الغارة الإيمانية فِى ردّ مفاسد التحريرية (٢)[1]

(قولهم إن من مات من غير بَيْعَة لخليفة مات ميتة جاهلية)

قبسات من فوائد خادم علم الحديث
الشيخ عبد الله بن محمد الهررِى
المتوفى سنة ١٤٢٩ هـ رحمه الله تعالى

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين وبعد فمن أباطيل [حزب التحرير] قولهم إن من مات من غير بَيْعَة لخليفة مات ميتة جاهلية فإنهم يذكرون فى كتابهم المسمى بالخلافة ما نصه (فالنبِىّ صلى الله عليه وسلم فرض على كل مسلم أن تكون فى عنقه بيعة ووصف من يموت وليس فى عنقه بيعة بأنه مات ميتة جاهلية) اهـ ويذكرون فِى نفس الكتاب ما نصه (فالمسلمون جميعًا ءاثمون إثمًا كبيرًا فى قعودهم عن إقامة خليفة للمسلمين فإن أجمعوا على هذا القعود كان الإثم على كل فرد منهم فِى جميع أقطار المعمورة) اهـ ويذكرون فى موضع ءاخر منه (والمدة التِى يمهل فيها المسلمون لإقامة خليفة هِى ليلتان فلا يحل أن يبيت ليلتين وليس فِى عنقه بيعة) ويقولون (وإذا خلا المسلمون من خليفة ثلاثة أيام أثموا جميعًا حتى يقيموا خليفة) اهـ ويقولون فى كتاب ءاخر ما نصه (والمسلمون فى لبنان كما فى سائر بلاد المسلمين ءاثمون عند الله إذا لم يعملوا على إعادة الإسلام للحياة ونصب خليفة واحد يجمع أمرهم) اهـ

الردُّ. هذه العبارات من جملة تحريفهم للكلم عن مواضعه فإن هذا الحديث رواه مسلم عن ابن عمر بهذا اللفظ (من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس فى عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) فهم يذكرون منه للناس الجملة الأخيرة فيكررون (من مات وليس فى عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) مع إيهامهم أن ذلك لمن لم يتكلم معهم فى أمر الخليفة كما هم يتكلمون بألسنتهم.

ومعنى الحديث ليس كما يزعمون إنما المعنَى أن من تمرد على الخليفة واستمر على ذلك إلى الممات تكون مِيتَتُهُ ميتة جاهلية كما يدل على ذلك حديث مسلم عن ابن عباس عن النبِىّ صلى الله عليه وسلم (من كره من أميره شيئًا فليصبر عليه فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرًا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية). فقوله (فمات عليه) صريح في أن الذي يموت ميتة جاهلية هو الذي يأتيه الموت وهو متمرد على السلطان، ويدل عليه أيضًا حديث أبى هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية) رواه مسلم.

ويدل على ذلك أيضًا حديث البخارِىّ ومسلم عن حذيفة بن اليمان قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وصف الدعاة إلى أبواب جهنم (فالزموا جماعة المسلمين وإمامهم) قال حذيفة فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام قال (فاعتزل تلك الفرق كلَّها) لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذًا أنتم تموتون ميتة جاهلية.

ثم ما يدعيه حزب التحرير فيه حرج، فالرعايا المسلمون اليوم عاجزون عن نصب خليفة والله تعالى يقول (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)[2] فهم ضربوا بحديث البخارِى ومسلم عُرض الحائط وتشبثوا بحديث مسلم بغير محله. فتبين بطلان قولهم وتمويههم.

وغرضُهُم من ذلك التشويشُ على المسلمين حتى يتبعوهم ويبايعوا زعيمهم تقي الدين النبهاني الذي ادعى الخلافة وبايعه جماعته على ذلك. وقد قسم البلاد على زعمه بين أولاده الثلاثة أحدهم سماه أمير العراق والثانِى أمير بلاد الشام والأخير أمير مصر وسمَى زوجته أم المؤمنين على زعمه والآن بعد موته نصبوا خليفة وهو موجود فِى الدانمرك أقام الحد على من زنَى منهم.

بيان حكم نصب الخليفة على المسلمين وحكم من يخرج على الخليفة مع وجوده وحكم من يموت في زمن ليس فيه خليفة

أما المسئلة الأولى وهى نصب الخليفة فقد اتفق علماء المسلمين على وجوب نصب الخليفة، وتثبت خلافته بمبايعة أهل الحل والعقد من المسلمين أي أفاضل المسلمين من أهل العلم والتقوَى فقد قامت أول خلافة فى الأمة المحمدية خلافة أبِى بكر رضِى الله عنه بمبايعة عمر رضِى الله عنه ثم تتابع المسلمون الذين بالمدينة على بيعته فثبتت خلافته على رقبة كل مسلم ممن كانوا ذلك الوقت بالمدينة ومن كانوا فِى غيرها، فصار حرامًا على كُلِّ مسلم أن يخرج على أبِى بكر ويتخلى عن إمارته بأن يقول ليس لك علِىَّ إمارة ثم جاءت خلافة عمر رضِى الله عنه باستخلاف أبِى بكر له فِى المدينة المنورة فوافق مَنْ كان من المهاجرين والأنصار بالمدينة على نصب عمر خليفة فثبتت خلافته على رقبة كل مسلم على وجه الأرض من كان حاضرًا بالمدينة ومن لم يكن ثم قامت خلافة عثمان رضِى الله عنه بنصب عدد من المهاجرين والأنصار ممن كانوا بالمدينة له كما أمرهم عمر بذلك فثبتت بيعته على رقبة كل مسلم فخرج عليه أناس من غير الصحابة فنازعوه ثم قامت خلافة علِىّ رضِى الله عنه بمبايعة المهاجرين والأنصار الذين كانوا بالمدينة له فصارت بيعته ثابتة على كل مسلم ممن حضر المدينة ومن كان غائبًا فصار الخروج عليه ذنبًا كبيرًا.

أما الحالة الثانية حكم الخروج على الخليفة فقد اتفق أهل العلم أهل الحق على أن الخروج على الخليفة حرام من الكبائر بالإجماع إذا كان الخليفة راشدًا كهؤلاء الأربع وعلى الفاسق أيضًا عند الجمهور فكان الخروج على أبِى بكر أو عمر أو عثمان أو علىّ رضِى الله عنهم ذنبًا كبيرًا وكان خرج على عثمان أناسٌ ليس فيهم أحد من الصحابة فنازعوه ولم يَرْضَوْا بخلافته حتى أدَّى الأمر بهم إلى أن قتلوه ثم حصل الخروج على عَلِىّ فِى ثلاث مواقع الوقعة الأولى كانت بالبصرة كان فيها بعض الصحابة طلحة والزبير وعائشة ثم طلحة والزبير انصرفا من المعركة لأن عليًّا ذكَّرَ كل واحد منهما حديثًا كان قاله الرسول فِى شأن علِىّ وكانا تائبين لم يدركهما الموت إلا بعد التوبة أما عائشة رضِى الله عنها فقد تابت وندمت ندمًا كبيرًا على وقوفها في معسكر الخارجين على علي، فهؤلاء الثلاثة لم يموتوا إلا بعد أن عادوا إلى طاعة علِىّ وهؤلاء الثلاثة من المبشرين بالجنة فذنبهم مغفور.

وقد وردت أحاديث صحيحة فى عظم ذنب من خرج على الخليفة منها حديث ابن حبان (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه حتى يراجع) وهو حديث صحيح بلا خلاف رواه عدد من المحدثين فى تصانيفهم كالحافظ الخطيب البغدادِىّ فى كتابه الفقيه والمتفقه وحديث (من خلع يدًا من طاعة لقِىَ الله لا حجة له يوم القيامة ومن مات وليس فى عنقه بيعة مات ميتةً جاهلية) ورواه مسلم بهذا اللفظ.

وكان ممن خرج على علِىّ رضِى الله عنه أيضًا معاوية وأناس من أهل الشام لأنه كان واليًا أيام عمر وعثمان على الشام وكان خروجه بغير حجة شرعية بل من شدة رغبة معاوية فِى الملك والرئاسة وعلِىٌّ كان خليفة راشدًا وقد بين ذلك سيدنا علِىٌّ رضِى الله عنه ذكر ذلك عنه الحافظ ابن حجر فِى كتابه المطالب العالية ونقل ذلك عن مسند مُسَدَّد وكتاب الحافظ سعيد ابن منصور فكان الخروج على علِىّ كالخروج على أبِى بكر وعمر وعثمان لأنه لا يجوز الخروج على الخليفة إلا أن يحصل منه كفر صريح.

ولم يكن خروج معاوية على علِىّ وقتاله له عن اجتهاد إنما كان حبًّا فِى الملك وليس كاجتهاد المجتهدين فِى الأحكام كاختلاف أبِى بكر وعلِىّ فى حكم مسئلة الجدّ والإخوة فإن أبا بكر اجتهد فقال الجدّ مثل الأب فلا ترث إخوة الميت معه واجتهد سيدنا علِىّ فقال الجدّ والإخوة كغصنين من شجرة فيشتركان فِى الإرث وهذا الاجتهاد هو الذِى ورد فِى الحديث (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد) وهكذا اختلاف الإمام مالك والإمام الشافعِىّ فهذا الاجتهاد هو الاجتهاد الذِى هو مأمور به لمن كان أهلاً.

وأما حكم من يموت وهو خارج على الخليفة أى قبل أن يعود إلى طاعة الإمام فهؤلاء ينطبق عليهم حديث البخارِىّ ومسلم (من كره من أميره شيئًا فليصبر فإنه من خرج من السلطان شبرًا فمات على ذلك مات ميتة جاهلية) وهذا معنى الجزء الأخير من حديث مسلم المذكور أى قوله صلى الله عليه وسلم (ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) ومعنى مات ميتة جاهلية أى مات وحالته كميتة عباد الأوثان أى شبيهة بهم وليس معناه أنه كافر وإنما معناه أن من خرج على السلطان يكون عاصيًا معصية كبيرة.

فإذا تبين هذا تبين فساد قول حزب التحرير إن من يموت فى هذا الزمن ولم يبايع خليفة يموت ميتة جاهلية فكلامهم هذا يشمل من مات في هذا الزمن وقبل هذا منذ انقطعت الخلافة وهذا شطط كبير وظلم عظيم وهذا تحريف منهم للحديث بل حالُ مَنْ يموت فى هذا الزمن يعلم من حديث حذيفة بن اليمان رضِىَ الله عنه الذِى رواه البخارِىّ وهذا ينطبق على الحالة الثالثة وفيه أن حذيفة قال فإن أدركنِى زمان ليس فيه إمام ولا جماعة فقال الرسول صلى الله عليه وسلم (اعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تَعَضَّ على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك) هذا الحديث فواجب على من ينتسب إلى حزب التحرير أن يرجعوا عن تضليلهم للمسلمين كلهم وتأثيمهم لهم وليتأملوا فى حديث حذيفة لأن الرسول عليه السلام لم يقل له فأنت إن مِتَّ ولم تبايع خليفة تكون ميتتك ميتة جاهلية بل أرشدهُ إلى ترك التحزب لتلك الفرق أى لا تقاتل مع فرقةٍ ضدّ فرقة أخرَى وهذا كالقتال الذِى حصل فى الماضِى بين المغرب وموريتانية فالحديث ينهَى عن التحزب لإحدى الفرقتين دون الأخرى بقتال الأخرى معها وهذا أمر ظاهر كالشمس. والعجب كيف التبس هذا الأمر على حزب التحرير حتى صاروا يرددون بين الناس الجزء الأخير من حديث مسلم المذكور (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) مع حذفهم للواو ليوهموا الناس أن هذا القدر هو الحديث كله. 

أما حاصل مسئلة الخلافة فإن نصبها واجب فمن تقاعس عن إقامتها مع القدرة فهو عاص ومن قال إننا نستطيع في هذا العصر فَلْيُِرنا أَثَر هذا القولِ. ولم يزل حزب التحرير منذ نحو أربعين سنة يلهج بذلك ويكثر ذكر ذلك على مسامع الناس ولم يقدروا على نصبها بل هم عاجزون كغيرهم وأما أهميتها فهو أمرٌ ظاهرٌ وكتبُ العلماء في العقيدة والفقه طافحة بذلك وليست الخلافة من أركان الإسلام والإيمان بل أركان الإسلام الخمسة التِى ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم لجبريل حين جاءه بصورة رجل لا يعرفه أحد من الذين كانوا مع الرسول فِى ذلك المسجد فسأله عن الإسلام قال يا محمد أخبرنِى عن الإسلام فقال (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتِىَ الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا) ثم قال أخبرنِى عن الإيمان قال (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) فلم يُدْخِلْ الرسولُ صلى الله عليه وسلم الخلافةَ فى أركان الإسلام ولا فى أركان الإيمان. فلا يصح ولا يجوز أن يقال لا إسلام بلا خلافة وكيف يجوز ذلك وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الطُّهور شطر الإيمان) الحديثَ رواه مسلم فما أجهل من يقول ذلك وما أشد تجرئه على الافتراء على الدين. وعلامة فساد أفهام هؤلاء الناس أنك فهؤلاء تجدهم لا يهتمون بتعلم وتعليم أحكام الطهور الذِى أكده الرسول هذا التأكيد حيث سماه نصف الإيمان فقصارى القول فيهم أنهم تائهون عن الحق وعن الدين.

ملاحظة. من أراد أن يطلع على هذه الأحاديث فليراجع صحيح البخارِى وهاكم أيها المطالعون نص حديث حذيفة في رواية البخاري من كتاب البخارِىّ حدثنا محمد بن المثنى حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا ابن جابر حدثنِى بُسر بن عبيد الله الحضرمِى أنه سمع أبا إدريس الخولانِىّ أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركنِى فقلت يا رسول الله إنا كنا فِى جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر قال نعم قلت وهل بعد ذلك الشر من خير قال نعم وفيه دَخَن قلت وما دَخَنُه قال قوم يهدون بغير هديِى تعرف منهم وتنكر قلت فهل بعد ذلك الخير من شر قال نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها قلت يا رسول الله صفهم لنا قال هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قلت فما تأمرنِى إن أدركنِى ذلك قال تلزم جماعة المسلمين وإمامهم قلت فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام قال فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تَعَض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك اهـ

وفى كتاب الفتن عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كره من أميره شيئًا فليصبر فإنه من خرج من السلطان شبرًا مات ميتة جاهلية حدثنا أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد عن الجعد أبي عثمان حدثني أبو عثمان العطاردي قال سمعت ابن عباس رضِى الله عنهما عن النبِىّ صلى الله عليه وسلم قال (من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات إلا مات ميتة جاهلية) وحديث ابن عباس هذا رواه مسلم أيضًا وهو من الأحاديث المتفق عليها من البخارِىّ ومسلم ومعناه ظاهر أن الذي يموت ميتة جاهلية هو الذِى يكون فى وقت الخليفة ثم يتمرد عليه ويموت وهو مخالف للخليفة وفى معناه حديث ابن حبان وهو (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه حتى يراجع) فتبين بهذا أن التحريرية حَرَّفوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعوه على غير محله، وعلى قولهم كل من مات منذ انقطعت الخلافة إلى يومنا هذا فميتته ميتة جاهلية فقد جعلوا المسلمين الذين ماتوا منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا كالجاهلية عباد الأوثان فأعظم بهذه فِريةً.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

 


[1] المرجع كتاب الغارة الإيمانية فى الردّ على التحريرية للشيخ عبد الله بن محمد الهررِىّ رحمه الله تعالى.

[2] سورة البقرة ءاية 286.