طرف من أنباء العلم والعلماء[١]

قبساتٌ من فوائد وكيل مشيخة الإسلام محمد زاهد الكوثرِى
المتوفى سنة ١٣٧١هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله ربّ العالمين وصلوات الله وسلامه على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه ليس بخافٍ ما فِى استذكار أنباء أهل العلم والورع من استنهاض الهمم إلى اقتفاء ءاثارهم مع ما فِى ذلك من استنزال الرحمات وإذن فلا بأس أن نتحدث للقراء عن بعض أنباء مقتضبة من هذا القبيل وفِى ذلك ذكرَى للذاكرين وعبرة للمعتبرين.

من المعلوم أن ملوك بنِى عثمان كانت لهم صفتان صفة الخلافة وصفة السلطنة وكان مشايخ الإسلام ينوبون عن الملوك فِى صفة الخلافة كما كان الصدور ورؤساء الوزراء يمثلون صفة السلطنة نيابة عنهم وكان عُلُوُّ منزلة مشيخة الإسلام على رياسة الوزراء بنسبة ما للخلافة الإسلامية من الجلالة والمهابة أيام كان الدين الإسلامِىّ فِى أعلى ذروة الإجلال عند رجل الدولة وأفراد الأمة وكان أَنْبَهُ العلماءِ أعلمُهُمْ وأورعُهُمْ هو الذِى يُوَّلَى مقامَ المشيخة الإسلامية احتفاظًا بمهابته العظيمة فِى القلوب وتأثيره العميق فِى توجيه شؤون الأمة إلى خير المجتمع الإسلامِىّ.

والذين تولوا هذا المقام السامِى طول مدة الحكم العثمانِى إلى عهد تجريد الخلافة من الحكم نحو ١٢٧ شيخًا من مشايخ الإسلام على اختلاف منازلهم. ولو أُفْرِدَتْ تراجمُ هؤلاء بالتأليف لرأى الجمهور مواضعَ عبرٍ فِى أنبائهم وكان هناك أسر معروفة بالعلم والفضل سبق أن تولَى منهم غيرُ واحد هذا المقام العالِى فمنهم ءال سعد الدين الأماجد ولا يُحْصَى عدد أهل الفضل منهم فِى عدة قرون والذين حازوا مقام المشيخة الإسلامية خاصةً ستةُ رجال منهم، فأولهم شيخ الإسلام محمد سعد الدين بن حسن جان التبريزِىّ المتوفَى سنة ١٠٠٨ تخرج فِى العلوم على شيخ الإسلام أبِى السعود العمادِىّ ثم حاز العلم وحسن التدبير والكياسة البالغة، تخرج عليه الشهاب الخفاجِىّ العالم المصرِىّ المشهور، وأبوه كان نديم السلطان سليم الأول وكان من سلالة الولِىّ الكبير السيد محمد بهاء الدين الحسينِىّ البخارِىّ قدس سره شيخ العلامة السيد الشريف الجرجانِىّ فِى التصوف وكان سعد الدين هذا أول من تَوَلَّى هذه المقام من هذه الأسرة الكريمة.

وكان بمعية السلطان محمد الثالث فِى حرب هونغاريا المعروفة بموقعة (أكرى) وبعد أن انتصر الجيش الإسلامِىّ بادئ ذِى بدء تحالفت دولٌ من أهل الصليب وكروا على جيش الإسلام وضايقوهم بشدة متناهية إلى أن قاربوا مخيم السلطان وبدأ الضعف فِى صفوف المجاهدين حتى هَمَّ السلطان أن يتراجع فقام الشيخ سعد الدين هذا وأمسك بزمامِ حصانِ السلطانِ وحَوَّلَ اتجاهَهُ إلى جهة جيش العدو بكل رباطة جأش رغم تدفق جيش العدو من كل جانب كالسيل الجرار وقال للسلطان بصوت جهورِىّ تتجاوب أصداؤه فِى الصفوف (إنما نعيش لمثل هذا اليوم نموت ولا نرَى ذُلَّ الإسلام) فأثارت كلمته هذه روح الحماس البالغ فِى نفس السلطان وفِى الجيش كله حتى خاضوا صفوفَ العدو وحملوا عليها حملة المستميت فكتب الله للإسلام النصر المبين بعد أن ذاقوا مرارة الانهزام كما هو مُدَوَّنٌ فِى التاريخ.

وكان هذا الانتصار أَشْبَهَ شَىْءٍ بانتصار الملك السلجوقِى ألب أرسلان بعد أن يئس وكاد أن يستسلم وَأَسْرِهِ للمَلِكِ أرمانوس سنة ٤٦٣ بحملة صادقة أشعلت نار حماسها فِى نفوس الملك كلمةُ الشيخ أبِى نصر محمد بن عبد الملك البخارِىّ العالم المشهور سواء بسواء.        

ويُذَكِّرُنَا هذا وذاك ما فعل شيخُ مشايخنا الشيخ أحمد ضياء الدين الكمشخانوِىُّ المحدث المتوفَى سنة ١٣١١ حيث حارب الروس فِى جهة الشرق متطوعًا وتحت قيادته جماعةٌ من العلماء والطلاب وكذا صنع شيخ مشايخنا العلامة أحمد شاكر بن خليل المتوفَى سنة ١٣١٥ حيث ساق كتيبةً من متطوعِى العلماء والطلاب حتى فتحوا مدينة علكسانيج فِى حرب الصرب وألقَى هذا الأستاذ الكبير يوم الفتح خطبة الجمعة باسم الخليفة حيث صَلَّى الجمعة فِى أكبر كنيسة هناك.

ولنرجع إلى الكلام عن الشيخ سعد الدين فنقول إنه قد أنجب أولادًا عُرفوا بالفضل التام والعلم الواسع وكان الناس يتعجبون من نشأتهم كلهم أقمارًا فِى العلم والدين فبعثوا امرأةً تسأل أمهم كيف تمكنتْ من تنشئتهم هذه النشأة فقالت ما أرضعتُ أحدًا منهم بدون طهارةٍ كبرى فِى حينها وكنت أذبح عن كل منهم فِى كل جمعة ما أتصدق بلحمه على الفقراء فنشأوا كالحلقة المفرغة لا يدرِى أين طرفاها.     

وكان محمد سعد الدين هو الثانِى والعشرين من مشايخ الإسلام فِى الدولة وقد تولَى المشيخةَ اثنان من أنجاله وهما محمد بن سعد الدين المتوفَى سنة ١٠٢٤ ومحمد أسعد بن سعد الدين المتوفَى سنة ١٠٣٤ فالأول هو الرابع والعشرون من مشايخ الإسلام فِى الدولة وكان علمُهُ وفطنتُهُ وورعُهُ موضعَ اتفاقِ الجميع وكان استحضاره لمسائل الفقه وقوة حافظته مضرب مثل ومن غرائب ما وقع له كما يذكرُهُ المُحِبِّىُّ فِى خلاصة الأثر (أنه ركب يومًا البحر إلى بستان له وكان أمين الفتوَى فِى خدمته وكان زمنُ توزيع الفتاوَى قد قرب فقال شيخ الإسلام لأمين الفتوَى أخرج الأسئلة واقرأها عَلَىَّ لأستحضر أجوبتها فإذا وصلنا إلى البستان سَهُلَتِ الكتابة عليها فأخرجها أمين الفتوى وقرأها حتى أتى على ءَاخِرِها وكان الأمين يضع المقروء أمامه في الزورق الذِى هُمْ فيه فَهَبَّتْ ريحٌ عاصفة وأَلْقَتِ الأوراق فِى البحر فاضطرب الأمين لذلك غاية الاضطراب فقال له شيخ الإسلام لا بأس عليك اكتبْ ما أُمْلِى عليك وأخذ يُمْلِى عليه الأسئلة المكتتبة وهو يكتب حتى لم يبقَ منها شَىْءٌ وكانت تَنُوفُ على مِائَةٍ) وهذا من الدليل على مبلغ قوته فِى الحفظ واستحضار المسائل وكم لهذه الأمة من علماء من هذا الطراز فِى الحفظ وسعة العلم، الأمر الذِى قد يستبعده من لم يدرس أحوال حفاظ هذه الأمة.

ومحمد سعد الدين هذا هو الذِى بعث إليه السلطان أحمد الأول بانِى ذلك الجامع البديع ذِى المآذن السِّتِّ قرب أيا صوفيا كبيرَ حجابه بخط سلطانِىّ يسأله فيه (ما هو الخلل الطارئ على كيان الدولة وشؤون الرعية مع النصر الموعود لهذه الأمة) فأخذ الشيخ الخط السلطانِىَّ من يد كبير الحُجاب وكتب تحته بعد مدّ باء الجواب على الوجه المعتاد فِى الإفتاءات (مالِى ولهذا الأمر. كتبه محمد بن سعد الدين) وأعاد الورق إلى السدة الملكية فَاحْتَدَّ السلطان غضبًا واغتاظ جد الغيظ حيث اعتبر أنَّ شيخ الإسلام لم يلتفت إلى سؤاله فطلبه للمثول بين يديه فِى الحال فحضر وأخذ السلطان يعاتبه مُرَّ العتاب على خلاف ما هو المعتاد من التسامح مع مشايخ الإسلام وقال كيف تقول أنا مَا لِى فِى أمر يهمنِى جدًا وتهمل الجواب فقال شيخُ الإسلام كلا بل جاوبتُ على سؤال مولانا أدقَّ جواب فمتى كانت عنايةُ رجال الدولة وأفراد الأمة بما يخصُّهُمْ أنفسهم فقط دون التفاتٍ إلى ما يَعُمُّ ضررُهُ الجميعَ أو يشملُ نفعُهُ قائلين ما لِى ولهذا الأمر فقد طمت البلية وعمت المصيبة لانصرافهم إلى منافعهم الشخصية دون النفع العام. ولما شرح شيخ الإسلام كلامه هذا الشرح أعجب به السلطان جدًا وخجل من عتابه وسعَى فِى إرضائه سعيًا بالغًا وأنعم عليه بثلاث خلع فاخرة كما أنبأنا بذلك التاريخ.  وتلك الكلمة (أنا ما لِى) على وجازتها هِى علة العلل فِى طروء الخلل فِى كل زمن.

وكان أسعد بن سعد الدين هو الخامس والعشرين من مشايخ الإسلام وكان مع أخيه كَفَرَسَىْ رهانٍ فِى العلم والفضل وشارك فِى حرب أران بمعية السلطان، وللعلم بمبلغ صرامته فِى الحق نذكر كلمتَهُ الصريحة للسلطان عند استفحال الشرور حيث قال للسلطان مصطفَى خان الأول (إنَّ أمرَ المملكةِ اختلَّ وإن الأعداء تسلطتْ علينا ونحن نَخْشَى ضياع الملك وأنتَ لستَ بلائق للسلطنة) حتى تم ما تم.

وبعد وفاة شيخ الإسلام أسعد هذا أراد السلطان عثمان الثانِى فِى استطلاع ءَارَاءِ كبار العلماء فيمن يخلفه فمثل بين يدى جلالة السلطان العالم الكبير الحسين بن محمد المعروف بأخى زاده فقال للسلطان (كُلُّ مَنْ وقفَ على قدميه بحضوركم ورُفِعَتْ إليه ثلاثُمِائَةِ مسألة وكتب جواب الِمائَتَيْنِ من غير مراجعةٍ فَلْيُوَلَّ مقام الإفتاء) وهذا من الدليل على مبلغ سعة الشيخ أسعد فِى العلم بحيث يجب أن يكون من يخلفه بهذا الوصف.

وابنه أبو سعيد المتوفَى سنة ١٠٧٢ رابع من ولِى المشيخة من هذه الأسرة وهو التاسع والعشرون من مشايخ الإسلام.

ومحمد البهائِى بن عبد العزيز بن سعد الدين المتوفَى سنة ١٠٦٤ هو خامس من وَلِىَ مشيخةَ الإسلام من هذه الأسرة وهو الثانِى والثلاثون من مشايخ الإسلام فِى الدولة وكان معروفًا بالذكاء البالغ وكان ينتسب بهائيًا لئلا يضيع نسبه حيث كان سليل الولِى الكبير السيد محمد بهاء الدين البخارِىّ المعروف بشاه نقشبند السابق ذكره، وكان محمدٌ البهائِىُّ ثانِىَ اثنين أجادا من علماء العاصمة الإجابة عن أسئلة العلامة الحكيم مُلَّا جَلَبِى الآمدِىّ فِى غوامض العلوم حيث أمره السلطان مراد الرابع أن يختبر علماء العاصمة ليكون على بَيِّنَةٍ من منازلهم فِى العلم، وحديثُ اليوم لا يتسع لبيان كيفية اختبار علماء العاصمة وربما نعود إلى هذا البحث فِى حديثٍ ءَاخَرَ إن شاء الله تعالى.

وءَاخِرُ من ولِىَ المشيخة الإسلامية من هذه الأسرة هو فيض الله بن أبِى سعيد بن أسعد بن سعد الدين المتوفَى سنة ١١١٠ وهو السابع والأربعون من مشايخ الإسلام وله إلمامٌ بعلم الهيئةِ والفلكِ أيضًا ولسنا نقصد استيفاء تراجم هؤلاء الستة هنا وله مقامٌ ءَاخَرُ وإنما أردنا الإشارة إلى مواضع العبر من تراجمهم لمن أراد أن يَذْكُرَ.

والله تعالى أعلم.


[١]المرجع كتاب مقالات الكوثري لوكيل مشيخة الإسلام محمد زاهد الكوثرِى.