وجوب قضاء الصلوات المتروكة عمدًا[١]

قبسات من فوائد الشيخ طيب مُلا عبد الله البَحركِىّ
حفظه الله تعالى

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم وبعد فمن وجبت عليه الصلاة ومضى عليه الوقت فلم يصل فإما أن يكون معذورًا لنوم أو نسيان أو لا، فإن كان معذورًا وجب عليه القضاء بالإجماع المستند إلى الآية والحديث الآتيين ولا إثم عليه، وإن لم يكن معذورًا بل تركها عمدًا ثم تابفعليه القضاء وهو قول المحدثين والفقهاء لكن مع بقاء إثم التأخير إن لم يُغفر له، وباب التوبة غير مسدود ورحمته وسعت كل شىء، والديون قابلة للأداء.

ومن شغلت ذمته بأى تكليف لا تبرأ إلا بتفريغها أداءً أو قضاءً لقوله صلى الله عليه وسلم (فدينُ الله أحقُّ أن يُقضى) اهـ رواه البخارِىّ فمن وجبت عليه الصلاة وفاتته بفوات الوقت المخصص لها لزمه قضاؤها فهو ءاثم بتركها عمدًا والقضاء عليه واجب ثم قال الدكتور فمن فاتته الصلاة لنوم أو نسيان قضاها وبالأولى من فاتته عمدًا بتقصير يجب عليه قضاؤها وعليه يجب القضاء بترك الصلاة عمدًا أو لنوم أو لسهو.

روى الإمام مسلم فى صحيحه بسنده عن أبى هريرة رضى الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (مَن نسىَ الصلاة فليصلها إذا ذكرها فإنَّ الله قال أقم الصلاة لذكري) اهـ قال الإمام النووىّ فى شرح هذا الحديث (فيه وجوب قضاء الفريضة الفائتة سواء تركها بعذر كنوم ونسيان وبغير عذر، وإنما قيد فى الحديث بالنسيان لخروجه على سبب لأنه إذا وجب القضاء على المعذور فغيره أولى بالوجوب، وهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى)، وقال الإمام القرطبىُّ تعليقًا على الحديث المذكور (دليل على وجوب القضاء على النائم والغافل كثرت الصلاة أو قلت، وهو مذهب عامة العلماء، فأما من ترك الصلاة متعمدًا فالجمهور أيضًا على وجوب القضاء عليه وإن كان عاصيا إلا داود الظاهرِىّ[٢]، والحجة للجمهور قوله تعالى (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) ولم يفرق بين أن يكون فى وقتها أو بعدها وهو أمر يقتضى الوجوب، وأيضا فقد ثبت الأمر بقضاء النائم والناسِى مع أنهما غير مأثومين فالعامد أولى، وأيضا قوله صلى الله عليه وسلم (من نامَ عن صلاةٍ أو نسيها) اهـ والنسيان الترك، قال الله تعالى (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) و(كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُم) سواء كان مع ذهول أو لم يكن لأن الله تعالى لا ينسى وإنما معناه تركهم وكذلك الذكر يكون بعد نسيان وبعد غيره، قال الله تعالى (إن ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسِى) وهو تعالى لا ينسَى وإنما معناه علمت، فكذلك يكون معنى قوله (إذا ذكرها) أى علمها وأيضا فقد اتفقنا أنه لو ترك يومًا من رمضان متعمدًا بغير عذر لوجب قضاؤه فكذلك الصلاة) انتهى.

روى مسلم فى صحيحه بسنده عن أبى قتادة رضى الله عنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر حديث المِيضأة بطوله وفيه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضَى الصلاة التِى فاتته بسبب النوم ثم قال (أما لكم فِىَّ أُسوةٌ ثم قال أما إنه ليس فى النوم تفريطٌ إنما التفريط على من لم يُصلّ الصَّلاة حتى يجىءَ وقتُ الصلاة الأخرى فمن فعل ذلك فليُصلّها حين ينتبه لها) اهـ فقوله صلى الله عليه وسلم (فمن فعل ذلك) إشارة إلى من لم يصل عمدًا حتى يجىء وقت الصلاة الأخرى، وقوله (فليُصلّها حين ينتبه لها) أى فليقضها حينما يرجع إليه شعوره بأنه فعل فعلًا شنيعًا حيث لم ينفذ ما أمر الله به وترك عمدًا إحدى دعائم الإسلام بدون معذرة، فهذا الحديث حجة ظاهرة على وجوب القضاء على العامد التارك للصلاة التائب عن هذا الذنب وهذا ظاهر معنى الحديث وإن كان له محمل غير هذا.

قال الإمام النووى (أجمع العلماء الذين يعتد بهم على أن من ترك صلاة عمدًا لزمه قضاؤها وخالفهم أبو محمد على بن حزم فقال لا يقدر على قضائها أبدًا ولا يصح فعلها أبدًا قال بل يكثر من فعل الخير وصلاة التطوع ليثقل ميزانه يوم القيامة ويستغفر الله تعالى ويتوب وهذا الذى قاله مع أنه مخالف للإجماع باطل من جهة الدليل وليس فيما ذكر دلالة أصلًا. ومما يدل على وجوب القضاء حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر المجامع فى نهار رمضان أن يصوم يومًا مع الكفارة أى بدل اليوم الذى أفسده بالجماع عمدًا رواه البيهقى بإسناد جيد وروى أبو داود نحوه، ولأنه إذا وجب القضاء على التارك ناسيًا فالعامد أولى) انتهى، فالإمام النووىُّ أثبت وجوب قضاء الصلاة المتروكة عمدًا فضلًا عن الإجماع بقياسين. القياس على الصائم المفطر عمدًا حيث إن الصلاة والصوم عبادتان بدنيتان لا فارق بينهما فثبوت وجوب قضاء إحداهما عند تركها عمدًا يوجب ثبوت قضاء الأخرى كذلك.  قياسِ التارك العامد على التارك الناسِى بالقياس الأولى لأن الناسِى غير مخاطب بالخطابات التكليفية حين النسيان ومنها الأمر بالصلاة ومع هذا أوجب الشارع عليه القضاء، والتارك العامد لكون الخطاب متوجهًا إليه من أول الوقت وملزمًا له بفعلها فلو تركها عمدًا فهو أولى بوجوب القضاء عليه.

قال الحافظ ابن حجر العسقلانى (ووجوب القضاء على العامد بالخطاب الأول لأنه قد خوطب بالصلاة وترتبت فى ذمته فصارت دينًا عليه والدين لا يسقط إلا بأدائه فيأثم بإخراجه لها عن الوقت المحدود لها ويسقط عنه الطلب بأدائها، فمن أفطر فى نهار رمضان عامدًا فإنه يجب عليه أن يقضيه مع بقاء إثم الإفطار عليه، والله أعلم).

قال العلامة بدر الدين العينى فى شرح حديث من نسىَ الصلاة السابق (يُستنبط منه وجوه (١) الأمر بقضاء الناسِى من غير إثم وكذلك النائم وهذا مذهب العلماء كافة، فإن تركها عامدًا فالجمهور على وجوب القضاء أيضًا، وحكى عن داود عدم وجوب قضاء الصلاة على العامد لأن انتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط فيلزم منه أن من لم ينس لا يصلى إذا ذكر، وأجيب عنه بأن القيد بالنسيان فيه لخروجه على الغالب أو لأنه مما ورد على سبب خاص مثل أن يكون ثمة سائل عن قضاء الصلاة المنسية أو أنه إذا وجب القضاء على المعذور فغيره أولى بالوجوب وهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى وشرط اعتبار مفهوم المخالف عدم الخروج على الغالب وعدم وروده على السبب الخاص، وادعى ناس بأن وجوب القضاء على العامد يؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم نَسِى لأن النسيان يطلق على الترك سواء كان عن ذهول أم لا، ومنه قوله تعالى (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) و(كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُم) أى تركوا أمره فتركهم فى العذاب، قالوا ويُقَوِّى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (لا كفَّارة لها) والنائم والناسى لا إثم عليه)، وقد نقل هذه العبارة وأقرها الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا فى الفتح الربانِىّ.

أيها العزيز هذه هِىَ ءَارَاء العلماء من المفسرين والمحدثين والفقهاء وأدلتهم حول وجوب قضاء الصلاة المتروكة عمدًا فقد عرضناها أمامك فطالعها مطالعة دقيقة ثم ارجع بصيرتك عليها كرتين فالأمل قوىٌّ بأن تصل إلى القناعة التامة بأن تلك الصلاة يجب قضاؤها وإضافة إلى ذلك يجب صرف جميع أوقات الفراغ فى القضاء حتى لا يجوز الاشتغال بالسنن ولو كانت رواتب ولكن إذا فعلت صحت، وتفاصيل كل ذلك فى الكتب الفقهية فارجع إليها ولا تُصْغِ أيها المصلى إلى قول من ينهاك عن القضاء فإنه إما جاهل بأمور الدين غرّ أو له أغراض حزبية غير الدين فيتغوط فى منهل المياه لِيُعْرَفَ وتكثر زمرته وترتسخ فى الدنيا أظافره، أرأيت الذى ينهى عبدًا إذا صلى، فأية فائدة فى تنفير المسلمين عن قضاء الصلوات فالقضاء صلاة فإن لم تنعقد قضاءً انعقدت نفلًا مطلقًا، ومع هذا فإن فى هذه الفتاوى الباطلة الغير المألوفة تشويشًا لأفكار المسلمين وتنفيرًا لهم عن عبادة رب العالمين وتصويرًا لضيق رحمة الله الواسعة كما أن فيها سدًا لأبواب التوبة وكل هذه شناعة ليست من الدين فى شىء، فنرجو من أولئك المفتين أن ينتهوا عن مثل هذه الفتاوى فإنهم ليسوا أهلًا لذلك

وللحروب رجال يعرفون بها         وللدواوين كتاب وحساب

وأن يرجعوا إلى البارئ عز وجل ويتوجهوا إليه (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) عفا الله عن سيئاتنا وجمع شملنا جميعًا على الدين الحنيف الذى رَضِىَ به لنا وجعلنا يدًا واحدة للدفاع عن الدين. أمين.

والله أعلم.


[١] المرجع كتاب حُجج المتقين فِى بعض المسائل من فور الدين للشيخ طيب ملا عبد الله البحركِىّ.

[٢] داود الظاهرِىّ أنكر القياس وله أقوال شاذة. قال أبو إسحق الشيرازِىّ وإمام الحرمين وغيرهما إنه لا يجوز تقليده. المنتصر بالله.