لا مساغ للاجتهاد فِى مورد النصّ[١]

ردٌّ على كلمة نشرتها صحيفة (الفداء) الحموية فِى شأن التماثيل.

قبسات من فوائد شيخ حماه العالم المجاهد محمد الحامد الحنفِىّ
المتوفَى سنة ١٣٨٩هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم وبعد فالكاتب معترف بحرمة صنع التماثيل كما جاء فِى كلمته وهذه الحرمة ليست مستنبطة استنباطًا خفيًا تتعارك فيه الأفهام وتتعارض الأقيسة وتتخالف العلل الفقهيه فِى مسالكها، كلا، فإنها مستندة إلى الأحاديث البالغة مجموعتها وجملتها مبلغ التواتر.

وإذا كانت الحرمة مُسلمًا بها ولم يَرِدْ ناسخ للأحاديث الشريفة الناطقة بالتحريم فالواجب امضاؤه ولا يسوغ اعمال الرأى فِى استباحته مطلقًا كما لا يعمل الرأى عمله فِى استباحة الزنى والربا والخمر وسائر المحرمات فِى الإسلام ولم تكن اجتهادات الأئمة إلا فِى الظنيات التِى تحتمل البحث وتتعدد فيها وجوه النظر العلمِىّ القائم على أسس وبينات واستدلالات لها وجاهتها ولها قبولها ومعاذ الله أن يطرقوا ما هو قطعِى افتراضًا أو تحريمًا بضرب من الاجتهاد البعيد أو القريب .

الله أعلم منا وأحكم وقد فرض وحرم تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون فالمسلم وقاف عند حدود الله لا يتعداها .

وهذا القدر من البیان کاف وشاف إن شاء الله وإذا شئت التوسع فللايضاح لا للزيادة.  إن تحريم صنع التماثيل من الأمور التِى لا تعتريها الظنون ولا تتسلل اليها الاجتهادات. والعلة فى منع التصویر عمومًا -والتماثيل أشد نوع من المصورات- هِى المضاهاة لله تعالى فى الخلق فإن خلقه الحيوان أعجب من خلقه الجماد فهو جسد حساس ذو روح ولذا سمح الإسلام بتصوير الجمادات ولم يسمح بتصوير الحيوانات. وإليك بعض الأحاديث النبوية الشريفة المفصحة عن هذه العلة.

روى البخارِىّ ومسلم عن عائشة رضِى الله تعالى عنها قالت قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من سفر وقد سترت سهوة لِى -هِى الطاق فِى الحائط- بقرام -أى ستر- فيه تماثيل فلما رءاه رسول الله صلى الله عليه وءاله وسلم تلون وجهه وقال «يا عائشة أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله» فقطعناه فجعلنا منه وسادة او وسادتين.

وروَى البخارِىّ ومسلم أيضًا عن أبِى هريرة رضِى الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وءاله يقول «قال الله تعالى ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقِى فليخلقوا ذرة وليخلقوا حبة وليخلقوا شعيرة» وهذا أمر تعجيز فإن أحدًا غير الله سبحانه لن يخلق شيئًا والله سبحانه هو الخلاق العليم فتصویر ذِى الروح مضاهاة بالخلق توعد الله عليها بالعذاب الأليم من حيث أنه أعجب من الحجر والشجر.

وهناك علة أخرى فِى تحريم التصوير وصنع التماثيل هِى حسم مادة الشرك واستئصال أسبابه فإن مبدأ عبادة قوم نوح الأصنام كان من التصوير إذ مات فيهم قوم صالحون فسوّل لهم الشيطان أن يتخذوا لهم صورة ليذكر الناس فعلهم للخير فيقتدوا بهم فيه ففعلوا ولكن لم يضعوها فِى قبلتهم ثم نشأت أجيال عبدتهم من دون الله تعالى فبعث الله فيهم نوحًا عليه الصلاة والسلام وكان ما كان مما نصه القرءان الكريم،

وبعد فالبشر هو البشر والوثنية قريبة منه لميله إلى المشخصات وتعلقه بها والأحاديث النبوية تخبر أن عبادة الأصنام ستعود ءاخر الزمان إلى الناس قرب القيامة فِى الخبر الشريف «لا تذهب الأيام والليالِى حتى تعبد اللات والعزى» أى حتى تعود الأصنام معبودة كما كانت وإن كثيرًا من البشر الآن وثنيون.

والتماثيل المنصوبة فِى زماننا للذكرى تكشف عنها الستائر بأحفال رسمية وتؤخذ لها التحيات العسكرية وبامتداد الأيام يدرج الناس بها إلى الوثنية. ولیکن منا على بال أن النية الحسنة لا تؤثر فِى المحرم حِلًّا بل إن لها نطاقها المحدود فهِى تقلب المباح طاعة يؤجر عليها وتزيد فِى ثواب المطلوبات الشرعية إذا اقتضت النفس بها خيرًا أوسع وبرًا أشمل.

فالذكرى المجيدة المستهدفة من إقامة التماثيل لا تُحِلُّها ولا تزحزحها عن الحرمة. هذا حكم الشرع فِى هذا الأمر والواجب المصير إليه ففيه الخير والسلام اهـ

والله تعالى أعلم.

 


[١] المرجع كتاب مجموعة رسائل العلامة المجاهد الشيخ محمد الحامد رحمه الله تعالى.