قوله تعالى (وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا إليك)[١]

قبساتٌ من فوائد الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد الباعث الكتانِىّ
حفظه الله تعالى 

الحمد لله رب العالمين له الفضل وله النعمة وله الثناء الحسن وصلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم وبعد فقد قال تعالى (وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا إليك لتفترى علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبّتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا)

وقد ورد فى سبب نزول هذه الآيات أن وفد ثقيف قد جاؤوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مدلين بقولهم لن نؤمن لك حتى تعطينا خصالا نفاخر بها العرب وهى لا نعشر ولا نحشر ولا نُجَبِّى فى صلاتنا وكل ربا لنا فهو ماضٍ وكل ربا علينا فهو موضوعٌ وأن تمتعنا باللات سنة لنأخذ ما يهدى إليها ثم نكسرها وندخل فى دينك وأن تحرّم وادينا كتحريم مكة فإذا سألك العرب عن ذلك فقل لهم إن الله أمرنى بذلك فسكت رسول الله صلى الله تعالى عليه وءاله وسلم فاغتروا بسكوته طامعين فيما أدلّوا به من تبجحهم فنزلت هذه الآيات.

وقد أشكلت هذه الآيات من حيث ما يقتضيه ظاهرها من تقدير الفتنة فى جانبه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وما يترتب على ذلك من الافتراء على الله ونحن نزيل هذا الإشكال من وجوه.

الوجه الأول أن سكوته صلى الله تعالى عليه وءاله وسلم لم يكن عن روية فيما عرضوا من تخرصات لا تزداد بالسوم عليها إلا ضعة وانتكاءً. وإنما كان سكوته صلى الله تعالى عليه وءاله وسلم عن ترقب لنزول الوحى فى شأن تعسفاتهم الباردة وكم لهذا من نظير فيما عرفناه من سيرته وسنته عليه الصلاة والسلام فلقد كان يسأل عن الأمر فلا يقضِى فيه بشىء حتى ينزل عليه الملك فتأخذه الرحضاء ويتربّد وجهه ثم يَفصِم عنه أى الملك وقد وعى عنه ما قال.

الوجه الثانى أن كاد من أفعال المقاربة وضع للدلالة على دنو الخبر حصولا والفعل المقرون به يعتبر قيدا فيه وذلك لأن نفيه لا يوجب الإثبات وإثباته لا يوجب النفى بل نفيه نفى وإثباته إثبات والمعتمد فى ذلك هو أن قولك كاد يفعل معناه قارب الفعل ولم يفعل وقولك ما كاد يفعل معناه ما قارب الفعل فضلا عن أن يفعل وقال صاحب القاموس كاد يفعل قارب ولم يفعل فإن كانت أى كاد مقرونة بالجحد أى النفى تنبئ عن وقوعه قلت وما قاله صاحب القاموس فيه نظر وذلك لتعارضه مع ما استشهد به الفراء فى قوله لا يكاد يستعمل فيما يقع مثل قوله (ولا يكاد يسيغه) وفيما لا يقع مثل قوله (لم يكد يراها) أقول ثم إن النفى الداخل عليه أعنى فعل كاد قد يعتبر سابقا على القيد وإن كان متأخرا عنه فى السياق فيفيد فى هذه الحالة معنى الإثبات بالتكليف وذلك كقوله تعالى فى شأن بنى إسرائيل (وما كادوا يفعلون) فهذا حكمه التقدم على ما سبقه من قوله (فذبحوها) ضرورة حصول الفعل بالتكليف وعليه ويكون توجيه الآية فما كادوا يفعلون لولا أن الله ألزمهم بالتكليف فذبحوهاوقد يعتبر مسبوقا به فيفيد البعد عن الوقوع كما فى قوله (لا يكادون يفقهون قولا) وبالنظر إلى ما تقدم يتبين لنا أن الافتراض فى الآيات إنما هو للقرب المتوهم عند من اغتروا بسكوته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم معتقدين قبوله ما عرضوا عليه .

ونظيره هو ما يدل عليه الوجه الثالث قوله تعالى (وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم) والمتأمل فى هذه الآية يرى أن الحق جلت حكمته قد أورد خيانتهم لرسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مورد الشك وذلك من حيث ما يقتضيه الإنشاء الذى استهله الحق بإن وأورد خيانتهم له جل جلاله مورد الخبر المحقق بقد ولا يمترِى عاقل فى أن تحقق الخبر فى جانبه تبارك وتعالى لا يصدق إلا على تحقق القصد لا على تحقق ما يترتب عليه من الآثار فى جانبه سبحانه وتعالى عما يعتقد الظالمون ومثله قوله تعالى (يا أيها الذين ءامنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون)

فإن قيل فما هو جوابكم عن قوله تعالى فى نفس السياق (لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) مع ضميمة استحضارنا لما تقرر عند العلماء من أن الفعل كاد إذا ورد ماضيا مسبوقا بقد فإن خبره يصح محقق الوقوع قلت إن ما أورده السائل هنا لا يسلم له وذلك لوقوع هذا السياق فى جواب لولا الامتناعية.

الوجه الرابع هو أن تصور الفتنة فى جانبه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ممتنع بحصول العصمة والتى أكدها الحق تبارك وتعالى بقوله (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدى القوم الكافرين)

الوجه الخامس هو أننا قد عرفنا بطريق إلحاق النظير بالنظير استحالة تصور وقوع الفتنة فى جانبه صلى الله تعالى عليه وسلم وذلك بالنظر إلى قوله تعالى (ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شىء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيمًا.

والله تعالى أعلم وأحكم. 


[١] المرجع كتاب رد المتشابهات إلى المحكمات فى جانب خاتم النبوات للشيخ محمد بن إبراهيم الكتانِى.