المراحل التِى مرَّ بها الإمام أبو الحسن الأشعرِىّ[١]

قبسات من فوائد الفقيه الشيخ العالم محمد العمراوِىّ المالكِىّ
حفظه الله تعالى

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وسلم. سئل حفظه الله أنَّ هناك مَنْ يَدَّعِى بأنَّ الإمام الأشعرِى له مراحل ثلاث كان على مذهب الاعتزال ثم انتقل إلى مذهب الأشاعرة ثم انتقل إلى مذهب أهل السنة ويدعِّم قوله بما فى كتاب الإبانة وكتاب مقالات الإسلاميين فهل هذا صحيح.

الجواب

ليس صحيحًا أن الإمام أبا الحسن الأشعرِىّ مرَّ بثلاث مراحل وإنما المعروف أنه مرَّ بمرحلتين

الأولى الاعتزال وقد كان رأسًا فيه وإمامًا فى مسائله وقضاياه ولذلك سهل عليه نقض مذهب الاعتزال والردّ على شيوخه وإفحام أئمته وقد جرت له مناظرة ظريفة مع شيخه أبِى علِىّ الجبائىّ كانت نقطة النهاية فى مسيرته الاعتزالية وخلاصة تلك المناظرة أن أبا الحسن الأشعرِىّ سأل أبا علِىٍّ الجُبائىّ عن ثلاثة إخوة عاش أحدهم فى الطاعة حتى مات كبيرًا وعاش الثانِى فى المعصية حتى مات كبيرًا والآخر مات صغيرًا فقال يثاب الأول ويعاقب الثانِى والآخر لا يثاب ولا يعاقب قال الشيخ قد يقول الثالث يارب هلا أعمرتنِى فأشتغل بالطاعة حتى أُثاب قال الجُبائىّ يقول الله تعالى له علمتُ أنك لو عشت لاشتغلت بالمعصية فتعاقب قال الأشعرى قد يقول الثانِى لِمَ لَمْ تُمتنِى صغيرًا حتى لا أعصِى فلا أعاقب فبُهت الجبائى اهـ

المرحلة الثانية مرحلة التَّسَنُّنِ وذلك أنَّ الإمام أبا الحسن الأشعرِىّ رحمه الله بعدما تيقن من فساد منهج الاعتزال وكساد ءَارَائِهِ صعد المنبر فى مسد البصرة وأعلن توبته بين يدَىِّ الناس من مذهب الاعتزال وصرح فى جرأة وإقدام أنّه عاد إلى مذهب أهل الحق أهل السنة والجماعة ومن ثمَّ شرع يؤلف ويعلِّم على ذلك المنهج مستعملًا وسيلتين إحداهما إيراد النصوص القرءانية والحديثية الموضحة لمنهج أهل السنة والشارحة لذلك. وثانيهما استعمال المناهج العقلية والأساليب الحجاجية والطرق الاستدلالية لإفحام خصوم المذهب من جهة وتوضيح مرامِى النصوص النقلية وبيان عدم التنافر بينها من جهة أخرَى.

ولأنَّ مذهب أهل السنة مبنِىّ فى جوهره على قاعدة التنزيه فى الصفات وهِى مركز الخلاف بين الفرق فإنَّ التحقق به يكون إما بالتفويض أى تفويض المعنى إلى الله تعالى وذلك ما فعله أبو الحسن فى كتاب الإبانة عن أصول الديانة وهِى أقوَى ما يحتح به من يقول إن أبا الحسن الأشعرِىّ مر بثلاث مراحل بناء على أنها ءاخر كتبه وهِى دعوَى تحتاج إلى بينة.  وأما التأويل أى صرف اللفظ عن ظاهره المؤدِىّ إلى التشبيه وحمله على معنًى ءَاخَرَ يصحُّ فى العربية مع عدم القطع بالمراد وذلك ما فعله فى كتابه اللمع فى دفع شبه أهل الزيع والبدع وقد رجَّح محقِّقه انطلاقًا من معطيات نفسية وموضوعية أنه ءاخر كتبه كما ذكرتْ ذلك محققة كتاب كشف الفضائح اليونانية ورشف النصائح الإيمانية للشيخ السهروردِى الدكتورة عائشة يوسف المناعِىّ.  وفِى كتاب الإبانة أيضًا فِى بعض المواطن كقوله وأن الله استوَى على العرش على الوجه الذى قاله وبالمعنى الذى أراده استواء منزَّهًا عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته ومقهورون فى قبضته وهو فوق العرش وفوق كل شىء إلى تَخُوم الثرَى فوقية لا تزيده قربًا إلى العرش والسماء بل هو رفيع الدرجات عن العرش كما أنه رفيع الدرجات عن الثرَى وهو مع ذلك أقرب إلى العبد من حبل الوريد وهو على كل شىء شهيد اهـ وقال فى شرح أحاديث التنزل بعد ما ذكر منها جملة صالحة نزولًا يليق بذاته من غير حركة وانتقال تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا اهـ

هذا وليُعلم أن الإبانة المطبوعة المتداولة بين أيدي الناس وأفضلها النسخة المحققة من قبل الدكتورة فوقية حسين محمود فيها تحريف كثير وتغيير وتحوير وكلام لا يستقيم مع منهج أبى الحسن الأشعرِىّ لا فى قبيل ولا دبير وهاك بعضَ الأمثلة الموضحة لما ذُكر مقارنة بين الجزء من الإبانة الذى ذكره أبو القاسم بن عساكر فى كتابه تبيين كذب المفترِى ونسخة الإبانة المحققة من قبل الدكتورة فوقية حسين وبين هذه وبعض النسخ الأخرَى المحققة من قبل قومٍ ءَاخَرِين، فقد ورد فى النسخة المطبوعة (وأنكروا أن يكون له عينان) مع قوله تعالى (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ) وفى نسخة الدكتورة فوقية (وأن له سبحانه عينين بلا كيف) وفى تبين كذب المفترى (وأن له عينًا بلا كيف) وما نقله ابن عساكر هو الموافق للقرءان الكريم إذ لفظ التثنية غير وارد فى القرءان بخلاف الإفراد والجمع كما فى قوله تعالى (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) وقوله عز وجل (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا) فذكر التثنية بدعة وتحريف ومخالفة للقرآن والإجماع. قال العلامة الكوثرِىّ رحمه الله لم ترد صيغة التثنية فى الكتاب ولا فى السنة وما يروَى عن أبِى الحسن الأشعرِىّ من ذلك فمدسوس فى كتبه بالنظر إلى نقل الكافة عنه اهـ ثم قالَ قال ابن حزم لا يجوز لأحد أن يصف الله عز وجلّ بأن له عينين لأن النصَّ لم يأتِ بذلك اهـ

وقال ابن الجوزِىّ وقد ذهب القاضِى يعنِى أبا يعلَى إلى أن العين صفة زائدة على الذات وقد سبقه أبو بكر ابن خزيمة فقال فى الآية لربنا عينان ينظر بهما وقال ابن حامد يجب الإيمان أن له عينين. قلتُ وهذا ابتداع لا دليل لهم عليه وإنّما أثبتوا عينين من دليل الخطاب فى قوله عليه السلام (وإن الله ليس بأعور) وإنَّما أراد نفِىَ النقص عنه تعالى اهـ

وفى طبعة الدكتورة (وأن الله استوَى على العرش على الوجه الذى قاله وبالمعنى الذى أراده استواءً منزهًا عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته ومقهورون فى قبضته وهو فوق العرش وفوق كل شىء إلى تَخُوم الثرَى فوقية لا تزيده قربًا إلى العرش والسماء بل هو رفيع الدرجات عن العرش كما أنَّه رفيع الدرجات عن الثرَى وهو مع ذلك قريب من كل موجود وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد وهو على كل شىء شهيد اهـ وفى طبعة ابن ريحان وأن الله متسو على عرشه كما قال (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)، وجاء فى طبعة الدكتورة فوقية إن قال ما تقولون فى الاستواء قيل له نقول إن الله عز وجل يستوِى على عرشه استواء يليق به من غير حلول واستقرار وفى طبعة ابن ريحان فإن قال قائل ما تقولون فى الاستواء قيل له نقول إن الله عز وجل مستو على العرش عرشه (هكذا) كما قال (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)، وجاء فى طبعة فوقية حسين فكل ذلك يدل على أنَّه تعالى فى السماء مستوٍ على عرشه والسماءُ بإجماع الناس ليست الأرض فدل على أنَّه تعالى منفرد بوحدانيته مستوٍ على عرشه استواء منزهًا عن الحلول والاتحاد اهـ وفى طبعة ابن ريحان فكل ذلك يدل على أنّه تعالى فى السماء على عرشه والسماء بإجماع الناس ليست الأرض فدل على أن الله تعالى منفرد بوحدانيته مستوٍ على عرشه اهـ، وفى طبعة الدكتورة فوقية حسين تعليقًا على أحاديث النزول ءاخر الليل نزولًا يليق بذاته من غير حركة وانتقال تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا اهـ وقد حُذِفَ هذا النص بتمامه فى طبعة ابن ريحان.

ومن أمثلة التناقض الواضح فى النسخة المطبوعة وهو كثير قولُهُ فى تفسير لفظ يد المذكورة فى حديث (خلق الله ءادم بيده) بيد قدرته.  ثم ذكر نقيض ذلك حينما قال وأيضًا فلو كان الله عنَى بقوله (لما خلقت بيدَىّ) بقدرتِى لما كان لآدم صلى الله عليه وسلم مزية على إبليس اهـ 

وهذا يدلك على أن (الإبانة) إبانتان

إحداهما كتبها أبو الحسن الأشعرِىّ على طريقة أهل السنة الجامعة بين التفويض والتأويل والمستعملة لأدلة النقل والعقل معًا ولعل ذلك ما دفع بعض رؤساء حنابلة بغداد إلى رفض هذه (الإبانة) ولمخالفتها أيضًا لما كانوا يعتقدونه مذهب الإمام أحمد. قال الحافظ الذهبِىّ قيل إن الأشعرِىّ لما قدم بغداد جاء إلى أبِى محمد البربهارِىّ فجعل يقول رددت عل الجبائىّ، رددت على المجوس وعلى النصارَى فقال أبو محمد لا أدرِى ما تقول ولا نعرف إلا ما قاله الإمام أحمد فخرج وصنّف الإبانة ولم يقبل منه اهـ وقال الذهبِىّ أيضًا حطَّ عليه جماعة من الحنابلة والعلماء اهـ وما ذاك إلا بسبب اختلاف منهجه المرسومة معالمة فى الإبانة وغيرها مع منهجهم وإلا لكانوا له مناصرين وعند مدافعين كما فعل ذلك بعض عقلائهم على مرّ الأزمان.  قال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر ولم يزل الحنابلة ببغداد فى قديم الدهر على ممر الأوقات تعتضد بالأشعرية على أصحاب البدع لأنهم المتكلمون من أهل الإثبات فمن تكلم منهم فى الردّ على مبتدع فبلسان الأشعرية يتكلم ومن حقق منهم فى الأصول فى مسألة فمنهم يتعلم فلم يزالوا كذلك حتى حدث الاختلاف فى زمن أبى نصر القشيرِىّ ووزارة النظام ووقع بينهم الانحراف من بعضهم عن بعض لانحلال النظام. وعلى الجملة فلم يزل فى الحنابلة طائفة تغلو فى السنة وتدخل فيما لا يعنيها حبًّا للخفوض فى الفتنة. و لا عار على أحمد رحمه الله من صنيعهم وليس يتفق على ذلك رأىُ جميعهم، ولهذا قال أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين وهو من أقران الدارقطِنى ومن أصحاب الحديث المتسننين ما قرأتُ على الشيخ أبى محمد عبد الكريم بن حمزة بن الخضر بدمشق عن أبى محمد عبد العزيز بن أحمد قال ثنا أبو ذر عبد بن أحمد الهروِى قال سمعت ابن شاهين يقول رجلان صالحان بُليا بأصحاب سوء جعفر بن محمد وأحمد بن حنبل اهـ

ثانيتهما (الإبانة) المتداولة اليوم بين أيدِى الناس وقد مرَّ بك ما فيها من التناقض والاختلاف الذِى لا يقع فيه الطلبة المبتدئون بَلْه العلماء الراسخين.  قال العلامة محمد زاهد بن الحسن الكوثرِىّ رحمه الله والنسخة المطبوعة فى الهند من الإبانة نسخة مصحَّفة محرفة تلاعبت بها الأيدِى الأثيمة فيجب إعادة طبعها من أصل موثوق اهـ وقال أيضًا ومن العزيز جدًّا الظفر بأصل صحيح من مؤلفاته أى الأشعرِىّ على كثرتها البالغة، وطبع الإبانة لم يكن من أصلٍ وثيق وفى المقالات يعنِى مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين المنشورة باسمه وقفة اهـ

فبان بما ذُكر أن الأشعرَىّ لم تكن له ثلاث مراحل كما يزعم بعض الناس وأن كتاب الإبانة لا يصلح دليلًا على هذه الدعوَى.  ولا تسمع دعوَى بلا بينة فقد صح فى الحديث عن النبِىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال البينة على المدعِى واليمين على المدعَى عليه وقد قيل

والدعاوى ما لم تقيموا عليها             بينات أبناؤها أدعياءُ

فها هِى ذِى كتب التاريخ والتراجم والطبقات والرجال طافحة بالحديث عن شيخ أهل السنة ومشحونة بشرح منهجه وليس فيها شىء مما ذكر.  قال العلامة الإمام أبو بكر محمد بن الحسن المشهور بابن فورك رحمه الله انتقل الشيخ أبو الحسن علِىّ بن إسماعيل الأشعرِىّ رضِى الله عنه من مذاهب المعتزلة إلى نصرة مذاهب أهل السنة والجماعة بالحجج العقلية وصنف فى ذلك الكتب ... فلما وفق الله الشيخ أبا الحسن لترك ما كان عليه من بدع المعتزلة وهداه إلى ما يسره من نصرة أهل السنة والجماعة، ظهر أمره وانتشرت كتبه بعد الثلاث مائة اهـ

وقال ابن النديم فى ترجمته للإمام الأشعرِىّ كان أولًا معتزليًا ثم تاب من القول بالعدل وخلق القرءان فى المسجد الجامع بالبصرة يوم الجمعة اهـ وقال العلامة ابن خلكان فى ترجمته لأبِى الحسن الأشعرِىّ هو صاحب الأصول والقائم بنصرة مذهب السنة وإليه تنسب الطائفة الأشعرِية وشهرته تغنِى عن الإطالة فى تعريفه. والقاضِى أبو بكر الباقلانِى ناصر مذهبه ومؤيد اعتقاده وكان أبو الحسن الأشعرِىّ أولًا معتزليًا ثم تاب من القول بالعدل وخلق القرءان فى المسجد الجامع بالبصرة يوم الجمعة ورقى كرسيًا ونادَى بأعلَى صوته من عرفنِى فقد عرفنِى ومن لم يعرفنِى فأنا أعرِّفه بنفسِى أنا فلان بن فلان كنت أقول بخلق القرءان وأن الله لا تراه الأبصار وأن أفعال الشر أنا أفعلها وأنا تائب مقلع معتقد للردّ على المعتزلة مخرج لفضائحهم ومعايبهم ... وهو صاحب الكتب فى الرد على الملاحدة وغيرهم من المعتزلة والرافضة والجمهية والخوارج وسائر أصناف المبتدعة.  وقال أبو بكر الصيرفِىّ كانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى أظهر الله الأشعرِىّ فحجرهم فى أقماع السمسم اهـ

وقال العلامة ولى الدين ابن خلدون رحمه الله أثناء حديثة عن نشأة علم الكلام "حدثت بدعة المعتزلة فى تعميم هذا التنزيه فى ءَاىِ السلوب فقضوا بنفِى صفات المعانِى من العلم والقدرة والإرادة والحياة زائدة على أحكامها لما يلزم على ذلك من تعدد القديم بزعمهم وكان ذلك سببًا لانتهاض أهل السنة بالأدلة العقلية على هذه العقائد دفعًا فى صدور هذه البدع وقام بذلك الشيخ أبو الحسن الأشعرِىّ إمام المتكلمين فتوسط بين الطرق ونفَى التشبيه وأثبت الصفات المعنوية وقصر التنزيه على ما قصره عليه السلف وشهدت له الأدلة المخصصة لعمومه فأثبت الصفات الأربع المعنوية والسمع والبصر والكلام القائم بالنفس بطريق العقل والنقل ورد على المبتدعة فى ذلك كله وتكلم معهم فيما مهدوه لهذه البدع من القول بالصلاح والأصلح والتحسين والتقبيح إلى أن قال إلى أن ظهر الشيخ أبو الحسن الأشعرِىّ وناظر بعض مشيختهم فى مسائل الصلاح والأصلح فرفض طريقتهم وكان على رأي عبد الله ابن سعيد بن كلام وأبى العباس القلانسِىّ والحارث بن أسد المحاسبِى من أتباع السلف وعلى طريقة السنة ففند مقالاتهم بالحجج الكلامية وأثبت الصفات القائمة بذات الله تعالى من العلم والقدرة والإرادة التِى يتم بها دليل التمانع وتصح المعجزات للأنبياء إلخ.

فأين المرحلة الثالثة فى هذه النصوص التاريخية؟ وإنَّما للإمام أبِى الحسن الأشعرِىّ طريقتين فى التعامل مع النصوص المُوهِمَةِ للتشبيه

أولاهما التفويض حيث لا مسوغ للتأويل.

ثانيهما التأويل حيث تدعو إليه ضرورة ما. قال العلامة أبو الفتح الشهرستانِىّ (حتى انتهى الزمان إلى عبد الله ابن سعيد الكلابِىّ وأبِى العباس القلانسِىّ والحارث بن أسد المحاسبِىّ وهؤلاء كانوا من جملة السلف إلا أنهم باشروا علم الكلام وأيدوا عقائد السلف بحجج كلامية وبراهين أصولية وصنَّفَ بعضهم ودرس بعض حتى جرَى بين أبِى الحسن الأشعرِىّ وبين أستاذه مناظرة فى مسألة من مسائل الصلاح والأصلح فتخاصما وانحاز الأشعرِىُّ إلى هذه الطائفة فأيد مقالاتهم بمناهج كلامية وصار ذلك مذهبًا لأهل السنة والجماعة. وانتقلت سمة الصفاتية إلى الأشعرية ثم قال وأثبت اليدين والوجه صفاتٍ خبريةً فيقول ورد بذلك السمع فيجب الإقرار به كما ورد وصغوه إلى طريقة السلف من غير تعرض للتأويل أى التفصيلِىّ وله قول أيضًا فى جواز التأويل أى التفصيلِىّ) اهـ وقد تنبهت الدكتورة فوقية حسين إلى هذه المعادلة من خلال دراستها لكتاب الإبانة نفسه فقالت وفى مقابل هؤلاء تَعْنِى المعتزلة محكمة العقل كان هناك المجسمة والمشبهة الذين وقعوا فى شبهة التجسيم ومن هؤلاء الحشوية والكرامية وقامت بينهم وبين المعتزلة مناظرات كثيرة ولقد قاوم السلف هذا الاتجاه أيضًا وحاولوا دحض ءَاراءِ أصحابه بحيث يمكننا أن نقول إن الإمام الأشعرى قد وجد نفسه بعد تحوله من الاعتزال بين نوعين من المغالاة فى العقائد مغلاة المعتزلة ومغالاة الحشوية ومن سار على منوالهم ممن لم يقدر حدود استعمال العقل فى الأمور العقائدية.

والتفويض حيث لا موجب للتأويل والتأويل حيث تدعو الضرورة إلى ذلك هو أيضًا مذهب الإمام أحمد وهو مذهب الأشعرية جميعهم متقدميهم ومتأخريهم على السواء.

وقد قسمت الدكتورة فوقية حسين فى تقديمها للإبانة حياةَ أبى الحسن الأشعرِىّ إلى ثلاثة أطوار وعدّت رجوعه عن الاعتزال إلى وفاته طورًا واحدًا فقالت إن بمقدورنا أن نقسم سيرة أبِى الحسن إلى أطوار ثلاثة الأول من ولادته إلى سن العاشرة، الثانِى من سن العاشرة حتى تحوله عن الاعتزال، الثالث من وقت هذه التحول إلى وفاته إلى أن قالت وهو ذلك الطور الذى يبدأ بتحوله عن الاعتزال إلى عقائد السلف وينتهِى بوفاته وفيه كرّس أبو الحسن نفسه للدفاع عن العقيدة منطلقًا من موقف يماثل موقف السلف وهو عدم الخوض فى الغيبيات وقبولها على ما هِى عليه أى إثبات كل ما ورد فى العقيدة مع الاستعانة بالعقل فى توكيد هذا التثبيت اهـ

ولو سلمنا جدلًا بأن لأبى الحسن الأشعرِىّ أطوارًا ثلاثة كما زعم محب الدين الخطيب وأمثاله فلن يفيد فى نقض المذهب الأشعرِىّ لأن الأشعرية مدرسة متكاملة وضع أصولها وقعد قواعدها ورسم مناهجها عدد من أئمة العلم الفضلاء وجَمٌّ غفير من أهل النظر الثاقب والرأى الصائب من الفقهاء على دربهم سار أبو الحسن الأشعرِىّ وعلى منوالهم نسج ثم خلفه فى نشر مسائلها وشرح قضاياها تلامذته وتلامذة تلامذته وهلمَّ جرًّا فالمذهب الأشعرِىّ قواعدُ وأصولٌ ومعالمُ ومناهجُ سار عليها أبو الحسن الأشعرِىُّ وأبو الحسن الباهلِىّ وابن مجاهد والباقلانِىّ وابن فورك والقاضِى السِّمنانِى والباجِىّ وعياض والدارقطنِىّ والبيهقِىّ والخطيب البغدادِىّ وأبو نعيم الإصبهانِىّ وإمامُ الحرمين والغزالِىّ وابن العربِىّ والرازِىّ وهلمّ جرًّا.  قال ولِىُّ الدين ابن خلدون وكثر أتباع الشيخ أبى الحسن الأشعرِىّ واقتفَى طريقته من بعده تلاميذه كابن مجاهد وغيره وأخذ عنهم القاضِى أبو بكر الباقلانِىّ فتصدّر للإمامة فى طريقتهم وهذبها ووضع المقدمات العقلية التِى تتوقف عليها الأدلة والأنظار اهـ

وقال العلامة الزبيدِىّ إذا أطلق أهل السنة والجماعة فالمراد بهم الأشاعرة والماتريدية وفى كلام عبد الله الميورقِىّ المتقدم ذِكْرُهُ ما نصه أهل السنة من المالكية والشافعية وأكثر الحنفية بلسان أبى الحسن الأشعرِىّ يناضلون وبحجته يحتجون ثم قال ولم يكن أبو الحسن أولَ متكلم بلسان أهل السنة إنما جرَى على سَنَنِ غيرِهِ وعلى نصرة مذهب معروف فزاد المذهب حجة وبيانًا ولم يبتدع مقالةً اخترعها ولا مذهبًا انفرد به ألا ترَى أن مذهب أهل المدينة نُسب إلى مالك ومن كان على مذهب أهل المدينة يقال له مالكِىّ ومالك إنما جرَى على سَنن من كان قبله وكان كثير الاتباع لهم إلا أنّه لما زاد المذهب بيانًا وبسطًا عُزِىَ إليه كذلك أبو الحسن الأشعرِىّ لا فرق.  ليس له فى مذهب السلف أكثر من بسطه وشرحه وتواليفه فى نصرته ثم عَدَّدَ خلقًا من أئمة المالكية كانوا يناضلون عن مذهب الأشعرِىّ ويبدّعون من خالفه قال التاج يعنِى السبكِىَّ المالكيةُ أخصُّ الناس بالأشعرِىّ إذ لا نحفظ مالكيًا غير أشعرِىّ ويُحفظ من غيرهم طوائفُ جنحوا إما إلى اعتزال أو إلى تشبيه وإن كان من جنح إلى هذين من رِعاع الفرق اهـ

والله تعالى أعلم.


[١] المرجع كتاب الأجوبة المحررة على الأسئلة العشرة للشيخ محمد العمراوِىّ.