معنى المعجزةِ والكرامةِ والفرق بينهما وبين السحرِ والاستدراجِ
وثبوتِ الكرامةِ لأولياءِ هذهِ الأمةِ المحمديةِ[١].

قبساتٌ من فوائد الشيخ سمير بن سامى القاضِى حفظه الله

الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على النبىّ محمد وعلى ءاله وصحبه وسلّم، أما بعدُ فإنّ المعجزةُ هى أمرٌ خارق للعادةِ يحصلُ على يدِ إنسانٍ يقولُ أنا نبىٌّ مرسَلٌ من عندِ اللهِ ويكون هذا الخارقُ موافِقًا لدعواه سالمًا عن المعارضةِ بالمثلِ.

والخارقُ معناهُ أمرٌ يحصُلُ على خلافِ العادةِ كنُبُوعِ الماءِ من بينِ الأصابعِ وانقلابِ الثعبانِ عصًا حقيقيةً ومسحِ عينِ الأعمى فيُشْفَى وما شابَهَ.

وليس كل خارق معجزةً بل تختص المعجزةُ بحصولها على يدِ إنسانٍ يدَّعِى النبوةَ لا على يدِ من يدَّعِى الألوهيةَ كالدجّالِ مثلاً[٢] لأنّ مجرَّدَ حصولِ الخارقِ على يديهِ يدُلُّ على أنّ فاعلاً مختارًا خصَّصَهُ بهذا الخارقِ إذ أنّ أوصافَهُ كتغيّرِهِ من حالٍ إلى حالٍ تدلُّ على حاجتِهِ إلى فاعلٍ مُختارٍ يخصّصُهُ بحالٍ دون حالٍ وهذه علامةُ الاحتياجِ وأمارةُ الضَّعفِ فلا يكونُ حصولُ الخارقِ على يَدَيْهِ شاهدًا على صِدْقِهِ ولا موافقًا لدعواهُ بل دليلاً على كذبِهِ وافترائِهِ فى ما قالَ، وبهذا تفترقُ المعجزةُ عنِ الاستدراجِ.

والموافَقةُ للدعوَى معناها أنَّ هذا الخارقَ يؤيّدُ دعوَى مَنْ حصلَ على يديه ويُظْهِرُ صدقَهُ فيها ولا يُنافِيها أو يُبَيّنُ كَذِبَها كما حصل مع مسيلمةَ الكذابِ فإنه سمع أنّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم يمسحُ على العينِ المقلوعةِ فترجعُ فى مكانها مبصِرَةً ويباركُ الصبيانَ الصغارَ ويمسحُ على رؤوسهم فأراد تقليدَهُ عليه الصلاةُ والسلامُ فمسحَ على عينِ أعورَ فعَمِىَ ومسح على رؤوسِ صِبيانٍ فسقطتْ شعورُهُمْ فهذا وإن كان خارقًا فإنه يُظْهِرُ كذبَ مَنْ حصلَ على يَدَيْهِ فلا يكونُ موافقًا لدعواهُ.

والسلامةُ عن المُعَارضةِ بالمثلِ تكونُ بعجزِ المعارِضين للنبىّ عن الإتيانِ بمثلِ معجزتِهِ لإظهارِ كذبِهِ بزعمهم فلا يستطيعُ جاحدٌ لنبوّته أن يقولَ هذا الرجلُ كاذبٌ فى ما يدّعيه وأنا أفعلُ مثلَهُ ثمّ يأتِىَ بمثل ذلك الخارقِ كما عَجَزَ المعارضونَ لعيسَى عليه الصلاة والسلامُ عن شفاء الأعمى والأبرصِ والأكمَهِ مع براعتهم فى الطبّ وكما عَجَزَ المعارضونَ لموسى عليه الصلاة والسلام عن قلبِ العصا حيَّةً مع براعتهم فى السّحر وكما عجز كفارُ الجزيرةِ العربيةِ عن شقّ القمرِ وعن الإتيانِ بمثلِ أقصرِ سورةٍ من القرءان مع فصاحتهم وبراعتهم فى ترتيب الكلام وتأليفه، وبهذا تفترق المعجزةُ عن السّحرِ فإنّ الساحرَ يُعارضُ غيرَهُ من السَّحَرةِ بسحرٍ مشابِهٍ لما فعلوه ليَضَعَ من شأنِهِمْ بينما يعجِزُ هو وغيرُهُ من المخلوقين عن الإتيانِ بما يُشْبِهُ معجزاتِ الأنبياءِ لتكذيبِهِم.

وأمّا ولىُّ اللهِ تعالى وهو الرجلُ الصالحُ المستقيمُ بطاعةِ اللهِ الذى تعلّمَ من علمِ الدينِ ما يَحتاجُ إليه وأدَّى الواجباتِ كلَّها واجتنبَ المحرَّماتِ كلَّها وأكثرَ من النوافلِ ولو من نوعٍ منها أو نوعين فإنه إذا حصلَ خارقٌ على يديه يُسَمَّى ذلك الخارقُ كرامةً يكرمُهُ الله بها لحكمةٍ ولا يُسمَّى معجزةً له وإن كانَ معجزةً للنبىّ الذى يتَّبِعُهُ إذ أنه يُظهرُ صدق ذلك النبىّ لأنَّ هذه الكرامةَ ما كانت لتحصلَ له لولا صدقُ اتّباعِهِ لنبيّهِ.

وقد عرفنا حصول المعجزات لنبينا صلى الله عليه وسلم كما بَلَغَتْنا أعيانُ بعضها بطريق التواتر المفيد للعلم القطعِىّ.

والخبر المتواتر هو ما رواه جمعٌ عن جمعٍ بحيث لا يُقبل تواطؤُهُمْ على الكذب أو اتفاقُ خطئِهِم مع استناد الخبر إلى الحسّ[٣] وذلك كاتفاقِ الأخبار بتسمية ناحية معينة من الأرض باسم الصين وناحيةٍ أخرى باسم الهند واتفاقِها أيضًا بقيام دولةٍ وحُكْمٍ للعثمانيينَ وقبلَهُمْ للعباسيينَ وقبلهم للأمويينَ، وعلى أن رجلاً حَكَمَ فرنسا كان يُسمى نابُليُونَ وءاخرَ حكمَ ألمانيا يسمى هِتْلَرَ، وقبلهما بكثير ظهر فى بنى إسرائيل رجلٌ اسمه موسى قال إنه رسولُ الله وبعدَهُ فيهم رجل اسمه عيسى قال مثلَ ذلك وبعده فى العرب محمدُ بن عبد الله عليه وعلى سائر أنبياء الله الصلاة والسلام قال مثلَ ذلك، وبعده حَكَمَ فى بغدادَ رجلٌ يقال له هارونُ الرشيدُ، فإنّ كلَّ ذلك مما تَوَاتَرَ وعُلِمَ صدقُهُ بالضرورة أى من غير حاجةٍ إلى تفكّرٍ واستدلالٍ ولا يشكُّ فى صدق ذلك عاقلٌ.

ومثلُ ذلك أيضًا خبرُ سخاءِ حاتمٍ وشجاعةِ علىّ رضىَ اللهُ عنه فإنَّ حوادثَ كثيرةً رُوِيَتْ من طرقٍ منتشرة عديدة تُنْبِئُ عن كرمِ حاتمٍ وأخرى مثلُها كثيرةٌ تُنبئُ عن شجاعةِ علىّ ومع أنّ كلَّ حادثةٍ بمفردِها قد لا يَرويها عددٌ كبيرٌ شَهِدَها فإنّ بين هذه الأخبارِ كلّها معنًى تشتركُ فيه وهو كرمُ حاتمٍ فى القسمِ الأوَّلِ وشجاعةُ علىّ فى القسم الثانِـى، وكلٌّ من هذين المعنيين مَرْوىٌّ بعينِهِ من طرقٍ كثيرةٍ متعاضدةٍ توجب صدقَ كلّ منهما عند السامع فإنّ هذه الأخبار وإن اختلفت ألفاظُها يعودُ معناها إلى شىءٍ واحدٍ بحيث إنّ السامعَ لها يجزم بصدقه ولا يقبل اتفاقَ هذا العددِ الكبيرِ مع تَعَدُّدِ مشاربِهِمْ وأخلاقِهِمْ واختلافِ دواعيهم على الكذب فيه فيحصل عنده جزمٌ لا يقبلُ التشكيكَ به بمجرد التفاتِ نفسه وتوجُّهِ قلبه إليه.

وبالتواترِ علمنا بوجودِ خُراسانَ واليابانِ وكثيرٍ غيرِهِما من البلاد بلا شكّ، وعلمنا وجودَ هارونَ الرشيدِ وكثيرٍ غيرِهِ من الحكام الماضين كما تقدَّمَ بلا شكّ، وعلمنا وقوعَ الحربِ العامةِ الأولى والثانيةِ وكثيرًا من أخبار الأمم السالفة بلا شكّ،، مع أننا لم نرَ شيئًا من كلّ ما ذُكر، وبه عَلِمْنَا ءاباءَنا وأمهاتِنا وأجدادَنا بعلمٍ ثابتٍ لا تردُّدَ فيه كعِلمنا بما نُدركُهُ بحواسِّنا بحيث إنّ هذا العلمَ لا يزولُ بتشكيكٍ ولا شُبهةٍ، فكما أنه لا يجوز إنكارُ العلمِ الواقعِ بالحواسِّ لا يجوز إنكارُ العلمِ الواقع بالأخبار المتواترة، بل من أنكرَ وجودَ مكةَ والهندِ والصينِ ووجودَ هتلر ونابليون وحصولَ الحربِ العامة الأولى وما شابهَ ذلك لأنه لم يرها ضُحِكَ منه وَعُدَّ فى زُمْرة المجانين.

وبهذه الطريقة أيضًا علمنا عددًا من معجزات الأنبياء السابقين وعددًا من معجزات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأخبارِهِ فكما لا يجوز إنكارُ هذه المعجزات والأخبار التى نُقلت إلينا بالتواتر الذى تقدَّمَ شرحُهُ وبيانُهُ لا يُقبلُ ولا يستقيمُ إنكارُ كرامةِ أىّ ولِىٍّ من أولياءِ اللهِ تعالى ثبتتْ كرامتُهُ بهذا الطريقِ لأنّ ما يوجِبُ صدقَ الأخبارِ الأولى هو بعينه ما يوجبُ صدقَ الأخبارِ الأُخرى.

والله أعلم.

 


[١] المرجع كتاب البراهينُ على صدقِ حادثةِ مدّ اليمينِ للشيخ سمير القاضِى حفظه الله تعالى.

[٢] ويُسمَّى ما يحصلُ على يدِ الدَّجَّالِ من ذلك استدراجًا لا معجزةً

[٣] راجع «شرح الزرقانىّ على البيقونية» (ص ١١٧) و«حاشية عطية الأجهورىّ عليه (ص ١١٧).