عدم مشروعية اعتماد الخبيرة والبصمة الوراثية ونفى النسب وأدلته (١)[١]

قبسات من فوائد عالم فاس
الشيخ الفقية الأصولِىّ محمد بن محمد التاويل
المتوفى سنة ١٤٣٦هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله الذى أكمل لنا الدين وأتم النعمة ورضى لنا الإسلام دينًا وصلى الله وسلم على النبىّ الكريم الذى لم ينطق عن هوى إن هو إلا وحىٌ يوحَى أما بعد فإن مبدأ اعتماد الخبرة الطبية والبصمة الورائية لنفى النسب وخاصة نسبَ من وُلد على فراش الزوجية عن الزوج دون لعان هو إجراء غير مشروع وباطل لا يصح، لأنه مخالف لكتاب الله وسنة رسوله وقضائه وقضاء الخلفاء الراشدين من بعده، ومذهب الصحابة وإجماع الأمة. كما أنه مخالف لروح الشريعة الإسلامية مقاصدها ونصوصها، والقواعد الأصولية والفقهية، ثم هو ظلم صارخ للزوجة والولد معًا، ويشكل تهديدًا لاستقرار الأسرة وسلامة المجتمع. 

هذا على سبيل الإجمال، وأما على سبيل التفصيل فهو كما يلي

أولاً هو مخالف لكتاب الله تعالى وحكمه فيمن قذف زوجته ونَفَى حملها أو ولدها منه وهو وجوب اللعان المنصوص عليه فى قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِين وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[٢] فإن هذه الآيات عامة فيمن رمى زوجته بالزنا وفيمن رماها بنفى حملها أو ولدها منه، كما قال ابن العربي[٣] وهو الذى يدل عليه الإطلاقُ فى لفظ الرمى وحذفُ المتعلق فى قوله تعالى {يَرْمُونَ} الصادق بالرمى بالزنا والرمى بنفى الحمل. كما يدل عليه أيضًا سبب النزول، فإن هذه الآيات نزلت فى هلال بن أمية، وقيل فى عويمر العجلاني، وقيل فيهما معًا. قذف كلُّ واحد منهما زوجته وانتفى من حملها كما جاء فى حديث ابن عباس رضى الله عنهما فى قصة هلال بن أمية[٤]، وحديث سهل بن سعد الساعدى وابن مسعود رضى الله عنه ما فى قصة عويمر[٥]، وعن عبد الله بن جعفر رضى الله عنه قال حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لاعن بين عويمر وامرأته مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك وأنكر حملها الذى فى بطنها وقال هو لابن السمحاء فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هات إمرأتك فقد نزل القرءان فيكما فلاعن بينهما بعد العصر[٦].

وعلى كل حال سواء نزلت فى هلال أو عويمر أو فيهما معًا فإنها تدل

أولاً على مشروعية اللعان لنفى الحمل.

وتدل ثانيًا على أنه واجب فى حال القذف ونفى الحمل بقوة الشرع لا خيارَ للزوجين فيه ولا رأى لهما فيه كما قال ابن العربى «وظاهر القرءان يكفى لإيجاب اللعان بمجرد القذف».

وتدل ثالثًا على أنه الحل الوحيد والسبيل المشروع لنفى الزوج مَنْ وُلِد على فراش الزوجية.

أما وجه دلالتها على مشروعية اللعان لنفى الحمل فلأنها نزلت فى ذلك كما سبق، ومن القواعد الأصولية أن صورة السبب قطعية الدخول فى العام كأنها منصوص عليها بخصوصها لا يجوز إخراجها من حكم العام ولا إستثناؤها منه.

وأما وجه دلالتها على الوجوب فللقاعدة الأصولية أيضًا أن المصدر الواقع فى جواب الشرط المقرون بالفاء فى معنى الأمر[٧] والأمر للوجوب كما فى قوله تعالى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [٨] أى فليحرروا رقبة والموصول فى معنى الشرط[٩] كما فى قوله تعالى {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَآسَّا}[١٠] أى فليحرروا رقبة. والتقدير هنا والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أى فليشهد أحدهم أربع شهادات.

وهذا كله يدل على أن اللعان ثابت بالشرع وعلى الحاكم إجراؤه إذا توفرت شروطه وأسبابه، ولا يجوز له تركه وتعطيله أو إلغاء العمل به أو توقيفه لأى سبب من الأسباب، ولهذا خَطَّأَ العلماءُ صاحبَ الزقاقية حين قال فيما جرى به العمل بفاس «وترك لعان مطلقًا أو لفاسق»، وبالغوا فى الإنكار عليه والتحذير من مقولته المخالفة للكتاب والسنة وإجماع الأمة.

وأما وجه دلالتها على أن اللعان هو السبيل الوحيد المشروع لنفى نسب الابن المولود على فراش الزوجية داخل مدة الحمل الشرعية، فلأنه لو كان هناك سبيل آخر غير اللعان يعطى للزوج الحق فى نفى ولده لذكره الله تعالى مع اللعان ولبينه كما بين اللعان ولم يسكت عنه، لما يلزم على السكوت عنه من تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو لا يجوز، ولأن الاقتصار على ذكر أحد الخيارين أوأحد الحَلّين - اللعان مثلاً - يوهم أنه لا بديل له يعوضه ويقوم مقامه على التخيير أو الترتيب، وذلك لا يجوز لإيقاعه المخاطب فى الجهل. والمتتبع لنصوص القرءان الكريم والسنة النبوية الشريفة يلاحظ أنه كلما ذكر الله تعالى أو رسوله واجب له بدلٌ يسدّ مسده ويقوم مقامه على التخيير أو على الترتيب يذكر معه بدله أو بدائله حتى يكون المكلف على علمٍ بما كُلّف به ومعرفةٍ بما طلب منه وأمر به، فعُلم أن الواجب فى حالة إنكار الزوج ولده وقذف زوجته هو اللعان وحده دون سواه وأن اعتماد البصمة الوراثية إلى جانب اللعان كما يراه البعض[١١] بدعة منكرة ومخالفة صريحة لكتاب الله تعالى، وأن الدعوة للاستغناء بها عن اللعان وإحلالها محله فى دعاوى النسب تجاوزٌ سافرٌ لحكم الله وتعطيل لكتابه ومحادةٌ لله ورسوله فى شريعته وأحكامه.

ثانيًا إنه مخالف لقضائه صلى الله عليه وسلم فيمن قذف زوجته وأنكر ولدها منه فإنه صلى الله عليه وسلم لاعن بينهما كما جاء فى حديث البخارىّ عن ابن عمر رضى الله عنه أن رجلاً رمى إمرأته فانتفى من ولدها فى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بهما فتلاعنا كما قال الله ثم قضى بالولد للمرأة وفرق بين المتلاعنين[١٢] وفى رواية لمالك عن ابن عمر رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعن بين رجل وامرأته انتفى من ولدها ففرق رسول الله بينهما وألحق الولد بأمه[١٣].

ولم يأمر صلى الله عليه وسلم بعرض الولد الذى نفاه الزوج على القافة لتلحقه بالزوج أو تنفيه عنه. ومن القواعد الأصولية أن تركه صلى الله عليه وسلم الشىء مع توفر الدواعى إليه كما هنا يدل على عدم مشروعيته.

وكانت القافة معروفة عند العرب قبل مجيء الإسلام وكانت محل ثقة واحترام عندهم، يعتبرونها علمًا من علومهم يحتكمون إليها فى إثبات النسب، ولا يعترضون على أحكامها وقراراتها حتى جاء الإسلام وأقرّ ذلك[١٤].

روى البخارى وغيره - واللفظ للبخارى - عن عائشة رضى الله عنها فى بيان أنكحة الجاهلية ونكاح رابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علمًا، فمن أرادهن دخل عليهن. فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جُمعوا لها ودعَوْا لها القافة ثم ألحقوا ولدها بالذى يرون فالتاط به - أى التصق - ودُعى ابنه لا يمتنع من ذلك. فلما بعث محمد بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم[١٥].

هذا اعتقادهم فى القافة، وهذه نظرتهم إليها. وهذه ثقتهم فيها وفى أحكامها واطمئنانهم إليها، وهى لا تقلّ عن ثقة الناس اليوم بالخبرة الطبية. فلو كان العمل بها فى نفى الولد مشروعًا لرجع إليها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولَمَّا لَمْ يقض بعرض الولد على القافة دَلَّ ذلك على عدم اعتمادها فى نفى من وُلِدَ على فراش الزوجية وأنه لا ينتفى إلا بلعان كما قضى الله ورسوله. والخبرة مثلها فى ذلك لا يجوز الإعتماد عليها والعمل بها فى نفى النسب.

ثالثًا إنه مخالف لقضائه صلى الله عليه وسلم فى ابن زمعة حين اختصم فيه سعد بن أبى وقاص وعبد بن زمعة فإنه صلى الله عليه وسلم لم يعرض الولد المتنازع فيه على القافة وهى الخبرة المعترف بها يومئذ.

روى البخارى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت كان عتبة بن أبى وقاص عهد إلى أخيه سعد ابن أبى وقاص أن ابن وليدة زمعة منّى فاقبضه إليك. فلما كان عام الفتح أخذه سعد فقال ابن أخى عَهِدَ إلى فيه فقام إليه عبد بن زمعة فقال أخى وابنُ وليدة أبي، وُلد على فراشه، فتساوقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سعد يا رسول الله ابنُ أخى عَهِدَ إلى فيه. وقال عبد بن زمعة أخى وابنُ وليدة أبي، ولد على فراشه، فقال صلى الله عليه وسلم هو لَكَ يَا عَبْدُ بن زمعة الولدُ للفراش وللعاهر الحجر. واحتجبى منه يا سودة[١٦].

 

والحجة فيه من وجوه.

- إنه لم يعرض الولد على القافة مع وجودها واستمرار العمل بها.

- إلحاق الولد بصاحب الفراش زمعة رغم شبهه الشديد بعتبة واعترافه بأبوته له.

- إبطال دعوى استلحاق عتبة للولد المتنازع فيه، وإلغاء اعترافه بأبوته وعدم الأخذ بوصيته.

- إلغاء الشَّبَهِ وعدم الاعتداد به، وهو عُمْدة القافة الذى تعتمد عليه فى إلحاق الولد بأبيه، فدل على أنه لا عبرة بالشَّبه مع وجود الفراش، وهو ما يدل عليه حديث مسلم وغيره فيمن ولدتْ إمرأته غلامًا أسودَ فجاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم يُعَرّض بنفيه فلم يُرخّص له فى الانتفاء منه، وقال له هل لك من إبل؟ قال نعم، قال فما ألوانُها؟ قال حُمر، قال هل فيها من أوْرَق؟ قال نعم قال فأنى ذلك؟ قال لعله نزعه عرق. قال فلعَلَّ ابنك هَذا نَزعه عِرْق[١٧].

وإذا لم يصح الاعتماد على الشَّبَه والقيافة فى نفى الولد مع وجود الفراش لم يصح الاعتماد على الخبرة لنفى الولد مع وجود الفراش أيضًا.

رابعًا أنه مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم «أيما إمرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله فى شيء ولن يدخلها الله جنته»[١٨] وهو دليل على أن حمل الزوجة من الزنا لاحقٌ بالزوج إلا أن ينفيه بِلِعَان. ومن هنا يقول المالكية فى المرأة تجلس على منى رجل أجنبى فتحمل منه إن ولدها يلحق بالزوج إلا أن ينفيه بلعان[١٩].

ومن هنا أيضًا يقول مالك رحمه الله فيمن زوَّج عبدَهُ أمتَه ثم يطؤها السيد وتحْمِل منه إن الولدَ لاحِقٌ بالزَّوْج ويعاقب السيد»[٢٠].

ولهذا أيضًا يقول الفقهاء فيمن حملت زوجته من الزنا أنه يجب عليه أن ينفيه بلعان، فلَو كان ينتفى عنه بغير لعان لما أوجبوا عليه اللعان. 

خامسًا إنه مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم «الولد للفراش وللعاهر الحجر»[٢١]، وهو حديث متفق عليه رواه أكثر من عشرين صحابيًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجه البخارى ومسلم وأصحاب السنن والمسانيد وتلقته الأمة بالقبول. وهو دليل على لحوق الولد بالزوج وثبوت نسبه ولوحملت به الزوجة من زنا كما يدل على ذلك لفظ الحديث وتعليله.

أما لفظه فإن قوله صلى الله عليه وسلم «الولد للفراش» هكذا بصيغة التعريف يدل على العموم أى كل ولد لاحق بصاحب الفراش سواء حملته الزوجة من صاحب الفراش أو غيره، وهو ما أكده قوله «وللعاهر الحجر» المفيد للحصر وأنه ليس للزانى إلا الرجم أوالخيبة والحرمان، على الخلاف فى ذلك بين العلماء فى المراد بالحجر هل الرجم بالحجارة أو هو كناية عن الخيبة والحرمان.

وأما التعليل فإن قوله صلى الله عليه وسلم «الولد للفراش وللعاهر الحجر» إيماء كما يقول الأصوليون إلى أن علة لحوق الولد بالزوج هى الفراش، وعلة انتفائه عن الزانى هى العهر، والعلة يلزم من وجودها وجود الحكم، وهى موجودة هنا فيجب إلحاق الولد بالزوج ولا ينتفى عنه إلا بلعان، بل ذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا ينتفى عنه أبدًا، لا بلعان ولا بغيره تمسكًا بظاهر هذا الحديث وعمومه وإن كان رأيًا شاذًا يرده حديث ابن عمر رضى الله عنه من رواية مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعن بين رجل وإمرأته انتفى من ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بأمه[٢٢]، فإنَّ هذا حديث خاص وحديث «الولد للفراش» عام، ومن القواعد الأصولية أنه إذا تعارض العام والخاص يقدم الخاص على العام، ويخصص به فى صورة التعارض ولذا قال الجمهور «الولد للفراش» إلا أن ينفيه الزوج بلعان.

سادسًا إنه مخالف لما ثبت عن عمر رضى الله عنه من طرق فى أولاد الإماء من إلحاقهم بالسادة إذا اعترفوا بوطئِهِنَّ ولو زنين ولم يعرضهم على القافة خبرة العصر يومئذ.

سابعًا إنه مخالف لقول ابن عباس رضى الله عنه «إذا زنت الزوجةُ لا يُمنع الزوج من وطئها. وما حصل من ولد منه أو من غيره فيلحق نسبه به»[٢٣].

وهو نص صريح فى لحوق الولد بالزوج بمقتضى الزوجية وإن علم كونه من غيره، فلا تبقى فائدة للخبرة ما دام الولد لاحقًا بالزوج فى كل الحالات كان منه أو من غيره إلا أن يَنْفِيَه بلعان.

ثامنًا أنه مخالف لإجماع الأمة على لحوق الولد بالزوج إذا جاءت به بعد مضى أقل مدة الحمل من تاريخ العقد كما يقول الحنفية، أو من تاريخ إمكان الوطء كما يقول الجمهور، ولا ينتفى عنه إلا بلعان عند الجميع. قال ابن الحاج أجمع عامة أهل العلم أن الرجل إذا نكح إمرأة نكاحًا صحيحًا ثم جاءت بعد عقد نكاحها لستة أشهر بولد أن الولد لاحق له إذا أمكن وصوله إليها وكان الزوج ممن يطأ[٢٤]. وقال الترمذى بعد رواية حديث الولد للفراش والعمل على هذا عند أهل العلم[٢٥].

وقال فى التمهيد وأجمعت الجماعة من العلماء أن الحرةَ فراشٌ بالعقد عليها مع إمكان الوطء وإمكان الحمل. فإذا كان عقدُ النكاح يمكن معه الوطءُ والحملُ فالولدُ لصاحب الفراش لا ينتفى عنه أبدًا بدعوى غيره ولا بوجْهٍ من الوجوه إلا بلعان[٢٦].

يعنى لا ينتفى بدعوى الزانى أنّه ابنه كما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فى ابن وليدة زَمْعَة[٢٧]، ولا بإخبار القافة وشهادتهم بأنه لغير الزوج كما قضى بذلك عُمر رضى الله عنه[٢٨]، ولا بإقرار الزوجين أنه من الزنا كما قضى بذلك عثمان رضى الله عنه[٢٩]، ولا بأى وجه من الوجوه الأخرى المستحدثة كالخبرة الطِّبِيَّة أوالبَصْمَة الوراثيَّة، ولا ينتفى إلا باللعان، وباللعان وحْدَهُ الذى جعلَهُ الإسلامُ الوسيلة الوحيدة لنفْى نسب من وُلد على فراش الزوجية إذا ثبتت الزوجية وأمكن معها الوطء والحمل.

هذا محل إجماع كما قال ابن عبد البر وغيره، والاعتماد على الخبرة الطبية أو البصمة الوراثية لنفى الولد خَرْقٌ للإجماع.

تاسعًا إن أقصى ما تفيده الخبرة فى حال صحتها وصدق القائمين بها أن الزوج عقيمٌ لا يولد له إذا كان عقيمًا أو أن هذا الولد خُلِق من نُطفة غيره إذا كان غَيْر عقيم.

وكلاهما لا يصح الاعتماد عليه فى نفى النسب وعدم إلحاق الولد بالزوج.

أما الأول وهو إثبات عُقم الزوج فلا يعتد به لما نص عليه فقهاؤنا من أنه لا يجوز للزوج الاعتماد على عقمه لنفى الولد إذا لم يكن استبرأ زوجته بحيضة أو ثلاث على الخلاف بينهم قبل ظهور حملها ولا يُمَكَّن من ذلك[٣٠]، ولما قاله الشافعية أيضًا من أنه لا يعتمد على عقمه إلا أن يُخْبره مَعْصُوم[٣١].

وأما الثانى وهو إثبات أنه تخلَّق من نطفة غير الزوج فإنه لا يصح الاعتماد عليه شرعًا إجماعًا.

أولاً لما روى الشافعِىّ وابن ماجه وغيرهما عن عمر رضى الله عنه أنه سأل قائفًا عن ولدٍ فقال له النطفةُ لفلان والفراشُ لفلان، فقال له عمر صدقت ولكن قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفراش اهـ

وثانيًا لما رُوى عن عثمان بن عفان رضى الله عنه من إلحاق الولد بالزوج بالرغم من اتفاق الزوجين على أنه من الزنا، وبالرغم من شَبَهِه بالزانى ومخالفته لون الزوج الذى أنكره كما روى أبو داود بسنده عن رباح قال زوجنى أهلى أمَة لهم رومية، فوقعتُ عليها فولدت غلامًا أسودَ مِثْلِى فسميتُه عبد الله، ثم وقعتُ عليها فولدتْ غلامًا أسود مثلى فسميته عُبَيْد الله، ثم طَبَنَ لها - أى خدعَها - غلام لأهلى رومى يقال له يوحَنَّا فراطنتْه بلسانه - تفاهمت معَه بلغتهِمَا- فولدت غلامًا كأنه وزَغَةٌ من الوزغات فقلت لها ما هذا؟ فقالت هذا ليوحنا، فرفعنا إلى عثمان، قال أحسبه قال مهدى فسألهما فاعترفا فقال لهما أترضيان أن أقضى بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن الولد للفراش وأحسبه قال «فجلدها وجلده وكانا مملوكين»[٣٢] اهـ

فهذا اعترافٌ من الزوجين أن الولد من الزنا، وشواهدُ الحال تدلُّ على صدقهما لمخالفة الولد لَوْنَ الزوج وموافقة لَوْنَ الزانى ومع ذلك ألغى عثمان رضى الله عنه هذا الاعتراف والشَّبَه وألحَقَ الولدَ بالزوج وقال إنه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعرض الولد على القافة مع وجودها واستمرار العمل بها. ولا يُعرف له مخالفٌ من الصحابة فكان إجماعًا سكوتيًا.

وإذا لم يُقبل الاعتراف من الزوجين كما قضى عثمان، ولم يُقْبل قولُ القافة كما قَضَى عمر رضى الله عنه فإن الخبرة الطبية مثلُهما لا يجوز الاعتماد عليها فى نفى النسب الثابت بقضائه صلى الله عليه وسلم الولد للفراش. والفراشُ موجودٌ ثابت لا مطعن فيه.

عاشرًا إن أقصى ما تفيده الخبرة الظَّنُّ بأن هذا الولد لَيْس من نطفة الزوج فى حالة تخلقه من نطفة غيره، ولا وجود لخبرةٍ تفيد القَطْع كما يُقال جزافًا.

أولًا لأنها علميًا تحتمل الخطأ وتحتمل والتلاعُبَ فى النتائج، والاحتمال وإن ضعف فإنه يُنافى القطعَ.

وثانيًا لأنها خَبَرُ آحاد ضرورة أنه لا يُجريها - يقوم بها - عَدَدُ التواتُر من الخبراء، وخبر الواحد إنما يفيد الظن ولا يفيد العلم والقطْعَ كما يقول الأصوليون.

فأين هو هذا القطع الذى تعطيه خبرة خبير واحد أو اثنين أو ثلاثة قد لا تتحقق فيهم شروط الشهادة فى أبسط الحقوق، فكيف بالنسب الذى لم يقبل العلماءُ فى الشهادة بثبوته إلا رجلان عدلان، ولم يقبلوا فيه الشهادة على نَفْيِه من أحد.

وإذا كانت الخبرة لا تفيد إلا الظن كما ترى فإن الزواج يفيد القطع بلحوق الولد بالزوج وثبوت نسبه له شرعًا كما نص على ذلك الفقهاء[٣٣].

ويدل لذلك:

أ- اشتراطهم فى شهادة النسب أن تكون على القطع والبَتِّ أن فلانًا هو ابن فلان. وردهم الشهادةَ بالظن.

ب- أن المشهود له بالنسب لا يحلفُ مع بينته، ولوكانت الشهادة بالنسب بالظن والظاهر لوجَبَ عليه أن يحلف للقاعدة المشهورة أن كُلَّ من شُهِدَ له بالظاهر فإنه يحلف على موافقة الظاهر للباطن.

وإذا كانت الخبرة لا تفيد إلا الظن بنفى النسب، والزوجية تفيد القطع بثبوته شرعًا فإنه يجب إلغاء نتيجة الخبرة والعمل بمقتضى الزوجية وهو لحوق الولد بالزوج وثبوت نسبه منه.

أولاً للقاعدة الأصولية أنه لا تعارض بين مظنون ومقطوع وأن القطعى يقدم على الظني.

وثانيًا للقاعدة الأصولية والفقهية أيضًا أن المثبت مقدّم على النافي.

وثالثًا لأن المدار فى ثبوت النسب ونفيه فى الإسلام هو النكاح الشرعى لا النُّطفة.

ولهذا قدم عمر رضى الله عنه الفراش على القافة[٣٤] - الخبرة - وقدم عثمان رضى الله عنه الفراشَ أيضًا على اعتراف الزوجين واتفاقهما على نفى نسب ولدهما كما سبق.

الحادى عشر أنه مخالف للقواعد الأصولية فى العلة والسبب والمانع التى تشترط فى الجميع أن يكون وصفًا ظاهرًا غير خفيّ، وأن العلة والسبب يلزم من وجودهما وجود الحكم ومن عدمهما عدمه.

ومن هنا أجمع الفقهاء على أن علة لحوق الولد بالزوج هو الزواج بشرط إمكان الوطء، أو بشرط الدخول، أو بمجرد العقد على الخلاف السابق، ولم يقل أحد إن العلة هى تخلُقُه من نطفة الزوج لأنه وصفٌ خفى لا يُطّلع عليه فلا يصح التعليل به، وهو ما يدل عليه حديث «الولد للفراش» فإن فيه إيماءً إلى أن الفراش هو العلة فى لحوق الولد بالزوج.

وإذا كان الزواج موجودًا كما هو الموضوع فإنه يجب إلحاق الولد بالزوج عملاً بقاعدة العلة والسبب يلزم من وجودهما وجود الحكم.

الثانى عشر أنه مخالف لروح الشريعة ومقاصدها، فإن من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية المحافظة على أنساب الناس وأعراضهم وستر عوراتهم ما أمكن، نجد ذلك فى حديث «من ابْتُلِى منكم بهذه القاذورات فلْيَسْتَتِر»[٣٥] وقوله صلى الله عليه وسلم لمن أشار على ماعز بالاعتراف بالزنا يا هزال «لو سَتَرتْه بثَوبك لكان خَيرًا لك»[٣٦]. كما نجد ذلك فى تحديد أقل مدة الحمل بستة أشهر، وأقصى أمد الحمل بعامين أو أربعة أو خمسة وهى حالات نادرة أو أكثر من نادرة، ولكن رغبةً فى الستر على المرأة وحمايةً لنَسَبِ ولدها حُدّدت مدة الحمل فيما ذكر، وصُدقت المرأة فى دعواها الحمل من الزوج متى أمكن ذلك تحسينًا للظن بها، وحماية لأنساب أولادها، وحقنًا لدمائها بدرء حد الرجم عنها، وأخذًا بحديث «ادرؤوا الحدود بالشبهات» وفى لفظ «ادرؤوا الحدود ما استطعتم عن المسلمين»[٣٧].

والخبرة الطبية أو البصمة الوراثية وسيلة لفضحِ عورات المسلمين وقَطْعِ أنسابهم وضَرْبٌ من التجسس عليهم، فلا يجوز الإقدام عليها إلا بدليل خاص، ولا وجود له.

الثالث عشر أنه ظلمٌ للزوجة وحرمان لها من حقوقها التى ضمنها لها الإسلام باللعان والمتمثلة في

١ - حقها فى الدفاع عن نفسها وشرفها بنفسها والاكتفاء منها بمجرد أيمانها لردِّ أيمان الزوج، مثلاً بمثل سواء بسواء وعددًا بعدد دون تدخل طرف ثالث قد يُخطئ أو يتلاعب بالنتائج، ودون تكاليف مالية كما قال تعالى {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ *وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[٣٨].

٢ - سقوط دعوى الزوج ضدها وبطلان اتهامه لها، أو التشكيك فى صحتها على الأقل، فلا يدرى الناس من الكاذب منهما كما قال صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين «الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب»[٣٩].

٣ - احتفاظها بصفة العفاف والحصانة التى كانت تتمَّتُع بها قبل قذفها التى من شأنها أن تمنع من قذفها وتوجب حد من قذفها أوقذف ولدها، ففى حديث ابن عباس رضى الله عنه فى قصة المتلاعنين أنه قال «ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى أن لا يُدعى ولدها لأب، ولا تُرمى ولا يرمى ولدها، ومن رماها أورمى ولدها فعليه حد»[٤٠].

٤ - الستر عليها وعدم فضحها فتبقى لها فرصة الزواج من زوج آخر غيره ففى حديث ابن عباس رضى الله عنه فى قصة المتلاعنين أن زوجة هلال بن أمية حين لاعنها زوجها تلكأت عند الخامسة ونكصت حتى ظننا أنها سترجع، فقالت «لا أفضح قومى سائر اليوم فمضت»[٤١].

فاللعان ستر لها ولأهلها، والبصمة الوراثية فضيحة لها وتشهير بها وبأهلها، فلا يمكّن الزواج منها.

الرابع عشر أنّ فى ذلك إضرارًا بالولد وحرمانًا له من حقوقه المضمونة له فى اللعان، والتى تتلخص في

١ - بقاء فرصة استلحاقه بعد اللعان إذا ندم الزوج وأكذب نفسه فإنه يحدّ ويلحق به الولد.

وهذا بخلاف الخبرة فإنها تفوّت عليه هذه الفرصة إذا تبيّن أنه ليس من الزوج فإنه لا يمكن استلحاقه مستقبلاً.

٢ - حمايته من القذف كما سبق فى حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم «قضى أن لا تُرمى الملاعنة ولا يُرمى ولدها. ومن رماها أورمى ولدها فعليه حد» لأنه لا يُعرف من الكاذب الزوج أو الزوجة إذا التعنا، أما إذا اعتمدت الخبرة وحكم أنه ليس من الزوج صار زنا أمه مقررًا فلا يُحدّ قاذفه عندهم.

الخامس عشر أن اعتماد الخبرة فى نفى النسب من شأنه تهديد استقرار الأسرة، والتلاعب بأنساب الأطفال، وتعريض الكثير منهم إلى حرمانهم من نسبهم، وفتحٌ لباب الشر فى وجه العابثين بحقوق الناس والمتعطشين لأموالهم، خاصة إذا علمنا أن احتمال الخطأ فى الخبرة ممكن، واحتمالَ التلاعب بالنتائج أكثر إمكانًا وأقرب وقوعًا مع عموم الفساد. ومن القواعد الأصولية والفقهية أنّ درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وأن الذرائع المؤدية للفساد يجب سدها، وكل ذلك يقتضى منع اعتماد الخبرة أو البصمة الوراثية لنفى نسبٍ ثابتٍ شرعًا.

والله تعالى أعلم.


[١] المرجع كتاب موقف الشريعة الإسلامية من اعتماد الخبرة الطبية والبصمة الوراثية فى إثبات النسب ونفيه للشيخ محمد التاويل رحمه الله تعالى.

[٢] الآيات من سورة النور.

[٣] أحكام القرءان لابن العربى (٣/١٣٤٢).

[٤] سنن أبى داود (٢/٢٧٦).

[٥] نفس المرجع (٢/٢٧٤- ٢٧٥).

[٦] سنن الدارقطنى (٢/٢٧٧).

[٧] البحر المحيط للزركشى (٣/٢٧٥).

[٨] الآية ٩٢ من سورة النساء.

[٩] التحرير والتنوير (١٨/ ١٦٥).

[١٠] الآية ٣ من سورة المجادلة.

[١١] قانون الأسرة المغربي.

[١٢] أخرجه البخاري، الفتح (٩/ ٤٥١).

[١٣] التمهيد (١٥/٢٠).

[١٤] على اختلاف فى تفاصيل ذلك بين الأئمة.

[١٥] البخارى بشرح الفتح (٩/١٨٣)، سنن أبى داود (٢/٢٨١)، سنن الدارقطنى (٣/٢١٦).

[١٦] نفس المرجع، الفتح (١٣/١٧٢)، سنن النسائى (٥/١٨٠)، سنن أبى داود (٢/٢٨٢- ٢٨٣).

[١٧] البخارى بشرح الفتح (٩/٤٤٢-٣/٢٩٦)، سنن أبى داود (٢/٢٧٨)، سنن النسائى (٥/١٧٨).

[١٨] رواه أبو داود (٢/٢٧٩)، سنن النسائى (٥/١٧٩).

[١٩] دسوقى (١/١٣٠).

[٢٠] التمهيد (٨/ ١٩٦).

[٢١] سبق تخريجه.

[٢٢] سبق تخريجه.

[٢٣] موسوعة فقه ابن عباس (٢/٢٩).

[٢٤] المعيار (٤/٥١٦).

[٢٥] سنن الترمذى (٢/ ٣١٣).

[٢٦] التمهيد (٨/١٨٣).

[٢٧] سبق تخريجه.

[٢٨] سنن سعيد (٢/٧٩)، الأم (٥/٦٥٨).

[٢٩] سنن أبى داود (٣/٢٨٣).

[٣٠] الزرقانى (٤/١٩٠).

[٣١] نهاية المحتاج وحواشيه (٧/١٠٧).

[٣٢] سنن أبى داود (٣/٢٨٣).

[٣٣] نوازل العلمى (٢/٤٠٦).

[٣٤] سبق تخريجه.

[٣٥] الموطأ بشرح المنتقى (٧/١٣٤).

[٣٦] رواه الدارقطنى (٣/٨٤).

[٣٧] رواه الدارقطنى (٣/٨٤).

[٣٨] الآية ٨ - ٩ من سورة النور.

[٣٩] أخرجه البخارى الفتح (٩/٣٤٥)، سنن أبى داود (٢/٢٧٨)، سنن النسائى (٥/١٧٧).

[٤٠] رواه أبو داود (٢/٢٧٧).

[٤١] البخارى بشرح الفتح (٨/٤٤٩)، سنن أبى داود (٢/٢٧٦)، سنن النسائى (٥/١٧٣).