الإقرار بوجود الخالق مع فعل ما ينافيه ليس توحيدًا كما زعم ابن تيمية[١]

قبساتٌ من فوائد شيخ علماء مكة محمد العربِى بن التبانِىّ المالكِىّ
المتوفى سنة ١٣٩٠ هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وبعد فإن ابن تيمية صَدَّقَ المشركين فى قولهم (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) وفى تعليلهم الفاسد وبنى على تصديقهم تكفيرَ المتوسلين بالأنبياء وما بُنِىَ على الفاسد فاسدٌ.

قال ابن القيّم فى فصل حكمه صلى الله تعالى عليه وسلم فى الجزية ومقدارها وممن تقبل ما نصه (وعباد الأوثان كانوا يقرون بتوحيد الربوبية وأنه لا خالق إلا الله وأنهم إنما يعبدون ءالهتهم لتقربهم إلى الله سبحانه وتعالى) اهـ فقوله (وعباد الأوثان كانوا يقرون إلى قوله وأنهم إنما) فاسد فإن إقرارهم بوجود الخالق الرازق المُحْيِى المميت مع ارتكابهم ما ينافِى هذا الاقرار من الاعتقاد الفاسد كإنكارهم البعث والنشور أشدَّ الانكار ومن الفعل مع الاعتقاد كاتخاذهم له أندادًا عـبدوها من دونه تعالى وسموها ءَالِهَةً وسَوَّوْها بربِّ العالمين ومن القول كقولهم لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك أقول إقرارهم بوجود الخالق مع صدور كل هذه الأمور التى تنافيه منهم لا اعتبار له ولا يكون توحيدًا كما زعم ابن تيمية ومقلدوه ولا إيمانًا لا لغةً ولا شرعًا. والدليلُ على هذا قوله تعالى (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) فإن معناها عند المفسرين (وما يؤمن أكثرهم بالله) فى إقرارهم بوجود الخالق (إلا وهم مشركون) باتخاذهم له أندادًا عبدوهم من دونه أو باتخاذهم الأحبار والرهبان أربابًا أو بقولهم واعتقادهم الولد له سبحانه وتعالى أو بغير ذلك. والتعبيرُ فى جانب شركهم بالجملة الأسمية الدالة على الثبوت والدوام الواقعة حالًا لازمةً وفى جانب إيمانهم أى إقرارهم بالجملة الفعلية الدالة على التجدد دليل على أن شركهم دائم مستمر ملازم لهم وأن إقرارهم غير دائم ولا مستمر.

وقد خالف ابن تيمية جميع المفسرين فى تفسير هذه الآية (ولئن سَأَلْتَهُمْ مَنْ خلق السماوات والأرض ليقولُنَّ الله) وحَمَّلَها ما لا تتحمله أبدًا، حمَّلها توحيد الربوبية الذى اخترعه وزعم أن المشركين يعرفونه ويُقِرُّونَ به وحمَّلها تكفيرَ أهلِ لا إله إلا الله المتوسلين بالأنبياء والصالحين فتورط فى الجهل المركب، والمخاطب بسؤال المشركين فيها هو النبىُّ صلى الله عليه وسلم فلو استظهر بجميع أهل الأرض على النقلِ عنه صلى الله عليه وسلم ولو بإسنادٍ واهٍ أنه كان يقول للناس فِى دعوته لهم إلى الله (من خلق السماوات والأرض) لم يستطع وإن الشرطية فيها ممكنٌ وقوعُ شَرْطِها وهو سؤالهم عن ذلك وعدمُ وقوعه أى عدمُ سؤالهم عن ذلك عربيةً فمدخولُهَا جائزُ الأمرين مُسْتَقْبَلٌ معنًى وإن كان ماضيًا مبنًى ولم يَرِدْ أنه صلى الله عليه وسلم سألهم عن ذلك ولذلك قال المفسرون إن المشركين يقولون الله بالفطرة التى فطر الله تعالى الناس عليها وبضرورة العقل السليم أى لا يقولون الله باللفظ كما يَدُلُّ عليه كلامُهُ وقوله (وإنهم إنما يعبدون ءَالهتهم لتقربهم إلى الله سبحانه وتعالى) تقليدٌ للحرانِىِّ تقليدًا أعمى فى تصديق المشركين فى تعليلهم الفاسد عبادتهم لها فإن جملة (ما نعبدهم) حالٌ بتقدير القول من واو اتخذوا مُبَيِّنَةٌ لكيفيةِ إشراكهم وعدمِ خلوص دينهم فابنُ تيمية صدق المشركين فى قولهم (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) وفى تعليلهم الفاسد وبَنَى على تصديقهم فى الأمرين تكفير المسلمين المتوسلين بالأنبياء والصالحين وما بُنِىَ على الفاسدِ فاسدٌ وقد تقدمَ إبطاله مسهبًا وقد كذبهم الله تعالى فى قوله بعدها (إنَّ الله لا يهدِى من هو كاذبٌ كَفَّار).

والله أعلم.


[١] المرجع كتاب التعقيب المفيد على هدِى الزرعِىِّ الشديد للشيخ محمد العربِى التبانِى رحمه الله تعالى.