هل لغیر اللهِ حقٌّ فِى الإيجابِ والتحريم[١]

قبساتٌ من فوائد وكيل مشيخة الإسلام محمد زاهد الكوثرِى
المتوفى سنة ١٣٧١هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين وبعد فيقول عالمٌ فى إحدَى المجلات (إن تقييدَ الطلاق ومنعَ تعدد الزوجات مباحان فى الإسلام. وإنَّ ولِىَّ الأمر له الحقُّ فى أن يأمر بمباح فيجبَ وأن ينهَى عن مباحٍ فيصيرَ حرامًا) ويزعم أنَّ ذلك قاعدة مقررة فى الشريعة الإسلامية ثم يقول إنَّه كان يرَى التقييد المذكور وهذا المنعُ يوم كان رئيس لجنة الأحوال الشخصية سنة ١٩٢٧ م وإنَّه قد تحول رأيه وأصبح اليوم يرَى عدمَ التقييد وعدمَ المنع وإن كان الشرع الإسلامِىّ أباحَهُمَا فى نظره.

فعلَى تقدير صحة هذا لو كان أصحابُ الشأنِ جَارَوْهُ لكان لنا تشريعٌ فى المسألتين فى سنة ١٩٢٧م وتشريعٌ ءَاخَرُ فيهما يناقض التشريع الأول فى السنة الحاضرة وكلاهما باسم الشرعِ الإسلامِىّ،ولأصبح الشرعُ الإسلامِىّ الصالح لكل زمان ومكان يتبدل هكذا فى سنوات قليلة من نقيض إلى نقيض. ولو فرضنا وقوعَ مثل هذا التحول السريع فى القوانين الوضعية لَرُمِىَ واضعوها بالتسرع وقلة التبصر فكيف يُستجاز مثل ذلك فيما يسند إلى شرع الله الذِى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أم كيف ينطلق لسان هذا القائل بأن يقول (إن تقييد الطلاق ومنع تعدد الزوجات مباحان فِى الإسلام) مع ما مَثُلَ لديه من نصوص كتاب الله وسنة رسول والعمل المتوارث من صدر الإسلام إلى اليوم والإجماع اليقينِى بين فقهاء الملة القاضية بأن الطلاق والتزوج بما هو فوق الواحدة إلى الأربع من النساء من حقّ الرجل فقط من غير أن يكون لأحد سواه مجالُ الافتئات على حقه الصريح إلَّا وهو ظالم، كما أوضحتُ ذلك إيضاحًا لا لَبْسَ فيه ولا تعميةَ فى مقال لِى.

وأما عدُّ ذلك قاعدةً مقررةً فى الشرع الإسلامِىِّ فباطلٌ لا يُتَصَوَّرُ أن يوجد فى كتاب الله ولا فى سنة رسول الله ولا فى مدارك فقهاء هذه الأمة ما يغالط به فى تقعيد مثل تلك القاعدة الهدامة، أبَى الله أن يكون شرعه يهدم بعضه بعضًا بل تلك القاعدة المستقعدة هِى معنَى ما قاله مقنَّعٌ أشار إلى نفسه بأنّه (عالم فاضل) رمز إلى اسمه بحرف (ع) فى موضع التوقيع فى مقال منشور له فى العدد (٢٨٠) من مجلة الرسالة تحت عنوان (حقّ الإمام فى نسخ الأحكام) وسبق أن رددنا عليه ردًا وافيًا تحت عنوان (أنسخُ الأحكام م حقّ الإمام)، وفيه ما يُغْنِى عن إعادة الكلام فى هذا الموضوع.

وأما ما وقع فى كلام بعض المتأخرين من أصحاب الطبقات النازلة فى الفقه من أن وَلِىَّ الأمر إذا أمر بمباح وجب امتثاله وكذا إذا نهَى عن مباح كما فى الدر والأنقروية ففِى غيرِ موارد النصوص وأما ما ورد فيه نصَّ فلا معدل فيه عن النصِّ إذ لا طاعةَ لمخلوق فى معصية الخالق.  فيكون جعل ذلك الرأىَ قاعدة شاملة للمنصوص وغيره مما لم يَفُهْ به عالمٌ قبل اليوم. ففِى بحث الأشربة من الدر المختار القولُ بتحريم شرب الدُخان لِنَهْىِ وَلِىِّ الأمر عنه يعنِى السلطان مرادًا الرابع وردَّ ابنُ عابدين عليه بأنَّ وَلِىَّ الأمرِ لا شأن له فى التحليل والتحريم كيف وقد قال فقهاؤنا (من قال لسلطان زماننا عادل فقد كفر) حيث يكون اعتقد الظلم عدلًا.  وقد تَوَسَّعَ فى تحقيق ذلك ابنُ عابدين فى ردّ المختار فى بحث الأشربة.

وكان أحدُ المخذولين من كبار موظفِى وزارة المعارف بالآستانة قدم تقريرًا عن رَدِّ المُحْتَارِ هذا يقول إنَّ فيه كلمة ماسة مثيرة يريد الكلمة السابقة فصدر أمرٌ بمصادرة الكتاب المذكور من المكتبات هناك فنفذ الأمر على مرأى من الناس ومشهد منهم فَعَمَّ الاستياء البيئات العلمية وكان ذلك فى حدود سنة ١٣٢٠هـ فنهض العلامةُ المُعَمَّرُ أبو المحاسن يوسف التكوشِىُّ رئيس العلماء واستصحب معه المُحدث المُعَمَّرُ الشيخ محمد فرهاد الريزورِىُّ رحمهما الله وكلاهما من أكابر علماء دار الخلافة إذ ذاك وذهبا توًّا إلى القصر السلطانِى ولما تَشَرَّفَا بالمثول لدَى جلالة السلطان قالا لجلالته (لعل جلالةَ مولانا لا يشك فى تعلقنا بعرشه القائمِ بحراسةِ الدينِ وقد حَمَلَنَا هذا التعلقُ على أن نرفع إلى مسامع جلالته أنّ ردَّ المُحتارالذِى ليس يخلو بيتُ عالم منه قد صُودر أسوأ مصادرة وهذا مما يُدْمِى قلوبَ المخلصين والمسألةُ التِى تُنسب إليه موجودة فى كُلِّ كتاب فقهِىٍ تقريبًا وقد رفعنا هذا إلى مسامع مولانا قيامًا بواجبنا. وقد كُلِّلَ سَعْىُ هذين العالمَين الوَرعين بالنجاح حتى صدر الأمر السلطانِىّ بإعادة تلك الكتب إلى أصحابها مع نفْىِ ذلك الموظفِ الكبيرِ الذِى كان قدم ذلك التقرير إلى إحدَى الولايات الشرقيةِ البعيدةِ ليكونمُسْتَخْدَمًا بسيطًا فِى إحدَى البلديات كما هو مشروحٌ فِى التحرير الوجيز.

وكان أهل العلم يغارون على شرع الله هكذا إلى الأمس الدابر وما كان من شأنهم السَّعْىُ فى التمهيد لهدم البقية الباقية فلا حول ولا قوة إلا بالله. يقول الشيخ عبد الغنِىِّ النابلسِىّ الحنفِىّ فى شرحه على الطريقة المحمدية عند كلامه فى التتن والقهوة وأمرُ السلطانِ ونَهْيُهُ إنما يُعتبران إذا كانا على طبق أمر الله تعالى ونهيه لا على مقتضَى نفسه وطبعه.  بل لو فرضنا أنَّ أمر النبِىّ صلى الله عليه وسلم ونهيه كانا من تلقاء نفسه لا من أمر الله ونهيه وحاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك لما وجب علينا امتثال ذلك فكيف يجب علينا امتثالُ أَمْرِ السلطان أو نهيه الصادرِ من مجرد رأيه وعقله ما لم يكن موافقًا لحكم الله تعالى إلا إذا ظَلَمَ السلطانُ وجار وشدد على الناس وضيق عليهم فى النَّهْىَ عن هذين المباحين وخاف الناسُ على أنفسهم من شره خصوصًا إذا كان يَسْتَحِلُّ دماءَ المسلمين ويوجب تعزيرهم فى رأيه بسبب ذلك فلا يجوز أن يُلْقِىَ أحدٌ بنفسه فى التهلكة فيكف المؤمن عن استعمال ذلك بهذا السبب لا مُعْتَقِدًا لحرمةٍ أو لكراهةٍ بل حاقنًا دمه و عرضه...إلى ءاخر ما فى الحديقة الندية لعبد الغنِى النابلسِىّ .

والحاصل أنَّ ما أباحه الله سبحانه ليس إلى أحدٍ تحريمه كما سبق، على أنَّ ذلك الحديث المنشور على لسان ذلك العالم ليس بأول حديث له من هذا القبيل، وهو القائل للكاتب الأمريكِى روم لاندو فِى صدد الجواب عن تجويز بعض علماء الأزهر القول بقدم المادة (إن رأيًا كهذا قد كان يحسب من الزندقة قبل خمسين سنة وما كان أحد ليجسر على تقديمه فى جامعةٍ إسلاميةٍ فما أعظم التغيير فى أطوار الزمان نحن اليوم أدنَى إلى الحرية والسماحة) كما فى العدد ٢٤٦ من مجلة الرسالة، وهو القائل أيضًا للوفد العراقِىّ (وإنَّ مَنْ ينظر فى كتب الشريعة الأصلية بعين البصيرة والحذق يجد أنَّه من غير المعقول أن تضع قانونًا أو كتابًا أو مبدأً فى القرن الثانِى من الهجرة ثم تجئ بعد ذلك فتطبق هذا القانون أو الكتاب أو المبدأ فى مصر أو فى العراق فى سنة ١٣٥٤ هـ) كما فى الأهرام ٢٨ فبراير سنة ١٩٣٦م. وقد سمع أناسٌ حديثًا من لسان أحمد لطفِى باشا السيد فى الأزهر عن (إله أرسطو) و اتجاهِ الفلسفة هناك شيئًا كثيرًا عُنِىَ كثير من أفاضل الأزهريين باستنكار ذلك الحديث فى مقالات ممتعة زادهم الله غَيْرَةً وبَصَّرَنا عواقبَ ما نحن بسبيله وأَلْهَمَنَا الإقلاعَ عَنِ التَوَغُلِ فِى طُرُقِ الرَّدَى وأرشدنا إلى سبيل الرشاد و السداد.

والله تعالى أعلم.


[١]المرجع كتاب مقالات الكوثرِىّ لوكيل مشيخة الإسلام الشيخ محمد زاهد الكوثرِىّ رحمه الله تعالى.