حكم رمى الصيد بالبندقة المحددة[١]

قبساتٌ من فوائد مفتِى العراق الشيخ عبد الكريم بن محمد المدرس
المتوفى سنة ١٤٢٦ هـ رحمه الله تعالى

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى ءاله صحبه الطيبين الطاهرين وبعد فقد سئل المفتِى عبد الكريم المدرس رحمه الله عن حكم رمى الصيد بالبندقة المحددة الرأس وعن حكم أكله إذا مات بها

فأجاب بقوله مستعينًا بالله أما أصل الرمى بها فحرام لغيرِ رامٍ حاذقٍ يظن اعتمادًا على حذاقته فى الرمى إصابة بندقته نحو رجله أو جناحه بحيث يثبت ولا يموت سريعًا. قال الشيخ ابن حجر فى التحفة أما البندقة المعتادة الآن وهو ما يصنع من الحديد ويُرْمَى بالنار فيحرم مطلقًا لأنه محرق مزهق سريعًا غالبًا ولو فِى الكبير. نعم إن علم حاذق أنه إنما يصيب نحو جناح كبير فيثبته فقط لم يبعد الحل انتهى.   

وأما أكل لحمها فيما إذا ماتت قبل الوصول إليه وذبحه ذبحًا شرعيًا فحرام لأن شرط ءالة الذبح أن تكون محددة جارحة تقتل بجرحها لا بثقلها فقط ولا بالجرح والثقل معًا كما فى التحفة فى فصل شروط ءالة الذبح ونصها فلو قتل بمديةٍ كالَّةٍ أو مثقل أو ثقل محدد كبندقة وسوط وسهم بلا نصل ولا حد أمثلة للأول، ومن أمثلة الثانى القتل بثقل سهم له نصل أو حد أو قَتَلَ بسهم وبندقةٍ أو جَرَحَهُ سهم وأثر فيه عُرْضُ السهم بضم العين أى جانبه فى مروره ومات بهما أى الجرح والتأثير أو انخنق بأحبولة وهى حبال تشدّ للصيد ومات أو أصابه سهم جرحه أو لا فوقع بأرض عالية كسطح أو جبل ثم سقط منه فيهما ومات حرم فى الكل لقوله تعالى (والمنخنقة والموقوذة) أى المقتولة بنحو حجر أو ضرب بعصًا ولأنه فى الأربعة الأول مات بلا جرح وفى ما عداها إلا الخنق لا يدرِى الموت مِنَ الأولِ المبيحِ أو من الثانى المُحرِّمِ فغلب المحرم انتهى. إذ من المعلوم أن قتل البندقة المذكورة للصيد ليس بحدتها والقوة الاعتيادية بل بالقوة الشديدة ولاندفاع الحاصلين من النار وضيق مخرجها كيف لا وما عدا رأس البندقة ليس محددًا ونفوذها فى بدن الصيد ليس بالقوة الاعتيادية فغاية الأمر أنها كالسكين الكالِّ القاطع للحلقوم بالتحامل والقتلُ الحاصل منه بثقلِ المحدَّدِ كما فى المغنى ونصه ومنه أى من القتل بثقل محدد السكين الكال إذا ذبح بالتحامل عليه انتهى.

وفِى حاشية الجمل قوله مثل مدية كالة عبارة الزركشى إذا ذبحت بالتحامل الخارج عن المعتاد لم يحل لأن القطع حصل بقوته لا بها انتهى.

ثم إنه يشترط للحل أن يتمحض الجرح فى الإزهاق كما أفاده فى فتح الجواد بقوله وكذلك يحصل بمحض جرحه جرحًا مزهقًا ومعنى تمحضه فيه كما قالوا أن لا يقارنه ولا يعقبه سبب آخر وإلا فهو من باب اجتماع المحرم والمبيح والمقرر فيه هو تغليب المحرم كما نص عليه.

ومن جملة النصوص قول الشيخ ابن حجر فى فتح الجواد فخرج [بمحضِ] ما لو شارك نحو مجوسىٌّ مسلمًا ولو فى نحو إرسال كلب فلا يحل تغليبا للحرمة إلى أن قال وبقطع ما مات بثقل ما أصابه من محدد وغيره كبندقة وصدمة حجر وجانب سهم وإن انهر الدم وأبان الرأس انتهى.

وقال القاضى فى شرح المنهج فلو قتل بثقل غير جارحة من مثقل كبندقة ومن محدد مثل مدية كالة أو قتل بمثقل وحدد كبندقة وسهم وكسهم جرح صيدًا فوقع بجبل أو نحوه ثم سقط منه ومات حرم تغليبا للمحرم انتهى.

وفى شرح المحلى على المنهاج أو قتل بسهم وبندقة أو جرحه نصل وأثر فيه عرض السهم فى مروره ومات بهما أو أصابه سهم فوقع بأرض خالية أو جبل ثم سقط منه فى المسألتين ومات حرم فى المسائل كلها إلى أن قال وفى السقوطين لا يدرى الموت بالأول أو بالثانى وكذا فى مسألتى سهم وبندقة وجرح وتأثير فغلب الثاني المحرم فى الثلاث انتهى.

وقال فى الأنوار فى أواخر الذبائح ولو رمى إلى طير فى الهواء وأزال منعته ثم رمى إليه هو أو غيره سهما ءاخر فى الهواء فمات منهما حرم انتهى. ووجه الحرمة أنه جاءت عقب آلة الجرح الذي اشترط أن يكون مزهقا آلة أخرى فاجتمع هناك مبيح هو أن يكون كل من الجرحين مزهقا بخصوصه ومحرم وهو أن يكون الإزهاق من المجموع فغلب المحرم ولا يخفى أن كل ذلك دليل واضح على أن المقتول بالبندقة لو فرضت محددة حرام لاجتماع المبيح أعنى الجرح المزهق بناء على كونها جارحة جرحًا مزهقًا والمحرم وهو التذفيف الحاصل من الدفع والثقل الحاصلين من القوة النارية فيغلب المحرم على المبيح ويحرم أكل الصيد الذى مات بدون الوصول إليه وذبحه شرعيًّا.

لا يقال إن البندقة المحددة الرأس المرمية بقوة النار كالسهم المرمِى بقوة الوتر والقوس والرامِى فكما حل الصيد المصاب به الميت فليحلّ المصاب بهذه لأنا نقول قوة السهم الحاصلة منها لا تزيد فى الإزهاق والتذفيف على قوة الضرب والطعن الاعتيادى بذلك السهم على جسد الصيد بخلاف قوة النار المرمِى بها بالبندقة فإنها تزيد على قوة الضرب الاعتيادى من شخص بها على جسد الصيد لمراتب. فإنا لو ربطنا البندقة وغلافها المسمى بالكردى (فيشه ك) بنحو خشب وطعنا بها جسد نحو كلب عقور وأنفذناها منه فما لا يشك فيه عاقل أنه وإن تألم وتأثر بها شديدًا ومات فى المستقبل لكنه لا يموت فورًا بل يبقى حيا متألما يومين أو يومًا أو ساعة على الأقل وأما إذا رميناه بالبندقية على الوجه المتعارف وأصبنا عين المحل الذى أصبناه من نحو الكلب وجدناه يموت بأسرع وقت فلا يبقى ريب أن هذا التذفيف إنما هو من القوة النارية لا غير فاجتمع المحرم والمبيح والحكم للأول.

هذا ما كتبناه فى الجواب على مذهبنا معاشر الشافعية وأما على مذهب الحنفية فلا مجال للفتوى بحله أيضًا لأن من شروط حل الصيد المرمِىّ إليه أن تكون الآلة جارحة مؤثرة بحدتها لا بثقلها وأن لا يتوارى الصيد المصاب عن بصر الرامِى حتى لا يكون احتمال حدوث سبب ءاخر لموته ولا يقعد عن طلبه ولو توارى عنه لأن المتوارِى مع تعقيبه عادة حلال وأن تقل مدة طلبه عن يوم كما نصّ عليه فى درّ المختار بقوله وشرط لحله بالرمى التسمية ولو حكمًا كما مرّ وشرط الجرح ليتحقق معنى الذكاة فيه وشرط أن لا يقعد عن طلبه لو غاب الصيد متحاملًا بسهم فما دام فى طلبه يحل وإن قعد عن طلبه ثم أصابه ميتًا لا لاحتمال موته بسبب ءاخر انتهى. وقال بعد ذلك أو قتله معارض بعرضه أو بندقة ثقيلة ذات حدة بالثقل لا بالحدة أو رمى صيدًا فوقع فى ماء أو وقع على سطح أو جبل فتردى منه إلى الأرض حرم فى المسائل كلها.

وفى رد المحتار لابن عابدين ما نصه وفى البدائع ومنها أن يلحقه قبل التوارى عن بصره أو قبل انقطاع الطلب فإن توارى عنه وقعد عن الطلب لم يؤكل إلى أن قال تنبيه فى ما ذكر إشعار بأن مدة الطلب غير مقدرة وقد قال أبو حنيفة رضى الله عنه أنها مقدرة بنصف يوم أو ليلة فإن طلبه أكثر منه لم يؤكل وفى الزيادات إن طلبه أقل من يوم أكل انتهى. وفيه أيضًا بعد ذلك بصفحتين تقريبًا ما نصه وفى التبيين والأصل أن الموت إذا حصل بالجرح بيقين حل وإن حصل بالثقل أو شك فيه فلا يحل حتمًا أو احتياطًا ولا يخفى أن الجرح بالرصاص إنما هو بالإحراق والثقل بواسطة اندفاعه العنيف إذ ليس له حد فلا يحل وبه أفتى ابن نجيم انتهى. وقوله ليس له حد أى حد يجرح الصيد وينهر دمه بدون التحامل وقوة النار وهو ظاهر.

فإذا لاحظت ما نقلناه من عباراتهم علمت أن الصيد المسؤول عنه لا يحل أكله على مذهبهم أيضًا.

هذا ما وجدناه دليلًا على حرمة الاصطياد بالبندقة المعروفة وحرمة أكل لحم الصيد المقتول بها بدون ذبح شرعى فى حال وجود الحياة المستقرة فيه بقطع النظر عن عدم تحقق سائر شروط الحل لِمَا لَمْ يُذبح كالمشى وراءه بعد الرمى فورًا وعدم غيبوبته عن نظر الرامِى والله أعلم بالصواب. انتهى.


[١]المرجع كتاب الفتاوى العراقية المعروفة بجواهر الفتاوى للشيخ عبد الكريم بن محمد المدرس رحمه الله تعالى.