صفات العالم المجتهد[١]

قبساتٌ من فوائد الشيخ محمد أمين الكتبىّ المكِىّ
رحمه الله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم وبعد فليعلم الطالب أن الاستنباط والفهم لنصوص القرءان وللسنة استقلالًا يحتاج أولا إلى التمكن فى علوم العربية من نحو صرفٍ ومعانٍ وبيانٍ واشتقاقٍ وغير ذلك، وإلى التمكن فى الفقه فإن الفقه أنفعُ شرح لها لأن الفقهاء يذكرون المسألة الفقهية ثم يذكرون دليلًا فيظهر معناه غاية الظهور، وإلى التمكن فى أصول الفقه ليعرف الوجوه التى تؤخذ منها الأسماء واللغات ويعرف الأمر وما يقتضيه والنَّهْىَ وما يدلُّ عليه والعام والخاصّ وما يتبعهما واللفظ الوارد على سبب والمطلق والمقيد والمنطوق والمفهوم والمبين والمجمل والنسخ ووجوهه وأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقسام الحديث وأنواعه ومعنى الإجماع وكيف ينعقد واختلاف الصحابة وأقوالهم ويعرف القياس وما جعل حجة فيه وما يجوز أن يكون أصلًا وما لا يجوز ويعرف العلة وما يجوز أن يعلّل به وما لا يجوز وما يدل على صحة العلة وما يفسدها وكيف ترجع إحدى العلّتين على الأخرى عند التعارض ويعرف الاستحسان وحكم الأشياء قبل الشرع واستصحاب الحال ويعرف صفة المفتى والمستفتى وما يسوغ فيه التقليد وما لا يسوغ ويعرف أقوال المجتهدين وتخريج المجتهد المسألة على قولين وغير ذلك.

فإذا أدرك ذلك أو حاز جملة صالحة منه على الأقل فإنه يتهيّأ لفهمها أما إذا هجم عليها من أول الأمر من غير أن يستكمل ءالتها فإنه لا يحصل من سعيه على طائل ويكون مَثَلُهُ كمَثَلِ مَنْ يرقم على الماء وتكون نتيجته إذا أخذ حديثًا ليستدل به على مسألة فقام فى وجهه حديثٌ ءاخر يدل على خلاف ما يدل عليه الحديث الأول أنه يرتبك ويرجع للطعن فى الأحاديث والإنكار على الأئمّة ويطلق لسانه فيهم بما شاء له الهوى ولو علم أنّ أولئك الأئمّة لم يبنوا مذاهبهم إلا على أصول صحيحة وقواعد ثابتة من الفهم التامّ والاستقصاء الكامل والملكة العظيمة والحفظ الجامع والبحث والتنقيب والاجتهاد المطلق لعلم مكانتهم فى الدّين والاجتهاد ولاعترف لهم بالتقدم والأولية.

لا سيّما وقد ثبت عنهم شدّة التبرّى من القول فى دين الله تعالى بالرأى وأنّهم كانوا يَحُثُّونَ أصحابهم على العمل بالكتاب والسنّة ويقولون إذا رأيتم كلامنا يخالف ظاهر الكتاب والسنة فاعملوا بالكتاب والسنة واضربوا بكلامنا عرض الحائط وإنّما قالوا ذلك احتياطًا للأمة وأدبًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزيد أحدهم فى شريعته صلى الله عليه وسلم ما لم يُرِدْهُ ولم يرضه بأن يخرج عن قواعد الشريعة الثابتة عنه عليه الصلاة والسلام أما ما شهدت له الشريعة بالصحة وموافقة القواعد فهو معدود من الشريعة وإن لم يصرّح بها الشارع.

قال الإمام مالك إيّاكم ورأىَ الرجال إلا إن أجمعوا عليه واتّبعوا ما أنزل إليكم من ربّكم وما جاء عن نبيّكم وإن لم تفهموا المعنى فسلّموا لعلمائكم ولا تجادلوهم فإن الجدل فى الدين من بقايا النفاق قال ابن القاسم بل هو النفاق كله اهـ لأن الجدل بالباطل فى الحقّ مع العلماء كالجدل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رضى الله عنه يقول سلّموا للأئمّة ولا تجادلوهم فلو كنا كلما جاءنا رجل أجدل من رجل اتبعناه لخفنا أن نقع فى ردّ ما جاء به جبريل عليه السلام اهـ

وكان الإمام الشافعى رضى الله عنه يقول حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مستغنٍ بنفسه إذا صحّ اهـ وكان الإمام أحمد رضى الله عنه إذا سئل عن مسألة يقول أولأحدكم كلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اهـ واستشاره شخص فى تقليد أحد من علماء عصره فقال لا تقلدنى ولا تقلد مالكًا ولا الأوزاعى ولا النخعى ولا غيرهم وخذ الأحكام من حيث أخذوا اهـ وهو محمول على من له قدرة على استنباط الأحكام من الكتاب والسنّة وإلا فقد صرّح العلماء بأنّ التقليد واجب على العامّىّ لئلا يضلّ فى دينه فالأئمة المجتهدون دائرون مع أدلّة الشرع وكلهم مُنَزَّهُونَ عن القول بالرأى فى دين الله تعالى ومَذَاهِبُهُمْ كلُّها محررةٌ على الكتاب والسنة فيجب الأدب معهم والحفظ لحقوقهم ولا يجوز لمن جهل كلامهم ودقّة مداركهم أن يتسرّع إلى الطعن فيهم والازدراء بهم قال الشاعر

   وإذا كنت بالمدارك غـرًّا                   ثم أبصرت حاذقًا لا تمارِ

   وإذا لم تَرَ الهلالَ فسلّمْ                   لأنــاسٍ رَأَوْهُ بــــــالأبـــــــصــــــــارِ

ولا ينبغِى أن يُفهم من كلام الإمام أحمد رضى الله عنه أن الاجتهاد واجب على عامة المسلمين لأن ذلك باطل من وجوه

الأول أن تكليف من لم يصل إلى رتبة الاجتهاد به سواء كان عامّيًا محضًا أو عالمًا خلاف ما وقع عليه إجماع السلف من أن العوامّ لم يكلفوا فى شىء من الأعصار بالاجتهاد فلو كانوا مأمورين بذلك لكلفوهم به وأنكروا عليهم العمل بفتاواهم مع أنه لم يقع من ذلك شىء.

الوجه الثانى أن تكليفهم بالاجتهاد يؤدّى إلى تفويت معايشهم واستضرارهم بالاشتغال لتحصيل أسبابه وذلك سبب لفساد الأحوال.

الوجه الثالث أن تكليفهم بالاجتهاد يؤدّى أيضًا إلى تفويت الاجتهاد نفسه بأن يتعذر أو يتيسر لأن جميع المكلفين لو اشتغلوا بالاجتهاد لفاتهم إذ الاجتهاد مَلَكَةٌ فاضلةٌ بها يطلع صاحبها على أسرار الشريعة فى الكتاب والسنّة والإجماع والقياس وبها يتقدر على استنباط الأحكام الشرعية من أدلّتها وهذا لا يكون إلا بالتفرغ لمزاولة ما يتوقف عليه وذلك يتوقف على وجود من يقوم بحاجات ذلك المجتهد الضرورية حتى يمكنه التفرغ لما ذكر ولذلك قال تعالى (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين) الآية.

وقد وقع بعض العوامّ فى مفسدة عظيمة وهى أنه صار لا يكترث بأقوال المجتهدين وأتباعهم من العلماء الأعلام ويفسر الآيات والأحاديث بالرأى قبل معرفة كلام الأئمّة المشهورين بالعلم والمعرفة والإتقان مع أنه لا يجوز تفسير شىء من الآيات والأحاديث بالرأى ولا حملها على معان لم ينص عليها الأئمة المعتبرون كما أفاده شيخنا العلامة المكى الشيخ محمد علىّ المالكىُّ المتوفى بالطائف ٢٨ شعبان سنة ١٣٦٧هـ فى كتابه (المقصد السديد) نسأله تعالى أن يوفقنا ويهدينا سواء السبيل.

انتهى والله أعلم.

 


[١]المرجع مقدمة نسخة كتاب بلوغ المرام المطبوعة باهتمام الشيخ محمد أمين الكردِىّ رحمه الله.