موت الدماغ وءاثاره على المريض[١]

قبسات من فوائد عالم فاس
الشيخ الفقية الأصولِىّ محمد بن محمد التاويل
المتوفى سنة ١٤٣٦هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله وصلى الله على رسول الله وسلم.

موت الدماغ فِى المفهوم الطبِى المعاصر عبارة عن تعطل جميع وظائف دماغه تعطلًا لا رجعة فيه طبيًا أو هو توقف عمل كل المراكز الحيوية والهامة جدًا والواقعة فِى جذع الدماغ كما يعرفه الدكتور أحنيوش أمين الأقسام الجراحية بكلية الطب بليبيا في كتاب (أخلاقية زراعة الأعضاء البشرية).

فهل يعتبر موت الدماغ موتًا شرعيًا تترتب عليه ءاثاره الشرعية ولو كان قلبه ما يزالُ ينبض والنفس لم يتوقف ويحلُّ حينئذ نزع الأجهزة الاصطناعية بصفته ميتًا أم لا يحل ذلك كله إلا بعد توقف القلب والتنفس.

لقد ذهب البعض إلى اعتبار موت الدماغ موتًا شرعيًا يبيح نزع الأجهزة واستئصال الأعضاء قبل نزعها للمحافظة على سلامتها وهو ما نجده فِى كتاب أخلاقية زراعة الأعضاء من المتوفَى بعد تشخيص موت الدماغ وإلا اعتبر العمل فِى حكم القتل اهـ

بينما اكتفت ندوة الحياة الإنسانية بدايتها ونهايتها في المفهوم الإسلامِىّ المنعقدة بتاريخ ربيع الآخر ١٤٠٥ هـ إلى القول بجواز نزع أجهزة الإنعاش الصناعية عند موت الدماغ ولم يتخذ المشاركون فيها قرارًا باعتبار موت الدماغ موتًا شرعيًا أو غير شرعِى واكتفوا بالبيان التالِى (إذا تحقق موت جذع المخ بتقرير لجنة طبية مختصة جاز حينئذ إيقاف أجهزة الإنعاش الصناعية)[٢].

وإلى جانب هذين الموقفين أو الاتجاهين هناك اتجاه ثالث أنَّ المريض الذِى ركبت على جسمه أجهزة الإنعاش يجوز رفعها إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلًا نهائيًا وقررت لجنة من ثلاثة أطباء اختصاصيين خبراء أن التعطل لا رجعة فيه وإن كان القلب والتنفس لا يزالان يعملان ءاليًا بفعل الأجهزة المركبة[٣] لكن لا يحكم بموته شرعًا إلا إذا توقف التنفس والقلب توقفًا تامًا بعد رفع هذه الأجهزة اهـ

وعندِى أن اعتبار موت الدماغ موتًا شرعيًا والاكتفاء به فِى ترتيب أحكام الوفاة كلها عليه قبل توقف قلبه وتنفسه غير صحيح ومخالف للقواعد الأصولية والفقهية من وجوه

أولًا إن الموت سبب شرعِىّ لعدة أحكام تتعلق بالميت نفسه من غسله والصلاة عليه ودفنه وتتعلق بزوجته من عدة إحداد وبماله من قسم تركته وتنفيذ وصاياه ومن القواعد الأصولية المتفق عليها في السبب والعلة أنه لابد أن يكون أمرًا ظاهرًا يمكن معرفته والاطلاع عليه بيسر وسهولة من طرف العامة لأن السبب أو العلة علامة تعرف المكلف بالحكم المكلف به فهِى أداة إشهار وتعريف فلا يمكن أن تكون خفية لأنها لا تفيد حينئذ وموت الدماغ من أخفى الخفايا لم يتوصل الطب إليه إلا حديثًا ويحتاج لمعرفته إلى ءالات دقيقة وخبرات طبية عالية وفحوص متكررة فلا يمكن ربط أحكام الوفاة به ولا تعليقها عليه لغموضه وخفائه الشديدين.

ثانيًا إن القاعدة الأصولية تقول إن ألفاظ القرءان والسنة يجب حملها على معانيها المتعارفة بين العرب عند نزولها و ورودها يقول الشاطبىّ في الموافقات (لابد فِى فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين وهم العرب الذين نزل القرءان بلغتهم فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة) ويقول أيضًا (فلا يستقيم للمتكلم في كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلف فيهما فوق ما يسعه لسان العرب وليكن شأنه الاعتناء بما شأنه أن يتعنَى العرب به والوقوف عند ما حدته، الواجب فِى هذا المقام إجراء الفهم فِى الشريعة على وزان الاشتراك الجمهورىّ الذِى يسع الأميين كما يسع غيرهم) والموت كلمة عربية وردت في القرءان الكريم في أكثر من ءاية وفِى السنة النبوية فِى أكثر من حديث ومعناه مفهوم عند العرب وهو خروج الروح من البدن ومفارقتها له، يعرف ذلك بالعلامات الظاهرة التِى يستدل بها على حصوله فيجب حمله عليه وتفسيره به ولا يصح تفسيره بموت الدماغ لأن العرب لا تعرفه وتفسيره به يؤدِى إلى الخطاب بما لا يفهم والتكليف بمجهول لا يعلم.

ثالثًا إن الفقهاء متفقون على أن منفوذ المقاتل لا يجوز الإجهاز عليه كما سبق فمن قطع نخاعه أو نثر دماغه لم يجز لأحد نزع كليته أو قلبه قبل توقف قلبه توقفًا تامًا وإلا عوقب على ذلك وعلى قياس ذلك لا يحل نزع من مات دماغه قبل موت قلبه وأعضائه ويعاقب من نزع ذلك.

رابعًا اتفاق الفقه الإسلامِى على اختلاف مذاهبه ومدارسه على أن الذبيحة لا يُقطع عضو من أعضائها أو تسلخ قبل موتها وبرودة جسدها ففي مختصر خليل عطفًا على ما يكره (وسلخ أو قطع قبل الموت) وفِى المنهاج (ويكره إبانة رأسها حالًا وزيادة القطع وكسر العنق وقطع عضو منها وتحريكها ونقلها حتى تخرج روحها) وقال فِى المغنِى (كره ذلك أهل العلم منهم عطاء وعمرو بن دينار ومالك والشافعِى ولا نعلم لهم مخالفًا).

والأصل فِى ذلك ما يلِى

١- حديث أبِى هريرة قال (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بديل الخزاعِىّ على جمل أورق يصيح فِى فجاج منَى ألا إن الذكاة في الحق واللبة ألا ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق وأيام منى أكل وشرب وبعال) رواه الطبرانِىّ وفِى سنده ضعف.

٢- قول عمر رضِى الله عنه (لا تعجلوا الأنفس حتَى تزحق).

٣- حديث (وليرح ذبيحته) فالأمر بإراحة الذبيحة يتضمن النهِى عن سلخها وقطع أعضائها قبل موتها لما فيه من تعذيبها وإيلامها كما نصّ على ذلك العلماء وإذا كان يُنهَى عن سلخ الذبيحة وقطع أعضائها بعد ذبحها وقبل موتها فكيف يسوغ القول باستئصال أعضاء الإنسان بمجرد موت دماغة وقبل توقف قلبه وتنفسه.

والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم.


[١]  المرجع كتاب زراعة الأعضاء من خلال المنظور الشرعِىّ للشيخ محمد تاويل رحمه الله تعالى.

[٢] فقه النوازل ٤/١٠٩.

[٣] المصدر السابق.