الاحتياطُ فى رواية الحديث [1]
قَبَساتٌ من فوائدِ مُحَدِّثِ الديارِ الهِنْدِيَّة
الشيخ حبيبُ الرحمن بن محمد صابر الأعظمِىّ
المتوفَى سنة ١٤١٢هـ رحمه الله تعالى
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم. هناك أمر يستحق عناية بالغة وهو أن النبِىَّ صلى الله عليه وسلم كما أَكَّدَ تأكيدًا شديدًا على تبليغ أحاديثه كذلك فقد نهى أن يكذب عليه أشد النهِى فلم يزل من أجل ذلك طائفة من المحدثين على حذر بالغ فى رواية الحديث منذ العهد الأول فكان أصحابُ النبىِّ صلى الله عليه وسلم يُقِلُّونَ الرواية مخافة أن يزيد أو ينقض كما رُوِىَ عن الزبير رضى الله عنه فى البخارِىّ.
وكان من شأن أنس بن مالك رضِى الله عنه أنه إذا شك فى الحديث أدنَى شك لم يحدثه وقال لولا أنِى أخشى أن أخطئ لحدثتكم بأشياء سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم اهـ
وقال أبو جعفر محمد بن علِىّ لم يكن أحدٌ من الصحابة إذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا أحذر أن لا يزيد فيه أو ينقص منه ولا ولا من ابن عمر اهـ
ويؤيد هذا ما جاء فى الصحيح لمسلم أن ابن عمر ذات مرة رَوَى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم بُنِى الإسلام على خمس على أن يوحد الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان والحج فقال رجل الحج وصيام رمضان قال لا صيام رمضان والحج هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم اهـ
فانظر فى هذا إنه وإن لم يتغير به المعنى لم يرضَ بأىّ تغيير فى سرد اللفظ الذى سمعه من النبى صلى الله عليه وسلم. وقد رَوَى الدارمِىُّ لعبد الله بن عمر واقعة أخرى مثل هذه الواقعة فى حديث ءاخر.
وذكر الذهبِىّ عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أنه كان ممن يتحرَّى فى الأداء ويشدد فى الرواية ويزجر تلامذته عن التهاون فى ضبط الألفاظ.
وروى ابن ماجه عن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال قلنا لزيد بن أرقم حدِّثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كبرنا ونسينا والحديثُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد اهـ
ومن أجل هذا التوفِى كان عبد الله بن عمر رضى الله عنهما يوصِى تلاميذه إذا اراد أحدكم أن يروِى حديثًا فليردِّده ثلاثًا اهـ
ولأجل هذا الحذر كان أبو بكر وعمر رضى الله عنهما يؤكدان على إقلال الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فبعد ما قرأت هذه الأخبار والوقائع لأصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم لا مناصَ من أن تقول إن الجماعة التى كانت على هذا القدر من الحيطة والتَوَقّى لا يُتصور منها أن تنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فيه أدنى ريبة فضلًا عن تعمد الكذب عليه.
وأقول أنا إنه لَمَّا كان فيهم مثلُ هذا التَّوَقِّى الشديدُ ولم يكن بُدٌّ من رواية الحديث بعد كان لزامًا أن يهتموا بحفظه غاية الاهتمام وفى هذه الصورة أيضًا يُستبعد أن تختلَّ الأحاديث لإمكان السهو أو النسيان وخاصةً إذا كان قد ثبت تاريخيًا من عنايتهم منذ بداية الأمر أنه إذا حدَّث أحدٌ منهم طلبوا منه ما يؤيده لطمأنينة زائدة كما جاء فى تذكرة الحفاظ أن الجدة جاءت إلى أبى بكر تلتمس أن تورَّث فقال ما أجد لك فى كتاب الله شيئًا وما عملت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لك شيئًا ثم سأل الناس فقال المغيرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيطها السدس فقال هل معك أحد فشهد محمد ابن مسلمة بمثل ذلك فأنفذه لها أبو بكر رضى الله عنه اهـ
وفيه أيضًا أن أبا موسى سلَّم على عمر من وراء الباب ثلاث مرات فلم يؤذن له فرجع فأرسل عمر فى أثره فقال لم رجعتَ قال سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا سلَّم أحدكم ثلاثًا فلم يُجب فليرجع اهـ قال لتأتينِى على ذلك ببينةٍ أو لأفعلّنَّ بك فجاءنا أبو موسى منتقعًا لونه ونحن جلوس فقلنا ما شأنك فأخبرنا وقال فهل سمع أحد منكم فقالنا نعم كلنا سمعه فأرسلوا معه رجلًا منهم حتى أتى عمر فأخبره اهـ
وعمر نفسه حدث مرة فقال لولا مخافة أن أزيد أو أنقص لحدّثتكم بحديث الأعرابِىّ حين أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرنب ولكن أرسلوا إلى عمار فأرسلوا إليه فجاءه فقال أشاهدٌ أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أتاه أعرابِىّ بالأرنب فقال رأيتها تدمَى فقال نعم اهـ
وإنما أردتُ من إيراد هذه الأخبار أنه إذا كان مِن شأنهم أن يؤيدوا حديث أحدهم برواية الآخر فالتَّصَوُّرُ بعد ذلك لتحريف الأحاديث مجردُ وَهْمٍ فلو كان دبَّ الشك وعلى سبيل الافتراض فى رواية شخص واحد فإنه لا يُلتفت إلى مثل هذا الشك إذا كان هناك اثنان أيّما التفات.
وإنِى لأتجاسر أن أقول إن ذلك الرجل الشاك لفِى جهل تام بروح التعاليم القرءانية فإن القرآن الكريم حينما أمر باستشهاد امرأتين مع شهادة رجل فيما إذا لم يكن شاهدان عدلان أشار إلى فائدة استشهاد امرأتين فقال (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى)
فلينظر من ينظر إلى الحديث بنظرة الشك بأم عينيه إن القرآن لم يُعن أية عناية باحتمال أن يقع منهما سهو أو نسيان وليتأمل إذا كان القرآن لم يهتم بذلك فى شأن امرأتين فهل يعتبر ذلك فى حق رجلين ولا سيما وأن الآية نفسها تجعل الرجل الواحد فى هذا الصدد بمثابة امرأتين.
والله تعالى أعلم.
[1] المرجع كتاب نصرة الحديث للشيخ حبيب الرحمن الأعظمِىّ رحمه الله تعالى.