كتابة الحديث فى عصر الرسالة[١]

قَبَساتٌ من فوائدِ مُحَدِّثِ الديارِ الهِنْدِيَّة
الشيخ حبيبُ الرحمن بن محمد صابر الأعظمِىّ
المتوفَى سنة ١٤١٢هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم وبعد فإن فتنة إنكار الحديث قد أثارها فى الهند فى ظاهر الأمر عبد الله الجكرالوِىّ البنجابِىُّ لكن الحقّ أنه قد غرس بذرتها قبله بكثير طائفةُ الطبيعيين أما عبد الله الجكرالوي فإنه قد سقى تلك الشجرة الملعونة فَنَمَتْ وازدهرت حتى رأى الناس بوجه عام أنه هو الذِى أحدث هذه الفتنة.

ثم إن طائفة الطبيعيين كانت تُبدِى هذه العقيدة بطريق فيه مواربة ولكن الجكرالوِىّ قد أظهر خرافاته ومعتقداته الباطلة دون احتشام واستحياء واتخذ لها أسلوبًا فيه شىءٌ كثير من الإلحاد والكفر والزندقة فلذلك كله نُسبت إليه فتنة إنكار الحديث.

على كل حال فإن الدافع الرئيسِى لهذه الفتنة هو الإلحاد والإباحية ولكن الملحدين يُسدلون الأستار دون كفرهم وإلحادهم وتعليل معتقداتهم ويقولون (إن الحديث قد قُيّدَ كتابةً بعد قرنين من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم). رسالة تفويض لعظيم بيغ جفتائِى.

يريد جفتائى أن يقول إن الحديث إذا لم يكن قد دُوِّنَ إلا بعد قرنين وكان خلالها يعتمد الناس على الحفظ والرواية فبسبب ذلك يمكن أن يكون قد حدث تلك الفترة الطويلة خُلْفٌ فى بعض ألفاظ الأحاديث ومعانيها ومفاهيمها لصعف الذاكرة وكثرة التناقل فكيف نعتمد عليه ونثق به.

وفكرة جفتائى هذه مهما كان فيها من خطإٍ فإنه على الأقل لا ينكر الحديث إنكارًا مطلقًا أما حق غو[٢] فبلغ أن يقول (إن الناس يقينًا لم يكونوا على علم بالحديث قبل عمر بن عبد العزيز) يريد أن يقول إن أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم لم يرووا شيئًا من أقواله وأفعاله لأحدٍ جاء بعده حتى انتحله الناس فى خلافة عمر بن عبد العزيز. وقد تصديت للردّ على هذا الفكر الفاسد بشىء من التصريح والتفصيل وفى أسلوب مدلّل مبرهن لا يسع رجلًا منصفًا الكلام فيه.

ارتكزت فكرة جفتائِى المتقدمة على ادعاءين أحدهما عدم تدوين الحديث إلى مدة قرنين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فلنقم بتحليل ذلك ونكشف حقيقته. فأولهما ما ادعاه جفتائِى من أن الحديث ما زال يعتمد على الرواية إلى مدة قرنين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فباطل لأننا إذا تتبعنا كتب التاريخ والسير والحديث وجدنا أن عملية الكتابة والتدوين قد ابتدأت فى حياته صلى الله عليه وسلم.

كتابة الحديث فى العصر النبوِىّ

روَى البخارىُّ فى صحيحه عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال ما من أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثًا عنه منِى إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب اهـ

وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال ماكان أحد أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منِى إلا ما كان من عبد الله بن عمرٍو فإنه كان يكتب بيده يعيه قلبه وكنت أعيه بقلبى ولا اكتب بيدى واستأذن النبى صلى الله عليه وسلم فى الكتاب عنه فإذن له[٣] اهـ وعن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قيِّد العلم قلت وما تقييده قال الكتابة[٤].

وعن عبد الله بن عمرو أيضًا قال كنت أكتب كل شىء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتنِى قريش وقالوا تكتب كل شىء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم فى الغضب والرضا فأمسكتُ عن الكتابة فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال اكتب فوالذى نفسِى بيده ما خرج منه إلا حق[٥] اهـ

فهذه الروايات تدل على أن عبد الله بن عمرو كان يكتب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حياته بأمرٍ منه وإذنٍ واستمر فى كتابته إلى أن اجتمع له صحيفة جامعة لحديثه صماها الصادقة وكان من شغفه بها أنه لم يكن يستطيع فراقها وكان يقول ما يرغِّبنِى فى الحياة إلا الصادقة اهـ ثم يُعَرِّفُ الصادقة بالجملة التالية (فأما الصادقة فصحيفة كتبتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)[٦] اهـ

ونحن لا نستطيع أن نقدِّر كم كان حجم هذه الصحيفة وكم تتضمن من الأحاديث فقد صرح عبد الله بن عمرو نفسه أنه حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مَثَل[٧].

وَوَصَلَتْ كتب عبد الله بن عمرو إلى حفيده شُعيب فكان شعيب يروِى عنها وجميع ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فهو من تلك الصحيفة كما قال ابن معين إذا حدّث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فهو كتابٌ اهـ وكما وردت تصريحات العديد من أئمة الحديث فى تهذيب التهذيب فى ترجمة عمرو.

ولا يخطر ببال أحد أن عبد الله بن عَمْرٍو رضى الله عنه انفرد بكتابة الحديث فى العصر النبوِىّ فقد ورد فى سنن الدارمِىّ قوله بينما نحن حول رسول الله نكتب إذ سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أىُّ المدينتين نفتح أولًا قسطنطينية أو رومية فقال النبِىّ صلى الله عليه وسلم لا بل مدينة هرقل أولًا اهـ وقوله فى هذا الحديث بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب فى هذ١ الحديث يدل دلالة واضحة على أنه كان معه جماعة تكتب.

وقد رُوِىَ عن عبد الله بن عمرو حديثٌ ءَاخَرُ يدل على أن نفرًا من أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم كانوا يكتبون قبل أن يبدأ عبد الله بن عمرو فقال كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ناس من أصحابه وأنا معهم وأنا أصغر القوم فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم من كذب علِىّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار اهـ قلما خرج القوم قلت كيف تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سمعتم ما قال وأنت تنهمكون فى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحكوا فقالوا يا ابن أخينا إن ما سمعنا من عندنا فِى كتاب.[٨]

وروَى الطبرانِىّ عن رافع بن خديج أنه قال يا رسول الله إنا نسمع منك أشياء فنكتبها قال اكتبوا ولا حرج اهـ

وعن أبى هريرة أن رجلًا من الأنصار شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سوء الحفظ فقال استعن بيمينك على حفظك[٩] اهـ

وعن أنس رضى الله عنه قال شكا رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم سوء الحفظ فقال استعن بيمنيك اهـ وعن ابن عباس وجابر رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالاستعانة باليمين اهـ

كتاب الصدقة

وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب فى ءاخر عمره كتاب الصدقة وكان هذا الكتاب يتضمن زكاة السائمة وذوات الأربع ولكنه صلى الله عليه وسلم قُبض قبل أن ينفذه إلى عماله فلما استخلف أبو بكر رضى الله عنه أنفذه وعمل به. وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقة فلم يخرجه إلى عماله حتى قُبض فقرنه بسيفه وعمل به أبو بكر[١٠] اهـ

كتابٌ ءَاخَرُ للعصر النبوِىّ

عن عبد الله بن عُكَيم رضى الله عنه قال أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب اهـ [١١]

خطبة فتح مكة

وقد ورد فى البخارِىّ وغيره من كتب الحديث قول أبى هريرة رضى الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة خطبة طويلة تحدّث فيها بأحاديث كثيرة فلما فرغ سأله أبو شاه اليمنِىُّ بأن يكتب له تلك الخطبة فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضه وقال اكتبوا لأبِى شاه اهـ

كتاب عمرو بن حزم

كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن يكتاب فيه الفرائض والسنن والديات وبعث به مع عمرو بن حزم. وقد ورد فى كتب الحديث مقطوعات من هذا الكتاب فذكر الحاكم فى المستدرك ثلاثة وستين حديثًا من هذا الكتاب وذكر الشعبِىّ أيضًا كتابًا للنبى صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن وقد أخرج العديد من هذا الكتاب الذى ذكره الشعبِىّ ابن أبى شيبة فى مصنفه.

صحيفة علِىّ

ومن كتب العصر النبوِىّ صحيفة علِىّ التى جاء ذكرها فى الصحيح للبخارِىّ وكانت تشتمل على مسائل العقل وفَكاك الأسير وأن لايقتل مسلم بكفار اهـ وكان مسطورًا فيها أن المدينة حرم ما بين عير إلى ثور فمن أحدث فيها حدثًا أو ءَاوَى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عَدل اهـ[١٢] وفيها أيضًا لعن الله من ذبح لغير الله ومن ءَاوَى مُحدثًا ولعن الله من لعن والديه ولعن الله من غيّر المنار اهـ[١٣] وكان فيها أيضًا أن ذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لايُقبل منه صرف ولا عدل ومن تولى فومًا بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله ولاالملائكة والناس أجمعين اهـ[١٤] كما كانت تتضمن مسائل الزكاة.

وهذه العجالة كافية لبيان كتابة الحديث فى عصر الرسالة وإذا تتبع ذلك أحد غيرنا وبحث استطاع أن يظفر بأكثر مما ذكرنا إن شاء الله.

والله أعلم.

 


[١] المرجع كتاب نصرة الحديث للشيخ حبيب الرحمن الأعظمِىّ رحمه الله تعالى.

[٢] حق غو هذا هو المؤلف رسالة لماذا أنكرت الحديث التى رد العلامة الأعظمِىّ عليها بكتاب نصرة الحديث. وهو رجل مجهول لا يعرف فظنّى أنه اسم رمزِىّ أما حقيقة هذا اللفظ (حق غو) فهو مركب من كلمتين حق وغو ومعناه فى اللغة الهندية قائل الحق.

[٣] مسند الإمام أحمد ٢، ٤٠٣ وشرح معانِى الآثار للطحاوِى ٢، ٣٨٤ ومجمع الزوائد ١، ١٥١.

[٤] مجمع الزوائد ١، ١٥٢.

[٥] سنن أبى داود ٢، ٥١٣ وسنن الدارمِى ص ٦٧.

[٦] سنن الدارمِى.

[٧] عمدة القارِى.

[٨] مجمع الزوائد ١، ١٥٢.

[٩] سنن الترمذِى ومجمع الزوائد.

[١٠] سنن أبى داود والترمذى.

[١١] سنن الترمذِى وسنن النسائى.

[١٢] صحيح البخارِى.

[١٣] صحيح مسلم.

[١٤] صحيح البخارِىّ.