موقف الإسلام من الإجهاض[١]

قبسات من فوائد عالم فاس
الشيخ الفقية الأصولِىّ محمد بن محمد التاويل
المتوفى سنة ١٤٣٦هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله وسلم على سيد المرسلين محمد وعلى ءاله وصحبه. في البداية وقبل الدخول فِى الحديث عن حكم الإجهاض وموقف الإسلام منه ينبغِى الوقوف قليلًا والالتفات إلى بعض المُعطيات والملاحظات التِى من شأنها أن تكشف عن طبيعة هذا الفعل وأبعاده وتلقِى الأضواء على خلفياته ودوافعه وتميط اللثام عن ءاثاره الدينية والاجتماعية والإنسانية وتساعد على معرفة حكمه فهو:

أولًا اعتداء على مخلوق ضعيف لا ذنب له ولا جرم وقتل للنفس فِى بعض حالاته.

وثانيًا هو برهان قاطع على قساوة القلب وانعدام الرحمة وفقدان عاطفة الأمومة والأبوة بل الإنسانية من قلوب من يقدمون على الإجهاض بقلوب وضمائر ميتة ونفوس مظلمة شريرة.

وثالثًا هو دليل على الأنانية والثرة وحب الذات والتضحية بالنفيس فلذات الأكباد البنين والبنات لإرضاء النفس والاستمتاع بالحياة وزينتها بعيدًا عن صياح الأطفال ومشاكل الأبناء ومتاعبهم.

ورابعًا هو تعبير عملِى عن ضعف اليقين فإن الله تعالى قال (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) وقال (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) وقال (إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) وغير ذلك من الآيات والأحاديث التي تدل على أن الأرزاق بيد الله وأنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها كما قال صلى الله عليه وسلم.

وخامسًا هو حرب دموية على المقصود الإسلامى الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ودعا إليه وحض عليه من التكاثر والتناسل والتوالد.

وسادسًا هو ضد الفطرة التي فطر الله عليها الحيوان والإنسان من حب النسل والتناسل وبقاء الذرية كما قال زكرياء عليه السلام (قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا).

وسابعًا هو كفران للنعمة وجحدٌ لها وذلك أن الحمل والولد نعمة من نعم الله تعالى على عباده وعطية من عطاياه للحامل وزوجها سماها الله تعالى هبة في قوله تعالى (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِير) وامتن بها على عباده ورسله في قوله(والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة) وفي قوله (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية). فكان اللائق بالحامل استقبال هذه النعمة وهذه البشرى بالفرح والترحاب والشكر والامتنان كما قال آدم وحواء (لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) وكما قال إبراهيم عليه وعلى نبينا السلام (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق) أما تعمد الحامل إلى إجهاض حملها وإسقاط جنينها والرمي به في صندوق القمامة أو طرحه للكلاب تنهشه كما يقال فإن ذلك كفران عظيم بالنعمة التي أنعمها الله عليها واستهانة بالغة بعطيته لها ورد لهبته لا يؤمن معه غضب الله وانتقامه كما قال (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ).

فلا غرابة إذن أن يُنكر الإسلام هذا الفعل ولا غرابة أن يحرمه وينعقد الإجماع على تحريمه ومنعه بعد نفخ الروح في الجنين ومرور أربعة أشهر على استقرار النطفة في الرحم كما قال ابن العربي وابن جزي والدردير على خليل. وأما قبل ذلك فقد اختلف العلماء في الإجهاض قبل نفخ الروح داخل الأربعين يومًا وقبل مرور أربعة أشهر على الحمل على الأقوال:

الأول أنه حرام فِى جميع مراحل الحمل ابتداء من استقرار النطفة فِى الرحم داخل الأربعين وبعدها ولو كان من زنا وهو المشهور والمعتمد في مذهب مالك وهو قول للشافعية والحنفية.

القول الثاني أنه يجوز داخل الأربعين يومًا ويحرم بعدها وهو انفرد به اللخمي فيما قاله صاحب المعيار ونسبه الخرشِىّ لأبِى الحسن أيضًا.

القول الثالث أنه يكره قبل مضِى أربعين يومًا ويحرم بعدها.

القول الرابع أنه يجوز إذا كان من زنا خصوصًا إذا خافت المرأة على نفسها القتل إذا ظهر بها الحمل وهو قول حكاه الزرقانِىّ على خليل بقوله ينبغِى ولم ينسبه لأحد وسكت عنه بنانِىّ والرهونِىّ ورده فى حاشية العدوِىّ. وأجاز بعض الشافعية إسقاطه إذا كان من زنا ما لم ينفخ فيه الروح وأجازه بعض الشافعية أيضًا ما دامت نطفة أو علقة وهو قول أبِى حنيفة أيضًا فيما نقله عنه أبو إسحاق المروزِىّ.

القول الخامس أنه يجوز قبل نفخ الروح فيه مطلقًا وهو قول بعض متأخرِى الحنفية وهو قول للشافعية والراجح عند صاحب نهاية المحتاج.

وقال بعض الشافعية بتحريمه فيما قرب من زمن نفخ الروح لأنه حريمه وبالكراهة فيما بعده دون تحديد زمن عينه حيث يقول وأما قبله يعني قبل نفخ الروح فلا يقال إنه خلاف الأولى بل محتمل للتنزيه والتحريم ويقوى التحريم فيما قرب من زمن النفخ اهـ

وهذه الأقوال المبيحة كلها ضعيفة لا مستند لها ولا دليل عليها وأقصَى ما برر به القائلون بجواز الإجهاض مقولتهم أمران:

المبرر الأول القياس على العزل وهو تبرير غير صحيح ومردود من وجوه ثلاثة:

أولًا أنه قياس في محل النص ولا قياس مع وجود النص.

وثانيًا أنه قياس مع وجود الفارق ولا قياس مع وجود الفارق.

وثالثًا أنه قياس على مختلف فيه ولا قياس على مختلف فيه.

أما كونه قياسًا فى محل النص فلما يأتِى من الآيات والأحاديث الدالة على منع الإجهاض. وأما كونه قياسًا مع وجود الفارق مع وجود فلأن العزل إراقة المنِىّ خارج الفرج فلم يوجد فيه سبب التوالد والإجهاض واستخراج النطفة هو منع للتوالد بعد وجوده فعلًا أو بعد وجود سببه المباشر، ولهذا قال الغزالِىّ العزل ليس كالإجهاض لأنه جناية على موجود حاصل. وفِى حاشية نهاية المحتاج أن النطفة بعد الاستقرار فِى الرحم آيلة إلى التخلق المهيأ لنفخ الروح ولا كذلك العزل.

وأما كونه قياسًا على مختلف فيه فلأن العزل فيه خلاف قوِىّ بجوازه وكراهته ومنعه والقائلون بمنعه يقولون بمنع الإجهاض واستخراج النطفة من باب أولَى وأحرَى.

التبرير الثانِى أنَّه ماء غير محترم وهو تبرير مرفوض لأنه مصادرةٌ لأن كونه محترمًا أو غير محترم هو محل الخلاف ومنشؤه فمن رآه محترمًا يقول بمنع استخراجه ومن يراه غير محترم يقول بجوازه قبل نفخ الروح فيه.

والقول باحترامه هو الذِى يدل عليه:

١-إيجاب العدة والاستبراء على كل موطوءة بحلال أو حرام ومنعها من التزوج قبل تمام العدة أو الاستبراء فإنه لو كانت النطفة غير محترمة لما وجبت العدة والاستبراء.

٢-منع إقامة حد القتل على الحامل المحقق حملها بل على المرأة بصفة عامة حتى تستبرأ بحيضة خشية أن تكون حاملًا فيؤدِى قتلها إلى قتل ما فِى بطنها.

٣-إيجاب الغرة فِى إسقاط الجنين وإن لم ينفخ فيه الروح ولو كان مجرد علقة عند المالكية.

والقول الأول القائل بتحريم ذلك داخل الأربعين وبعدها لسبب وغيره ولو كان من زنا هو مذهب الجمهور والمشهور والراجح والمعتمد وهو الذي اختاره المحققون ففِى حاشية كنون على الرهوني نقلًا عن المعيار من جواب لمؤلفه ما نصه المنصوص لأئمتنا رضوان الله عنهم المنع من استعمال ما يبرد الرحم أو يستخرج ما فِى داخل الرحم من المنِىّ وعليه المحصلون والنظار ثم قال وانفرد اللخمِىُّ فأجاز استخراج ما فِى داخل الرحم من الماء قبل الأربعين يومًا ووافق الجماعة فيما فوقها.

وقال ابن العربِىّ للولد أحوال:

١-حال قبل الوجود ينقطع فيها بالعزل وهو جائز.

٢-وحال بعد قبض الرحم على المنِىّ فلا يجوز لأحد التعرض له بالقطع عن التولد كما يفعله السفلة فِى سقِى الخدم عند استمساك الطمث الأدوية التِى ترخيه فيسيل المنِى معه وتنقطع الولادة.

٣-وحال بعد تخلقه قبل أن ينفخ فيه الروح وهذه أمثل فِى التحريم لما روِىَ فِى الأثر أن السقط يظل منبطحًا على أبواب الجنة يقول لا أدخل حتى يدخل أبواىَ.

٤-فإذا نفخ فيه الروح فهو قتل نفس بلا خلاف اهـ

ونقله الوزانِىّ فِى نوازله الكبرَى وزاد فإذا وقفتَ على هذا التحقيق الذِى تقدم من كلام القاضِى أبِى بكر رحمه الله علمت قطعًا أن اتفاق الزوجين على إسقاط الجنين فى المدة المذكورة وتواطؤهما على ذلك حرام ممنوع فلا يحل بوجه ولا يباح وعلى الأم فى إسقاطه الغرة والأدب إلا أن يسقط الزوج حقه فى الغرة بعد الإسقاط اهـ

وقال الغزالِىّ العزل ليس كالإجهاض والوأد لأنَّه جناية على موجود حاصل فأول مراتب الوجود وقوع النطفة فِى الرحم فيختلط بماء المرأة فإفساده جناية فإن صارت علقة أو مضغة فالجناية أفحش فإن نفخت الروح واستقرت الخلقة زادت الجناية تفاحشًا اهـ

 وهذا الذِى اختاره المحققون هو الذِى يدل عليه الكتاب والسنة ومقاصد الشريعة والقواعد الأصولية والفقيهة.

أما الكتاب فإن فيه آيات تدل على تحريم قتل الأولاد الشامل للأجنة منها:

الآية الأولى قوله تعالى فِى سورة الأنعام (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم) وهى آية عامة فى الأولاد وعامة في أنواع القتل وفي سببه ودوافعه وفي المنهيين عنه، أما عمومها في الأولاد فلأن لفظ (أولادكم) فى الآية جمع معرف بالإضافة والقاعدة أن الجمع المعرف باللام أو الإضافة للعموم وبعمومه يتناول الأولاد المولودين والأجنة في بطون أمهاتهم ولا يختص بالمواليد فقط كما قد يظن.

وأما عمومها فى أنواع القتل فإن (تقتلوا) من قوله تعالى (ولا تقتلوا) فعل مضارع وهو فى قوة النكرة والنكرة فى سياق النهِىِ للعموم والفعل المنفِىُّ يفيد العموم كما يقول الأصوليون وبذلك تتناول الآية كل أنواع القتل سواء فِى ذلك القتل بطريقة الوأد الذِى كان معروفًا فى الجاهلية والقتل بالسيف والقتل بالإجهاض ولا يختص بالوأد وإن كان بعض المفسرين يفسره بذلك ولكن القاعدة الأصولية تقول العام الوارد على سبب خاص معتبر عمومه عند الأكثر.

وأما عمومها فِى أسباب القتل ودوافعه فإن الآية تدل بمنطوقها الصريح على تحريم القتل بسبب الفقر الواقع والإملاق المعيش كما تدل بمفهوم الأولى وفحوَى الخطاب على تحريم قتلهم لأسباب أُخرَى لأنه إذا حرم قتلهم مع وجود عذر الإملاق لم يجز قتلهم لغيره من الأسباب من باب أولى وأحرى بناء على القاعدة الأصولية القائلة بعموم المفهوم وبذلك تدل الآية على تحريم قتل الأولاد مهما كانت الأسباب والدوافع.

وأما عمومها في المخاطبين المنهيين على القتل فإن واو الجماعة في قوله تعالى (ولا تقتلوا) يفيد العموم فيتناول الموجودين عند نزول الآية ومن يوجد من بعدهم بطريق التغليب بناء على القول بعموم النصوص لمن بعد الموجودين فالكل يحرم عليه قتل أولاده ولو كانوا أجنة.

الآية الثانية قوله تعالى سورة الإسراء (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم) وهي مثل الآية الأولى في عموماتها الأربعة عموم في الأولاد والقتل وأسبابه والمنهيين عنه وفي دلالتها بمنطوقها على تحريم قتل الأولاد الشامل للأجنة خشية الفقر المتوقع في القريب العاجل أو المستقبل البعيد وفي دلالتها بطريق المفهوم الأولى على منع قتلهم لأسباب أخرى غير خشية الفقر بناء على عموم مفهوم الأولى.

الآية الثالثة قوله تعالى في سورة الممتحنة في بيعة النساء (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قال المفسرون في قوله تعالى (ولا يقتلن أولادهن) لا يئدن الموءودات ولا يسقطن الأجنة وفي هذا التفسير دليل على أن لفظ الأولاد يشمل الأجنة ولا يختص بالأولاد المولودين وهو ما يؤكد صحة دعوى العموم في الآيتين السابقتين (ولا تقتلوا أولادكم) وشمول الأولاد فيهما للأجنة أيضا مثل هذه الآية.

والآية بهذا التفسير دليل ءاخر على تحريم الإجهاض في جميع الظروف ومهما كانت الأسباب لعموم الآية وإطلاقها وعدم تقييدها بحالتَىْ الإملاق أو خشيته كما فِى الآيتين السابقتين فتشمل هذه الآية الإجهاض للفقر أو خشيته أو الخوف من العار والفضيحة أو لتشوه الجنين أو المحافظة على راحة الأم ورشاقتها وصحتها أو غير ذلك من الأسباب لقاعدتَىْ العام محمول على عمومه والمطلق محمول على إطلاقه وقاعدة عموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال.

فهذه القواعد كلها تقتضِى تحريم الإجهاض فِى جميع الظروف والحالات دون استثناء.

الآية الرابعة قوله تعالى (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) فقد قال بعض المفسرين المراد بحافظات للغيب حافظات لنطف الرجل فِى أرحامهن لا يحتلن لإسقاطها.

وأما السنة فإن هناك أحاديث وءاثارًا تدل على تحريم الإجهاض بطرق مختلفة منها:

الأول الأثر السابق الذِى استدل به ابن العربِىّ رحمه الله على تحريم الإجهاض بعد التخلق وقبل نفخ الروح وهو ما روِى من (أن السقط يظل منبطحًا على أبواب الجنة يقول لا أدخل حتى يدخل أبواى) وهو دليل على بطلان القول بجواز الإجهاض قبل نفخ الروح فى الجنين أي قبل أربعة أشهر.

الثاني حديث مسلم في قصة الغامدية التِى حملت من زنا وطلبت من النبىّ صلى الله عليه وسلم أن يقيم عليها الحد. فقال صلى الله عليه وسلم (حتى تضعِى ما فِى بطنك) ووجه الدلالة فيه أن إقامة الحد واجب على الفور ولا يجوز تأخيره فلما أخره الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تضع دلّ ذلك على أن علة تأخيره هى الحمل ودل على أن المحافظة على الحمل واجبة وأن إسقاطه حرام لأنه لو كان الإجهاض جائزًا لعجل الحد عليها ولما أخره لأنه لا يجوز ترك واجب للمحافظة على جائز وإنما يترك الواجب لواجب أهم منه إذا تعذر الإتيان بهما. وفِى هذا الحديث ردٌّ على من جوز الإجهاض قبل نفخ الروح مطلقًا وعلى من جوزه إذا كان من زنا ولم تمر عليه أربعة أشهر لأنه صلى الله عليه وسلم لم يسأل المرأة كم مضَى على زناها وحملها ومن القواعد الأصولية أن ترك الاستفصال ينزل منزلة العموم.

الثالث حديث ابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال (المرأة إذا قتلت عمدًا لم تقتل حتى تضع ما فى بطنها إن كانت حاملًا وحتى تكفل ولدها وإن زنت لم ترجم حتى تضع ما فِى بطنها وحتى تكفل ولدها) وهو دليل آخر على منع الإجهاض لأنه إذا لم يجز قتل الجنين لإقامة الحد الواجب لم يجز قتله لأىّ سبب آخر غير واجب بالأحرى والحديث عام فيما نفخ فيه الروح وما لم ينفخ فيه لعموم قوله (ما فِى بطنها) وإذا لم يجز قتل الجنين من الزنا لم إسقاطه إذا كان من نكاح من باب أولى وأحرى.

الرابع ما روِىَ عن عمر رضِى الله عنه من أنه أمر برجم امرأة حملت وزوجها غائب غيبة طويلة فقال له معاذ رضِى الله عنه إن يكن لك سبيل عليها فلا سبيل لك على ما فِى بطنها فتركها عمر وحبسها حتى وضعت وقال عمر رضِى الله عنه عجزت النساء أن تلد مثل معاذ لولا معاذ هلك عمر.

وهو دليل آخر على تحريم قتل الأجنة وإسقاطهم ولو كانوا من زنا أو توقف عليه القيام بواجب الحد. ومن هنا قال فقهاؤنا المالكية لا يقام على حامل حد لأن الرجم قتل لولدها والجلد يخشى منه عليه وعليها وهو الذي تدل عليه قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح بل ذهب الفقه المالكي إلى أن الزانية لا يقام عليها الحد وإن لم يتبين حملها حتى تستبرأ الحرةُ بحيضة واحدة لاحتمال حملها من الزنا فيؤدي إقامة الحد عليها إلى قتله.

وأما مقاصد الشريعة التِى تقتضِى منع الإجهاض فإن هناك مسلكين وطريقين:

الأول أن المقصود من النكاح فِى الإسلام هو التناسل والتكاثر كما تدل على ذلك الأحاديث النبوية الشريفة والإجهاض يناقض هذا المقصود وينافيه فلا يجوز شرعه وإباحته لمناقضته مقاصد الشريعة الإسلامية ومنافاته لها.

الثاني أن من الضروريات الخمس التِى بنيت عليها هذه الشريعة والشرائع قبلها والتي جاءت لحمايتها والمحافظة عليها النفس والنسل فكيف تجيز الشريعة إسقاط الجنين وهي جاءت للمحافظة عليه هذا تناقض غير مقبول ولا يمكن وجوده فِى هذه الشريعة وشرعه فيها.

وأما القواعد الأصولية التي تقتضي منعه وتحريمه فهي أن إباحة الإجهاض من شأنه التشجيع على انتشار الزنا بتيسير التخلص من تبعاتها وطمس ءاثارها والتستر على مركبيها وذلك يقتضي تحريمه تطبيقا لقاعدة سد الذرائع المؤدية إلى الحرام وهي أصل من أصول مالك التي بنى عليها مذهبه فتجب مراعاتها وتطبيقها ومنع الإجهاض.

كما أنه يؤدِى إلى كشف العورة أمام الأجنبي وتمكينه من مسها والنظر إليها دون ضرورة شرعية وهو حرام وما يؤدي إلى الحرام حرام.

ونشير بعد هذا إلى أن الإسلام لم يقف عند تحريم الإجهاض وكفى بل أوجب فيه عقوبات زجرية من شأنها أن تحد من ممارسته وتردع قساة القلوب من تعاطيه والاتجار فيه وهي:

  1. التعزيز بالحبس أو الضرب باجتهاد الحاكم في تحديد نوعه ومقداره
  2. كفارة القتل عند كون الإجهاض بعد نفخ الروح وهِى عتق رقبة مؤمنة أو صيام شهرين متتابعين لمن لم يجد الرقبة أو لم يجد ثمنها وهي واجبة عند الشافعية مستحبة عند المالكية.
  3. الغرة عند كون الإجهاض بعد نفخ الروح لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في جنين امرأة من بني لحيان بغرة عبد أو أمة اهـ وعن المغيرة بن شعبة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استشارهم في إملاص المرأة فقال المغيرة قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالغرة عبد أو أمة اهـ

والإملاص إسقاط الجنين والغرة عبد أو أمة كما جاء تفسيرها في الحديث نفسه وأجاز المالكية بدلها عشر دية الأم عينًا نقدًا خمسين دينارًا ذهبيًا أى ٥‚٢١٢ غرام من الذهب الخالص الخيار للجاني وتتحملها الأم وحدها إذا استقلت وحدها بالإجهاض بأن ضربت بطنها أو شربت ما يسقطه.

وإن كان الإجهاض بعملية طيبة كانت الغرة على الأم والطبيب المباشر ومساعده لأنهم جميعا متمالئون على الإجهاض قياسًا على المتمالئين على القتل العمد فإنه يقتص منهم جميعًا وإن لم يباشره إلا واحد منهم.

وقياسًا على من أمسك شخصا ليقتله آخر فإن الممسك يعتبر شريكا للقاتل في القتل ويقتص منهما جميعا فكذلك الأم هنا تعتبر كممسكة للجنين ليقتله الطبيب ومساعده.

وقياسًا على ما قضى به الحسن بن علِىّ بن أبِى طالب رضي الله عنهما بحضرة أبيه وإعجابه به في امرأة استعانت بنسوة أمسكن لها جارية كانت تخشى أن يتزوجها زوجها عليها وأزالت بكارتها وأخبرت زوجها أنها فجرت فذهب الزوج إلى علي رضي الله عنه فاستدعاهن فاعترفن، فقضى الحسن رضي الله عنه بالحد على من قذفها وبالعقر على المرأة التي افتضت الجارية وعلى الممسكات لمشاركتهن لها اهـ

والله تعالم أعلم.


[١]المرجع كتاب شذرات الذهب فى ما جد فى قضايا النكاح والطلاق والنسب للشيخ الفقيه الأصولِىّ محمد التاويل رحمه الله تعالى.