الغارة الإيمانية فِى ردّ مفاسد التحريرية (١)[١]
(موافقة حزب التحرير لاعتقاد المعتزلة)

قبسات من فوائد خادم علم الحديث
الشيخ عبد الله بن محمد الهررِى
المتوفى سنة ١٤٢٩هـ رحمه الله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين وبعد فإنه ظهرت جماعة من الناس يسمون «حزب التحرير» يحرّفون دين الله وينشرون الأباطيل ويثيرون الخلافات التِى لا معنَى لها. وقد أسس هذا الحزب رجل يُسمَّى تقِىَّ الدين النبهانِىّ ادعَى الاجتهاد وخاض فِى الدين بجهل فوقع فِى التحريف والتكذيب لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وخرق الإجماع فى مسائل من أصول الدين وفروعه.

فقيامًا منَّا بالواجب الذِى افترضه الله علينا وهو الأمر بالمعروف والنهِىّ عن المنكر ونُصحُ المسلمين وتحذيرهم من هذا الحزب وأقواله كتبنا هذه الأوراق على وجه الاختصار ذاكرين أقوالهم ومفندين ءَارَاءَهُم محتجين عليهم بالكتاب والسنة وإجماع الأمة وأقوال العلماء فإن التحذير من أهل الضلال أمر واجب. فكما أن التحذير ممن يغش المسلمين فِى السلع واجب فالتحذير ممن يدسّ فِى الدين ويحرفه ويفترِى على الله ورسوله واجب من باب أولَى قال الله تعالى (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر)[٢] وقال أبو علِىٍّ الدقاق الساكت عن الحَقِّ شيطانٌ أخرس اهـ

يقول زعيمهم تقِىُّ الدين النبهانِىّ فى كتابه المُسمَّى الشخصية الإسلامية ما نصه (وهذه الأفعال أى أفعال الإنسان لا دخل لها بالقضاء ولا دخل للقضاء بها لأن الإنسان هو الذِى قام بها بإرادته واختياره وعلى ذلك فإن الأفعال الاختيارية لا تدخل تحت القضاء)اهـ ويقول فِى نفس الكتاب ما نصه (فتعليق المثوبة أو العقوبة بالهدَى والضلال يدل على أن الهداية والضلال هما من فعل الإنسان وليسا من الله) اهـ وكذا يذكر فِى كتابه المُسمَّى بـنظام الإسلام.

الردُّ. هذا الكلامُ مخالف للقرءان والحديث وصريح العقل. فأما القرءان فقد قال الله تعالى (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)[٣] وقال (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)[٤] وقال (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)[٥] والشىء هنا شامل لكل ما يدخل فِى الوجود من أجسام وحركات العباد وسكونهم، ما كان منها اختياريًّا وما كان منها اضطراريًّا، والأفعال الاختيارية أكثر بكثير من غير الاختيارية. فلو كان كل فعل اختيارِىّ من العباد بخلق العبد لكان ما يخلقه العبد من أعماله أكثر مما يخلقه الله من أعمال العباد، والشىء معناه فى اللغة الموجود، وهذه الأعمال أعمال الإنسان الاختيارية موجودة.

قال الله تعالى (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ)[٦] وقال تعالى إخبارًا عن موسى (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ)[٧] وقال تعالى (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)[٨] أى لا يخلق الاهتداء فى قلوب العباد إلا الله. وفى قوله تعالى (تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ) تصريحٌ ظاهرٌ بأن الله هو الذي يخلق الاهتداء فِى قلوب من شاء أن يهديهم والضلالة فى قلوب من شاء أن يضلهم، ولا معنَى فى اللغة لقوله تعالى (تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ) إلا أن الله يخلق الضلالة فى قلب من يشاء وأنه يخلق الاهتداء فى قلب من يشاء هو أى الله لأن الضمير فى قوله (تُضِلُّ) وقوله (تَشَاءُ) لا مرجع له إلا إلى الله ولا يحتمل إرجاعه إلى العبد. فما ذهب إليه حزب التحرير معارضةٌ ظاهرة لكتاب الله.

وكلام زعيمهم مخالف أيضًا لقوله تعالى (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ)[٩] فقد أخبر الله فى هذه الآية بأن عمل العبد القلبِىّ وعمله الذِى يعمله بجوارحه من فعل الله تعالى فهل لهم من جواب على هذه الآية.

وقال تعالى (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)[١٠] أى إلا بمشيئته لأن الإذن هنا لا يصح تفسيره بالأمر لأن الله لا يأمر بالفحشاء فتعين تفسيره هنا بالمشيئة والسحر من الأفعال الاختيارية.

وقال تعالى (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)[١١] وقال (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ)[١٢] وقال (إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ)[١٣] وقال (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ)[١٤] وقال (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ)[١٥] وقال (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ)[١٦] وقال (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)[١٧] وقال (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)[١٨] وقال (وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا)[١٩] وقال (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ)[٢٠] إلى سائر ما ورد في كتاب الله عزَّ وجلَّ فى هذا المعنَى من أن الله عزَّ وجلَّ هو المُعْطِى بِمَنِّهِ وفضله من يشاء من عبيده الإيمانَ وهو مُحَبِّبُهُ إليه ومُزيِّنُهُ فى قلبه وهاديه إلى الصراط المستقيم وأنَّ الله ختم على قلوب بعض عباده وأن أحدًا لا يستطيع أن يعمل غير ما كتب له وأنه لا يملك لنفسه وغيره نفعًا ولا ضرًّا إلا ما شاء الله وأن أفعال العباد كلها تقع بمشيئة الله جلَّ ثناؤه وإرادته وأنه لا يقع لبشر قول ولا عمل ولا نية إلا بمشيئته تعالى وإرادته.

واعتقاد أن العبد يخلق أفعاله الاختيارية ضد ءايات من القرءان كقوله تعالى (قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)[٢١] والشىء يشمل الأجسام على اختلاف أشكالها والحركات والنوايا والخواطر وقوله تعالى (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ)[٢٢] هذه الآية دلت على أن الله هو الخالق لأعمال القلوب وتقلب الأبصار.

وأما مخالفته للحديث فقد روَى مسلم في صحيحه والبيهقِىّ وغيرهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (كل شىء بقدر حتى العجز والكيس) والعجز البلادة والكيس الذكاء وقال صلى الله عليه وسلم (إن الله صانع كل صانع وصنعته) رواه الحاكم من حديث حذيفة وقال (القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم) رواه أبو داود فى سننه والبيهقِىّ فى كتابه القدر وقال صلى الله عليه وسلم (ستة لعنتهم ولعنهم الله وكل نبِىّ مجاب الزائد فِى كتاب الله والمكذب بقدر الله) الحديثَ.

وخالفً أيضًا حديثَ مسلمٍ عن أبِى الأسود الدؤلِىّ قال قال لِى عمران بن الحصين أرأيتَ ما يعمل الناس اليوم ويكدحون أشىء قُضِىَ عليهم ومضَى عليهم من قَدرٍ قد سبق أو فيما يُستقبلون به مما أتاهم به نبيُّهم وثبتت الحجة عليهم فقلت بل شىء قُضِىَ عليهم ومضَى عليهم قال  فقال أفلا يكون ظلمًا قال ففزعتُ من ذلك فزعًا شديدًا وقلتُ كُلُّ شىءٍ خلقُ الله ومِلك يده فلا يُسأل عما يفعل وهم يسئلون فقال لِى يرحمك الله إنِى لم أُرد بما سألتُكَ إلا لأحزرَ عقلك إن رجلين من مُزَيْنَة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشىء قضِىَ عليهم ومضى فيهم من قدرٍ قد سبق أو فيما يُستقبلون به مما أتاهم به نبيُّهم وثبتت الحجة عليهم فقال (لا بل شىء قُضِىَ عليهم ومضَى فيهم) وتصديقُ ذلك فِى كتاب الله عزَّ وجلَّ (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا )[٢٣] اهـ

وأما مخالفته لصريح العقل فهو أنه يلزم من قولهم المذكور أن يكون الله مغلوبًا مقهورًا لأنه يكون العبد على ذلك خالقًا لهذه المعاصِى على رغم إرادة الله واللهُ لا يكون إلا غالبًا قال الله تعالى (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ)[٢٤] وعلى حسب زعمهم فإنه يجرِى فى ملكه تعالى شىء بغير مشيئته وهذا مما لا يصح فإنه لا يجرِىٍ في المُلك طرفةُ عين ولا لفتةُ ناظر إلا بقضاء الله وقدره وقدرته ومشيئته ولا فرق بين ما كان خيرًا أو شرًّا لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون. فلا يصح عقلًا أن يكون وجود قسم منها بفعل الله ووجود قسم ءاخر بفعل غيره كما تقول المعتزلة الذين خالفوا أهل الحق. قال أهلُ الحقّ امتنعَ خلقُ العبدِ لفعلِهِ لعمومِ قدرةِ الله تعالى وإرادتِهِ وعلمِهِ. وبيانُ الدليلِ على ذلكَ أن قدرةَ الله عامَّةٌ وعلمَهُ كذلكَ وإرادتَهُ كذلكَ، فإنَّ نسبَتَها إلى الممكناتِ نسبةٌ واحدةٌ. فإنّ وجودَ الممكنِ إنما احتاجَ إلى القادرِ من حيثُ إمكانُهُ وحدوثُهُ. فلو تخصَّصَت صفاتُهُ هذه ببعضِ الممكناتِ لَلَزِمَ اتصافُهُ تعالى بنقيضِ تلكَ الصفاتِ من الجهلِ والعجزِ وذلكَ نقصٌ والنقصُ عليهِ مُحالٌ، ولاقتضَى تخصُّصُها مُخَصّصًا وتعلَّقَ المُخَصّصُ بذاتِ الواجبِ الوجودِ وصفاتِهِ وذلكَ محالٌ، فإذًا ثبتَ عمومُ صفاتِهِ. فلو أرادَ الله تعالى إيجادَ حادِثٍ وأرادَ العبدُ خلافَهُ ونفذَ مرادُ العبدِ دونَ مرادِ الله للزمَ المحالُ المفروضُ فِى إثباتِ إلهينِ، وتعدُّدُ الإلهِ محالٌ بالبرهانِ، فما أدَّى إلى المحالِ محالٌ.

قال الإمام أبو حنيفة فى الوصية (والعبد مع أعماله وإقراره ومعرفته مخلوق فإذا كان الفاعل مخلوقًا فأفعاله أولى أن تكون مخلوقة) وقال الإمام الحسن البصرِىّ (من كذّب بالقدر فقد كفر) اهـ

وَرُوِىَ عن ابن عباس رضِى الله عنهما أنه قال (إن كلام القدرية كفر) وعن عمر بن عبد العزيز والإمام مالك بن أنس والأوزاعِىّ رضِى الله عنهم (إنهم يستتابون فإن تابوا وإلا قُتلوا). وروَى عبد الرزاق الصنعانِىّ فِى مصنفه قال أخبرنا معمر عن الزهرِىّ قال (بلغنِى أنهم وجدوا فى مقام إبراهيم ثلاثة صفوح فى كل صفح منها كتاب وفِى الصفح الأول أنا الله ذو بكَّة صُغتها يوم صُغْتُ الشمس وحَفَفْتُها بسبعة أملاك حفًّا وباركت لأهلها فى اللحم واللبن وفِى الصفح الثانِى أنا الله ذو بكَّة خلقت الرحم وشققت لها اسمًا من اسمِى فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتتُّه وفِى الثالث أنا الله ذو بكَّة خلقت الخير والشر فطوبَى لمن كان الخير على يديه وويل لمن كان الشر على يديه).

وعن معمر عن ابن طاوس عن أبيه أن رجلًا قال لابن عباس إن ناسًا يقولون إن الشر ليس بقدر فقال ابن عباس فبيننا وبين أهل القدر هذه الآية (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) حتى قوله (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)[٢٥].

واعتقادهم الذِى هو اعتقاد القدرية المعتزلة أن العبد يخلق أفعاله الاختيارية وليس الله يخلقها كفرٌ صريحٌ وشركٌ بالله تعالى.

كان فى الماضِى رجل يقال له غيلان الدمشقِىّ كان في أيام عمر بن عبد العزيز فاستدعاه عمر بن عبد العزيز لأنه بلغه أنه يقول بقول المعتزلة فأنكر غيلان أنه يقول ذلك أمام عمر ثم لما مات عمر واستخلف يزيد بن عبد الملك ثم استخلف هشام أظهر غيلان ذلك الاعتقاد فاستدعاه الخليفة هشام فقال غيلان أقلنِى يا أمير المؤمنين فقال لا أقالنِى الله إن أَقلتك فقال غيلان إذًا اجمعنِى بمن يجادلنِى فإن غلبنِى فهذا رأسِى وإن غلبته أفعل به مثل ذلك  فقال الخليفة مَن لهذا القدرِىّ فقيل له الأوزاعِىّ وكان الأوزاعِىّ فى بيروت والخليفة فى دمشق فاستدعِىَ الأوزاعِىّ إلى دمشق، ولما ناظره الأوزاعِىُّ فغلبه قال الأوزاعِىُّ عنه كافر ورب الكعبة يا أمير المؤمنين فأخذه الخليفة هشام فقطع يديه ورجليه وعلّقه على باب دمشق ذكر ذلك الحافظ ابن عساكر فى تاريخ دمشق.

ثم إنه صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (صنفان من أمتي ليس لهما نصيب في الإسلام المرجئة والقدرية) حديث صحيح صححه الحافظ الفقيه المجتهد المطلق محمد بن جرير الطبرِىّ فِى كتابه تهذيب الآثار فيؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم (صنفان من أمتي ليس لهما نصيب في الإسلام) أن هذه العقيدة عقيدة كفر فهؤلاء التحريرية عمُوا وقلدوا الذين قال عنهم الرسول ليس لهم نصيب في الإسلام وهم بهذه المقالة جردوا أنفسهم من الإسلام وانسلخوا منه كما تنسلخ الحية من جلدها.

ثم ثبت عن مالك رضي الله عنه أنه سئل عن نكاح القدرية أى نكاح المعتزلة فقال (ولعبد مؤمن خير من مشرك) أى لا يصح التزوج منهم، اعتبر مالك المعتزلة مشركين لأنهم أشركوا العبد مع الله لأن الله تعالى هو الخالق أى المُخرج لكل شىء من العدم إلى الوجود، فالمعتزلة أشركوا بالله بقولهم العبد يخلق أعماله الاختيارية من العدم إلى الوجود، وهذا أي الإبراز من العدم إلى الوجود هو معنى الخلق المراد فِى ءايات كثيرة روَى ذلك عن مالك من لا يحصَى.  روَى ذلك الحافظ الإمام المجتهد ابن المنذر فِى كتابه الأوسط وكتاب الإشراف ولا ينفعهم قولهم إن العبد يخلق أفعاله بقدرة أعطاه الله إياها.

 وقال الإمام المحدث الفقيه عبد القادر بن طاهر التميمِىّ البغدادِىّ فِى كتابه الفرق بين الفرق (المعتزلة مشركون) أى لأنهم أشركوا العبد مع الله فى صفة الخلق أى إبراز المعدوم من العدم إلى الوجود فأجسام الخلق وحركاتهم وسكناتهم كانت معدومة ثم الله تعالى هو أخرجها من العدم إلى الوجود فالمعتزلة ومن تبعهم من التحريرية جعلوا إبراز العباد وحركاتهم الاختيارية للعباد قالوا الله يبرز من العدم إلى الوجود الأجسام والحركات الغير اختيارية أما الحركات الاختيارية نحن نبرزها وهذا إشراك بالله تعالى.

ويكفي فِى إبطال قولهم ءايتان من كتاب الله الأولَى قوله تعالى (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٢) لَا شَرِيكَ)[٢٦] ذكر الله فِى هذه الآية الصلاة والنسك وهما من الأفعال الاختيارية وذكر المحيا والممات وهما ليسا من الأفعال الاختيارية فجعل كلاًّ خلقًا له لا شريك له فى ذلك ومعنى الآىِ قل يا محمد إن صلاتِى ونسكِى ومحياىَ ومماتِى مخلوق لله لا شريك له فى ذلك. فخالفت التحريرية تبعًا للمعتزلة فقالوا إن كل الأفعال الاختيارية العبد يخلقها وهو مالكها.

والآية الثانية (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)[٢٧] فنفَى الله تعالى الرمىَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأثبته من جهتين، نفاه من جهة الخلق عنه أى ما أنت خلقت ذلك الرمىَ يا محمد وأثبته له من جهة الاكتساب فقد اجتمع النفىُ والإثبات فى الآية لكن من جهتين وهذا مذهب أهل السنة الأشاعرة والماتريدية ومن كان قبلهم من أهل السنة أن العباد لا يخلقون أعمالهم أي ليسوا مبرزين لها من العدم إلى الوجود وإنما الله هو الذِى يبرزها من العدم إلى الوجود والعباد يكتسبونها فقط أي يوجهون إرادتهم إليها، وعلى قول التحريرية تكون الآية جمعت النفىَ والإثبات من جهة واحدة وذلك باطل محال كقول القائل قام زيد لم يقم زيد.

وهؤلاء المعتزلة هم القدرية الذين سمّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة وقد أورد هذا الحديث أبو حنيفة فى إحدى رسائله الخمس وهو صحيح عنده لأنه أورده في معرِض الاحتجاج، وهم الذين شدّد عليهم النكير عبد الله ابن عمر رضِىَ الله عنهما وغيره من أكابر الصحابة ومن جاء بعدهم . قال ابن عباس رضِىَ الله عنهما (كلام القدرية كفر) وقال سيدنا علِىّ بن أبِى طالب للقدرِىّ (إن عُدت إلى هذا لأقطعن الذى فيه عيناك) وكذلك الحسن بن علِى بن أبِى طالبوكذا الإمام الحسن البصري والخليفة الأموِىّ المجتهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم وعلى تكفيرهم كان الإمام مالك كمانقل ذلك عنه أبو بكر ابن العربِىّ المالكِىّ والزركشِىّ فى شرحه على أصول ابن السبكِى وقال الشافعِىّ لحفص الفرد لما جادله فى مسئلة القول بخلق القرءان فأفحمه الشافعِىّ (لقد كفرت بالله العظيم). وأخرج الحافظ ابن عساكر فى تاريخ دمشق ما نصه قال أبو عبد الله أحمد بنُ محمد بنِ حنبل القدرُ خيره وشرُّه وقليله وكثيره ظاهرُه وباطنُه وحُلوُه ومرّه ومحبوبه ومكروهه وحسنه وسيّئه وأوّله وءاخره من الله. قَضَاءٌ قضاهُ على عباده وقَدَرٌ قدّره عليهم لا يعدو أحد منهم مشيئةَ الله ولا يجاوز قضاءه بل كلهم صائرون إلى ما خلقهم له واقعون فيما قَدَّرَ عليهم وهو عَدْلٌ منه عزَّ ربُّنا وجلَّ والزنا والسرقةُ وشربُ الخمرِ وقتلُ النفسِ وأكلُ المالِ الحرامِ والشركُ بالله والمعاصِى كلُّها بقضاءٍ مِنَ الله عزّ وجلّ وقَدَرٍ من غير أن يكون لأحدٍ من الخلق على الله حجة بل لله الحجةُ البالغةُ على خَلْقه لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.  وعلمُ الله ماضٍ فِى خلقه بمشيئة منه قد علم من إبليسَ ومن غيره ممّن عصاه من لَدُن أن يُعصَى الله إلى أن تقوم الساعة المعصية وخلقهُم لها وعلِمَ الطاعة من أهل الطاعة وخلقهم لها وكلٌّ يعملُ لما خُلِقَ له وصائرٌ إلى ما قضى عليه وعَلِمَ منه لا يعدو واحدٌ منهم قدر الله ومشيئته والله الفاعل لما يريد الفَعّالُ لما يشاء ومَن زعم أن الله شَاء لعباده الذين عصوه الجنة والطاعة وأن العبادَ شاءوا لأنفسهم الشرَّ والمعصية فعمِلوا على مشيئتهم فقد زعم أن مشيئة العبادِ أغلَظُ مِنْ مشيئة الله فأيُّ افتراءٍ أكبرُ على الله من هذا ومَن زَعَمَ أن الزِنا ليس بقَدَرٍ قيل له أنت رأيت هذه المرأةَ حَملت مِنَ الزنا وجاءت بولدها شاء الله أن يُخلق هذا الولد وهل مضى فِى سابِق علمِه فإن قال لا فقد زعم أن معَ الله خالِقًا وهذا الشركُ صُراحًا ومَن زَعَمَ أن السرقة وشربَ الخمر وأكل مال الحرام ليس بقضاءٍ وقَدَرٍ فقد زعم أن هذا الإنسانَ قادرٌ على أن يأكلَ رِزقَ غيره وهذا صُراحُ قول المجوسية بلْ أكلَ رِزْقَه وقضَى الله أن يأكلَ مِنَ الوجه الذي أكلَهُ ومَن زعم أن قتْلَ النَّفس ليس بقَدَرٍ مِنَ الله فقد زعم أنّ المقتولَ ماتَ بغير أجَلِه وأىُّ كفر أوضح من هذا بل ذلك بقضاء الله ومشيئته في خلقه وتدبيره فيهم وما جرَى من سابق علمه فيهم، وهو العَدْل الحقُّ الذي يَفعل ما يريدُ، ومن أقَرّ بالعلم لزِمَه الإقرارُ بالقدر والمشيئة على الغضب والرضا اهـ

وكذلك كفّرهم إماما أهل السنّة أبو منصور الماتريدِىّ الحنفِىّ وأبو الحسن الأشعرِىّ.

فبعد هذا لا يلتفت إلى ما يخالفه ولا يغترّ بعدم تكفير بعض المتأخرين لهم، فقد نقل الأستاذ أبو منصور التميمِىّ فى كتابه التذكرة البغدادية وكتابه تفسير الأسماء والصفات تكفيرهم عن الأئمة فقال (أصحابنا أجمعوا على تكفير المعتزلة) وهو إمامٌ مقدّم في النقل معروف بذلك بين الفقهاء والأصوليين والمؤرخين الذين ألّفوا فِى الفِرق فمن أراد مزيد التأكد فليطالع كتبه هذه فلا يُدافع نقله بكلام بعض المتأخرين.

والله تعالى أعلم.


[١] المرجع كتاب الغارة الإيمانية فى الردّ على التحريرية للشيخ عبد الله بن محمد الهررِىّ رحمه الله تعالى.

[٢] سورة ءال عمران ءاية ١٠٤

[٣] سورة الفرقان ءاية ٢.

[٤] سورة الصافات ءاية ٩٦.

[٥] سورة القمر ءاية ٤٩.

[٦] سورة الروم ءاية ٢٩.

[٧] سورة الأعراف ءاية ١٥٥.

[٨] سورة القصص ءاية ٥٦.

[٩] سورة الأنعام ءاية ١١٠.

[١٠] سورة البقرة ءاية ١٠٢.

[١١] سورة النساء ءاية ٧٨.

[١٢] سورة سبأ ءاية ٥٤.

[١٣] سورة الأنعام ءاية ٣٤.

[١٤] سورة البقرة ءاية ١٠٨.

[١٥] النساء ءاية ٧.

[١٦] سورة يونس ءاية ١٥٥.

[١٧] سورة يونس ءاية ١٠٠.

[١٨] سورة التكوير ءاية ٢٩.

[١٩] سورة السجدة ءاية ١٣.

[٢٠] سورة الحجرات ءاية ٧.

[٢١] سورة الرعد ءاية ١٦.

[٢٢] سورة الأنعام ءاية ١١٠.

[٢٣] سورة الشمس ءاية ٧-٨.

[٢٤] سورة يوسف ءاية ٢١.

[٢٥] سورة الأنعام ءاية ١٤٩.١٤٨.

[٢٦] سورة الأنعام ءاية ١٦١-١٦٢.

[٢٧] سورة الأنفال ءاية ١٧.