فسادُ القولِ بالوحدةِ المطلَقَةِ والحلولِ والاتحادِ[١]

قبساتٌ مِن فوائد الصُّوفِىِّ المتشرع
الإمام بهاء الدين الرواس الرفاعىِّ الشافعىِّ المتوفَّـى سنة ١٢٨٧هـ

الحمدُ لله ربِّ العالمين له النعمةُ والفضلُ وصلى الله وسلَّمَ على خيرِ النَّبيِّينَ إمامِ الجودِ والعدل

أما بعد فإنَّ مِنْ أشرفِ مراتب الصبر مرتبة الصبر عن الكلام فِى الذاتِ والصفاتِ فكم زلق بمثل هذا الكلام زالقٌ وكم فارق بالخوضِ فيه للحقِّ مفارقٌ، نعق ناعقهم فتدرَّجَ والعياذُ بالله تعالى إلى القولِ بوحدةِ الوجودِ المطلقة واندفعَ مع تلك المزلقة وزعم أنَّ علومَ أهلِ اللهِ عبارةٌ عن هذه الأغلاظ السقيمة والكلماتِ الذميمةِ وقفى ما لم يعلم وأراد أن يصعد إلى السطحِ بغيرِ سُلَّمٍ وتكلَّمَ بما سكتَ عنه الأنبياءُ والمرسَلُونَ وتباعدَ عن الخوضِ به الآلُ والصحابةُ والوارثون والصديقون والمقرَّبونَ حتَّى صار والعياذُ بالله ملعبةَ الشيطانِ وخبط عقلَهُ خابطُ النقصان واخترع من مخيلته لقلقة الزور والبهتان ووقف مع إبليس فى مراتعه وحرَّف الكلم عن مواضعه وهدم جدران الحقيقة وسلك من طرق الزندقة والإلحاد أسوء طريقة وادعى الوصلة ولكن إلى النار وبئس القرار وفارق منهاج السلف الأخيار.

وقد أدَّبَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبَلَّغَنَا الأحكام كلَّها وتركنا على مَحجةٍ بيضاءَ ليلُها كنهارها ولم يأتِ فِى كتابِ اللهِ ولا فِى سنة رسوله عليه الصلاة والسلام ما يشير لهذه الأغاليط التِى وضعها واضعهم حتى زلق والعياذ بالله فجعل الخلق عين الخالق والمرزوق هو الرازق وخلط وغلط ولم يكتف حتى زعم أنَّ زندقتَهُ هِى الطريقة المُثلَى والمحجة الوصلة إلى الله وجعل الكفر سعيًا مشكورًا والإلحاد طريقًا مبرورًا وظلمة الباطل نورًا.

والكثير من هذه الفرقة قام قائمهم وقعد قاعدهم مُنهمكًا بمطالعة كتب الشيخ محِى الدين بنِ عربِىّ طاب مرقده ولا بِدَعَ فكتب الشيخ كَثُرَت فيها الدسائس من قِبل ذوِى الزيغ والبُهتان وعصائِبِ الشيطان وهذا الذِى يطيب القول به لمن يريد براءة الذمة من القطع بما لم يعلم والله تعالى قال (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم).

وقد نسبوا أعنِى الدَّساسينَ للشيخ ما لا يصح لا عقلًا ولا شرعًا، ولا ينطبق على حكمة نظرية ولا يوافق صحاح القواعد العِرفانيَّة حتى تجرد لرد كلامِهِ أمةٌ من العلماء وبعضهم ظنًّا بل جزمًا بأن كلَّ ذلك من كلامه أفتوا بتكفيره وقالوا فيه ما لا يُقال وحكموا عليه بذلك فيما ظهر بقوله الذِى لا نشك فِى دسه عليه ما نصه (إن الله تعالى هو الوجود المطلق الذِى ظهر بصور العالم وتشكل بأشكاله وتسمَّى أبا سعيد الخراز وغير ذلك من أسماء المحدثات وبأن الحقَّ المُنَزَّهَ هو الخلق المشبه والآمر الخالق هو المخلوق والآمر المخلوق هو الخالق، وهو تعالى من حيثُ الوجود عين الموجودات فظهر بصورة كبش وظهر بصورة إنسان وظهر بصورة ولد لا بل بحكم ولد هو عين الوالد وإن الممكنات على أصلها من العدم وليس وجودٌ إلا وجودَ الحقِّ بصور أحوال ما هِى عليه إلا الممكنات فِى أنفسها وأعيانها فهو هو لا غيره، فكل ما ندركه فهو وجود الحق أى متلبسًا وظاهرًا فى أعيان الممكنات فمن حيث هوية الحق هو وجوده ومن حيث اختلاف الصور فيه هو أعيان الممكنات، فهو السارِى فى مسمَّى المخلوقات والمبدعات ولو لم يكن الأمر كذلك ما صحَّ بذاته ولا يؤوده حفظ كل شىء، فَقُلْ فى الكون ما شئتَ إن شئتَ قلتَ هو الخلق وإن شئتَ قلتَ هو الحق وإن شئتَ قلتَ هو الحق الخلق، فمِن نفسه عرف نفسه عرف أنه ليست نفسه بغير لهوية الحق ولا شىء من الكون مما هو كائن ويكون بغيرٍ لهوية الحق بل هو عين الحق فهو العارف والعالم والمقر فى هذه الصورة الأخرَى، وبقوله فى الكلمة العِيْسَوِيَّة فقال تعالى (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) فجعلوا بين الخطإ والكفر فى تمام الكلام كله لا فى أجزائه. وإنما قلنا الجمع بين الخطإ والكفرِ فى تمام الكلام لا فِى أجزائه لأنَّه أى الجمعُ بينهما لا يتحقق بقولهم المسيح هو الله أو الله هو المسيح فقط فإنه إن حمل على أن هوية الحق سبحانه هِى التِى تعينت وظهرت بالصورة المسيحية كما ظهرت بصور العالم كلها من غير أن يلاحظ فيه معنى الحصر فهو صدق لا شك فيه وإن لُوحِظَ فيه معنى الحصر فهو كفر وستر لما هو الحقُّ عليه من عموم سَرَيانِهِ فى الموجودات كُلِّها وإن حُمِلَ على أن الهوية الإلهية حالَّةٌ فى الصورة المسيحية فهو أيضًا كفر إذ ظهورها فِى الأشياء ظهور المطلوب فى المقيد لا ظهور الحال فِى المحل فليس فيه إلا الكفر على بعض التقادير وكذلك الجمع بينهما لا يتحقق بقولهم ابن مريم فقط لأنَّه ابن مريم بلا شك فليس فيه كفر ولا خطأ أصلًا) انتهى. كذا فى تفصيلات الجامِى.

وأيضًا قال داودُ القَيصَرِىُّ فى شرحِهِ (أى جمعوا بين الكفر وهو ستر الحق بالصورة العيسويَّةِ وبين الخطإ وهو حَصْرُ هوية الله فِى الكلمة العيسوية والمراد بقوله فى تمام الكلام أى مجموع قولهم إن الله هو المسيح ابنُ مريم جمعوا بين الكفر والخطإ لا بقولهم هو الله ولا بقولهم ابن مريم لأن قولهم هو الله أو الله هو صادقٌ من حيثُ إنَّ هوية الحقِّ هِى التِى تعينت وظهرت بالصورة العِيْسَوِيَّةِ كما ظهرت بصورة العالم كُلِّهِ وقولهم المسيح ابن مريم أيضًا صادق لأنَّه ابن مريم بلا شك لكن تمام الكلام ومجموعه غير صحيح لأنَّه يفيد حصر الحقِّ فى صورة عيسَى وهو باطِلٌ لأنَّ العالم كله غيبًا وشهادة صورته لا صورة عِيسَى فقط) انتهى.

وبقوله أيضًا (فكان عتب موسى أخاه هارون عليهما السلام لما وقع الأمر فِى إنكاه وعدم اتساعه فإن العارف مَنْ يرَى الحقَّ فى كل شىء بل يراه عين كل شىء والعارف يخلق بالهمَّة ما يكون له وجود من خارج محل الهمَّة ولكن لا تزال الهمَّة تحفظه ولا يؤودها حفظه أى حفظ ما خلقته فمن حيث الحفظ لما خُلِق له أن يقول أنا الحق

فإنْ قلتَ هذا الحقُّ قُدْتُكَ صادقًا          وإن قلتَ أمرٌ ءَاخَرُ أنتَ عابرُ

فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص تكفر بما سواه فيفوتك خير كثير بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه لأن صاحب هذا المعبود الخاص جاهل بلا شك فِى ذلك لاعتراضه على غيره فيما اعتقده فِى الله.

 والسعيد من كان عن ربه مرضيًا وما ثمَّة إلا من هو مرضِىٌّ عند ربه لأنَّه الذِى يبقَى عليه ربوبيته فهو عنده مرضِىٌ فهو سعيد فالكل مصيب وكل مصيب مأجور سعيد مرضِىٌّ عند ربه ولما كان الأمر فِى نفسه على ما قررناه لذلك كان مآل الخلق إلى السعادة على اختلاف أنواعها ثم لتعلم أنَّه ما يقبض الله أحدًا إلا وهو مؤمن أى مصدِّق بما جاءت به الأخبار الإلهية وأعنِى من المحتضَرِينَ والمحتضر ما يكون إلا صاحب شهود فهو صاحب إيمان بما ثمَّة فلا يُقبض إلا على ما كان عليه

فلم يبق إلا صادق الوعد وحده              وما لوعيد الحق عين تعاين

وإن دخلوا دار الشقـــــــــــــــــــــاء فإنهم              على لذة فيهــــــــــــــــــــــــا نعيم مبـــــــــــــاين

نعيم جنــــــــــــان الخلد والأمر واحد              وبينهما عند التجلِى تبــــــــــــــــــــــاين

يسمِى عذابًا من عذوبة طعمه              وذاك له كالقشر والقشر مباين

الأعيان ما شمت رائحة من الوجود وأن الممكنات على أصلها من العدم فقد علمت من يلتذ ومن يتألم) انتهى.

قال السيد الرواس وأيضًا حكموا عليه بإنكاره حقائق الأشياء التى اجتمع على ثبوتها الخارجِىِّ العلماء والعقلاء بل اتفق على إثباتها جميع الملل والنِّحل لأن كلًا من الحسِّ والعقل والشرع يشهد بأنَّ حقائق الأشياء ثابتة والعلم بها متحقق فما أنكرها عنادًا إلا السُوفُسْطَائِيَّة والوجوديَّة فالعنادية أنكروها رأسًا والوجودية أنكروها فيما عدا الوجود المطلق كما حقّقه السيالكوتِى فِى حاشيته على شرح العقائد قال إنَّ العنادية يُعانِدُون العُقلاء الجازمين ثبوت الأشياء من الواجب والمُمكِنِ ويدَّعون الجزمَ بعدَمِ ثوبتِ نسبة أمر إلى ءَاخَرَ فى نفس الأمر حتى نسبة التميز فلا تكون الحقائق إلا أوهامًا وخيالاتٍ كالسراب فليس فِى الحقيقة رَبٌّ ولا عبدٌ ولا نبِىٌّ ولا مرسلٌ لأنَّ الكل راجع إلى أصل واحد فِى الحقيقة هو الوجود المُجرد العارِى عن التكثير وإنما التمايز إنَّما هو بحسب التعينات الوهمية كما ذهب إليه الصوفية الوجودية انتهى. فإذًا يتعين أنَّ      مذهب الوجودية أنَّ جميع الحقائق سوَى الوجود المطلق أوهام وخيالات كالسراب فليس عندهم فى الحقيقة سوى الوجود المطلق لا عبد ولا نبِى ولا مرسل ولا شرائع ولا كتب منزلة كما نقلوا عن الشيخ محِى الدين فى رسالة له (من عرف نفسه عرف أنَّ نبيه هو ورسوله هو ورسالته هو وكلامه هو أرسل نفسه بنفسه من نفسه) انتهى.

قال السيد الرواس أليست هَذَيانَاتُهُم هذه ودسائسهم على الشيخ وأمثاله كلها إلحادًا وزندقة وإبطالًا لجميع الشرائع وإفسادًا فِى دين الإسلام لأنَّه معلوم بالبَداهة أن ثبوت ذوات الأنبياء وشرائعهم وثبوت الجنة والنار والثواب والعقاب فِى دار الجزاء إنَّما يُبتنِى على ثبوت الحقائق فى الخارج وإذا انتفَى ثبوتها فيه انتفَى ثبوت ذوات الأنبياء عليهم السلام وغيرهم من الأمور المذكورة بالضرورة فلا يتأتَّى حينئذ إثباتُ رسول ومرسل إليه فيلزم من ذلك بطلان جميع الأمور الدّينية والتَّكاليف الشرعية.

وأما القول بإقرار الأديان وادّعاء الإيمان بالرّسل تَسترًا وتلبيسًا مع نفِى الحقائق وسلبِ الوجود عن الأشياء المستلزم إبطال الشرائع فتناقضٌ ظاهرٌ ومحالٌ باهرٌ بل هو عين الزندقة والإلحاد المنافيان للشرائع والأديان فانظر وأنْصِفْ إن كنت أهلًا للإنصاف.

فلما عجزوا عن إقامة البُرهان وسوقِ الأدلة إلى إثباتِ المَرام بهتوا وتحصنوا مع ارتكاب أنواع المحالات الفظيعة فِى ترويج تلك الأباطيل الشنيعة بادعاء الكشف والعيان كما قال سعد الدين التفتازانِىُّ رحمه الله فِى رسالته ويُرَوّجون تلك السفسطة النافية لدين الإسلام ولزوم الأحكام بإحالتها على الكشف ويتفوهون بأن درجة الكشف وراء طور العقل وأنت خبير بأنَّ مرتبة الكشف نيل ما ليس له العقل ينال لا نيل ما هو ببديهة العقل مُحال ولا ينبغِى أن يتوهم أنَّ ذلك من قبيل ما ليس له العقل ينال بل هو مستحيل وللعقل فِى إبطاله تمكن ومجال.

ثم إنَّ ما يناله الكشف ولا يناله العقل عبارة عندهم عن الممكن الذِى الطريق إليه العيان دون البرهان لا المحال الممتنع الوجود فى الأعيان إذ الكشف لا يجعل الممتنع متصفًا بالإمكان موجودًا فى الأعيان.

وقال أيضًا فِى محل ءاخر من تلك الرسالة فكيف يحل لمسلم أن يُسَمِّىَ بالتصوف هذه الزندقة وأولئك الكفرة الزنادقة بالمتصوفة بل التصوف فى لسان القوم عبارة عن التخلُقِ بالأخلاق النبوية والتمسُكِ بقوائِمِ الشريعة المطهرة المحمدية فى العلمية والعملية لا عن عقيدة المعطلة والسوفسطائية والدهرية.

ومما يزيد لضلال أولئك الملحدين كشفًا وإيضاحًا ولحال أولئك المبطلين هتكًا وافتضاحًا أنَّهم يجمعون فِى إثبات تلك الزندقة الملعونة بين إقامة الحجة والبرهان وبين ادعاء ظهورها عليهم بالكشف والعيان لأنها ليست فِى حيز الإمكان لقصور العبارة عن بيان هذه الحال وتعذر الكشف عنها بالمقال فلا يمكن إيداعه فِى الكتب والرسائل فضلًا عن إثباته بالحجج والدلائل وناهيك ببديهة العقل الحاكمة على بطلان زندقتهم التِى أصولها المكابرات وفروعها الضلالات والمُحالات التِى لم يسمع بمثلها من الكفرة الأقدمين لا من المجوس ولا من المشركين انتهَى.

والله تعالى أعلم.


[١]المرجع كتابُ مراحلُ السالكين للرواس.