ما هِى الأحرف السبعة[١]

قبساتٌ من فوائد شيخ الإسلام محمد زاهد الكوثرِى

المتوفى سنة ١٣٧١هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى ءَالِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وبعد فلم يسجل التاريخ ﻷمة من اﻷمم فِى العناية بكتابها تعليمًا وحفظًا مثل ما سجل لهذه اﻷمة المحمدية من العناية البالغة بالقرءان الكريم حفظًا وتحفيظًا ودراسة وتدوينا لكل ماله به صلة من قرب أو بُعد مدَى القرون من فجر الإسلام إلى اليوم وإلى ما شاء الله وقد صَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ فِى حفظه حيث قال (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ). يستظهره الصغير والكبير والناشِئ والكهل فِى المدن والقرَى وأصقاع اﻹسلام كلها بحيث إذا سها تالٍ فِى كلمةٍ منه أوحرفٍ أوحركة فِى أبعدِ المواطنِ عن العواصم يجد هناك مَنْ يَرُدُّهُ إلى الصواب ويرشده إليه.

وكان النبِىُّ صلى الله عليه وسلم فِى غاية الاهتمام بتحفيظ كل ما نزل من القرءان إثر نزوله يحض الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين على تعلم القرءان وتعليمه قائلًا لهم (خيركم من تعلم القرءان وعلمه) وما ورد فِى هذا الصدد من اﻷحاديث الصحيحة يُعَدُّ بالعشرات.

وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مُصْعَبَ بنَ عُمير رضِىَ الله عنه فِى العقبة الأولى إلى المدينة ليُعَلِّمَ اﻷوسَ والخزرج القرءان قبل الهجرة ونزلَ دارَ القُرَّاءِ بها وعَلَّمَهُمُ القرءانَ وكانتْ صفةُ المسجد النبوِىِّ بعد الهجرة كدارٍ للقراء يَأْوِى إليها فقراء الصحابة مِمَّنْ لا أهل لهم يتدارسون القرءان ويتعلمونه ثم يعلمونه ﻷهل البلاد المفتوحة على تجدد الفتوح. 

وكان جماعةٌ من كبار الصحابة تفرغوا لتعليم الناس القرءان في المدينة المنورة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم حتى امتلأت المدينة بالقراء. وكان لمعاذ بن جبل رضِى الله عنه ثم لابن عباس رضِى الله عنه عنايةٌ عظيمةٌ بتعليم القرءان وعلومه ﻷناسٍ لا يحصيهم العَدُّ فِى مكة المكرمة.

وكان ابنُ مسعود رَضِىَ الله عنه قد علم القرءان وعلومه لعدد عظيم من أهل الكوفة ويَبْلُغُ بعضُ ثقات أهل العلم بعددِ هؤلاء إلى نحو أربعة ءالاف قارئ ما بين متلق منه مباشرة أو ءَاخِذٍ عمن أخذ عنه.

وأبو موسى الأشعرِىّ رضِى الله عنه كان يصنع صنيعه أيضًا بالبصرة. وقد حدث الحافظ ابن الضريس أبو عبد الله محمد بن أيوب البجلِىّ فِى كتابه فضائل القرءان عن مسلم بن إبراهيم عن قرة عن أبِى رجاء العطاردِىّ البصرِىّ أنَّه قال كان أبو موسى رضِى الله عنه يطوف علينا فى هذا المسجد يعنِى مسجد البصرة فَيُقْعِدُنا حلقًا حلقًا يقرئنا القرءان.

وكان أبو الدرداء رضِى الله عنه يعلم القرءان فى كل يوم بجامع دمشق من طلوع الشمس إلى الظهر ويقسم المتعلمين عشرة عشرة ويعيِّن لكل عشرة عريفًا يعلمهم القرءان وهو يُشْرِفُ على الجميع يراجعونه إذا غلطوا فِى شىء كما فِى تاريخ دمشق ﻷبِى زرعة الدمشقِىّ وتاريخ ابن عساكر وهكذا كان أصحابهم وأصحاب أصحابهم.

وها هو اﻹمام ابن عامر رضِى الله عنه أقدم القراء السبعة طبقة كان له وحده بدمشق أربعُمَائَةِ عريف يقومون بتعليم القرءان تحت إشرافه وهو اﻹمام الذِى يجترئ على قراءة مثله الشوكانِىّ والقنوجِىّ دون وازعٍ لهما مع خطورة الكلام على القراءة المتواترة. وفِى المجلد الثانِى من النشر الكبير لابن الجزرِىّ بحثٌ ممتعٌ يردعُ أمثالهما من الخاطئين أو المخطئين المتحاملين على القراءات المتواترة كما توسعت في بيان ذلك في اﻷعداد (11) و (25) و (26)  لسنة 1357 هـ من مجلة اﻹسلام.


 
        والقراءات المروية بطريق التواتر مدَى القرون منذ ءاخر عرضة عرض فيها القرءان على النبِىّ صلى الله عليه وسلم فِى ءاخر رمضان من عمره الكريم هي أبعاضُ القُرْءَانِ المرويةِ بواسطة اﻷئمة السبعة بل العشرة تواترًا فيكون إنكار شىءٍ من تلك القراءات فى غاية الخطورة إلا أنَّ من القراءات المتواترة ما يعلم الجماهير تواتره بالضرورة ومنها ما يعلم تواتره حذاق القراء المتفرغون لعلوم القراءة فقط دون عامتهم فإنكار شَىْءٍ من القسم الأول يكون كفرًا باتفاق وأما إنكار شَىْءٍ من القسم الثانِى فإنَّما يعد كفرًا عند إصرار المنكر على اﻹنكار بعد إقامة الحجة عليه.

وما فِى التيسير ﻷبِى عمرو الدانِى وحرز اﻷمانِى للشاطبِىّ من قراءات اﻷئمة السبعة كُلُّهَا متواترةٌ إلا فِى مواضع يسيرة بيَّنها أهل الصناعة وكذا القراءاتُ الثلاث المكملة للعشر كما فِى منجد المقرئين والنشر الكبير، وفِى المنجد بَسْطُ ما يحصل به تواتر العشر فِى كُلِّ طبقة مع أنه لم يستوف سرد قراء العشر فى كل طبقة.

واختلافُ هؤلاء القراء فيما وقع الاختيار عليه فى نظر كل منهم بعد اعترافهم بتواترِ قراءات اﻵخرين وتجويزِ القراءة بها سواءٌ اعتبرناها وجوهَ قراءةٍ واحدة أم اعتبرناها قراءات ٍ هِىَ الأحرفُ السبعةُ المحفوظةُ مدَى الدهر.

واﻷول رَأْىُ القائلين بأن الأحرف السبعة كانت فِى مبدأ الأمر ثم نُسِخَتْ بالعرضة الأخيرة فِى عهد النبِىّ صلى الله عليه وسلم فلم يَبْقَ إلا حرفٌ واحدٌ.

والثانِى رَأْىُ القائلين بأنَّها هِى اﻷحرف السبعة المحفوظة كما هِى فى العرضة اﻷخيرة وفى جمعِ أبِى بكر وجمعِ عثمان رضِى الله عنهما القراءات المختلفة فى الخط فيما أمكن جمعه بالخط لعدم وجود الشكل والنقط واﻷلفات المتوسطة فِى خطهم رضوان الله عليهم أجمعين وبتوزيعهم ما هو من قَبيلِ زيادةِ حرفٍ أو نَقْصِهِ على المصاحف فِى جمعِ عثمان وعلى الهامش فى جمعِ أبى بكر كما يظهر من المقنع ومن شروح الرائية المعروفة وإليه ذهب الجمهورُ ومعهم ابن حزم وابن جبارة والجعبرِىُّ وغيرُهُمْ، ولا يتسع المقام لبسط أقوالهم فى ذلك.

وقد تواترت اﻷحاديث فى إنزال القرءان على سبعة أحرف لكن اختلفوا فى تفسيرها إلى نحو أربعين قولًا لا تعويل إلا على أقل قليل منها. والواقعُ أنَّ القرءان الكريم كان ينزل معظمه على لغة قريش على حرف واحد إلى أن فتحت مكة وبدأ الناس يدخلون في دين الله افواجًا وأخذت وفود القبائل العربية المختلفة تتوافد فأذن الله سبحانه على لسان نبيه أن يقرؤوه على لغاتهم ولهجاتهم تيسيرًا لهم لصعوبة تحولهم من لغتهم إلى لغة النبِىّ صلى الله عليه وسلم بمرةٍ واحدةٍ كما يدل على ذلك حديث أُبَىِّ بن كعب رضِى الله عنه عند البخارِىّ ومسلم والترمذِىّ وغيرهم.

قال الطحاوِىّ فى مشكل الآثار إنّما كانت السعة للناس فى الحروف لعجزهم عن أخذ القرءان على غير لغاتهم فَوُسِّعَ لهم فى اختلاف الألفاظ إذا كان المعنَى متفقًا فكانوا كذلك حتى كثر منهم من يكتب وعادت لغاتهم إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدروا بذلك على تحفظ ألفاظه فلم يسعهم حينئذ أن يقرؤوا بخلافها اهـ قال القرطبِىّ قال ابن عبد البر فبان بهذا أن تلك السبعة اﻷحرف إنما كانت فى وقتٍ خاصٍّ لضرورة دَعَتْ إلى ذلك ثم ارتفعت تلك الضرورة فارتفع حكم هذه السبعة اﻷحرف وعاد ما يقرأ به القرءان على حرفٍ واحد اهـ

وقد أطال الطحاوِىُّ النَّفَسَ فى مشكل الآثار فى الجزء الرابع منه (١٨١-١٩٤) فى تمحيص هذا البحث بما لا تجد مثله في كتاب سواه ومن جملةِ ما يقول فيه بعد أن أخرج حديثَ (ما لم تختم عذابًا برحمة أو رحمة بعذاب) فكان فى هذا الحديث ما قد دَلَّ على أن السبعة اﻷحرف هى التِى ذكرنا وأنَّها مما لا تختلف معانيها وإن اختلفت اﻷلفاظ التى يلفظ بها وأن ذلك توسعة من الله تعالى عليهم لضرورتهم إلى ذلك وحاجتهم إليه وإن كان الذِى نزل على النبِىّ صلى الله عليه وسلم إنما نزل بألفاظ واحدة اهـ

وقال اﻹمام الشافعِىّ رضِى الله عنه فى اختلاف الحديث عند كلامه فى اختلاف ألفاظ التشهد فى الصلاة وقد اختلف بعض أصحاب النبِىّ فى بعض لفظ القرءان عند رسول الله ولم يختلفوا فى معناه فأقرهم وقال (هكذا أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه) فما سِوَى القرءان من الذكر أولى أن يتسع هذا فيه إذا لم يختلف المعنَى اهـ

وأسند الخطيب فى الكفاية (٢١٠) إلى يحيَى بن سعيد أنَّه قال أخاف أن يضيق على الناس تتبع اﻷلفاظ لأنَّ القرءان أعظم حرمة ووسع أن يقرأ على وجوهٍ إذا كان المعنَى واحدًا اهـ

فيتخلص من ذلك أن القراءات السبع المدونة فى التيسير والشاطبية قراءاتٌ متواترةٌ تُعَدُّ أبعاضَ القُرْءانِ إلا في بعض مواضع نَبَّهَ عليها أهلُ الشأن وأنَّ إقامة المراد مقام اللفظ المنزل كانت لضرورةٍ وقتيةٍ نُسِخَتْ فى عهد المصطفى صلوات الله وسلامه عليه أو هي الأحرف السبعة بعينها محفوظة كما هِى فى العرضة الأخيرة المعروفة بالجمع النبوِىّ وفِى جمع أبِى بكر رضِى الله عنه وفِى جمع عثمان رضِى الله عنه الذِى هو عبارة عن تكثير عدد المصاحف بالنسخ عن صحف أبِى بكر لتوزيعها على أمصار المسلمين حتى اشتغلوا بنسخ المصاحف خمسَ سنينَ متواليةٍ شَكَرَ اللهُ فَضْلَهُمْ وأَعْظَمَ أَجْرَهُمْ.

والخلاصة أن الخلاف بين العلماء هو فى التسمية أى ما الذِى يُسمَّى الأحرف السبعة لا فى تواتر القراءاتِ المتوارَثَةِ مدى الدهر طبقةً فطبقةً فإنَّه لا خلاف فِى أنها متواترةٌ وأنها أبعاضُ القرءانِ كما سبقَ ولعل فِى هذا القدر كفاية فِى هذا البحث المتشعب ولا يتسع المجال لبسطِ القول فِى ذلك بأكثر من هذا والله سبحانه ولِىُّ التسديدِ.

والله تعالى أعلم.


 [١]المرجع كتاب مقالات الكوثري لشيخ الإسلام محمد زاههد الكوثرِى.