامًا فى مسجد حارتِهِ يُلَقَّبُ بالإمام الحجة وإلى الله عاقبة الأمر كُلِّه.

والله تعالى أعلم.


  [١] المرجع كتاب مقالات الكوثرِىّ لوكيل مشيخة الإسلام الشيخ محمد زاهد الكوثرِىّ رحمه الله تعالى.