﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ﴾

تذكيرٌ [١]

من الشيخِ الدكتور عبدِ اللهِ عبدِ الباسطِ الرفاعىِّ

بالنسبةِ لِمَرضِ الكُورُونا وحُكمِ إغلاقِ المساجدِ ومنعِ الجماعاتِ والجُمَعِ وتجهيزِ المَوتَى وصيامِ رمضانَ والحجِّ

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ وصلى اللهُ وسلَمَ على سيدِ الـمُرسلينَ وعلى ءالِهِ وصَحْبِهِ الطبين الطاهرين.

أما بعدُ فقد وقع تحت نظرِى عدةُ منشوراتٍ فيها كلامٌ جَرَى قائلوه على خلافِ السَّنَنِ المستقيمِ يتعلقُ بمرض الكُورونا وما ينبغِى أن يُفعلَ فِى خلال انتشارِهِ بالنسبة للجماعاتِ والجُمَعِ وغسلِ المَوْتَى والصلاةِ عليهم ودفنِهم وصيامِ رمضانَ وحجِّ البيت وغيرِ ذلك فأردتُ أن أُبيّنَ الحكمَ الشرعِىَّ إظهارًا للحقِّ وردًّا للباطلِ وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكرِ وحمايةً لعوامِّ المسلمين منَ التشويش.

فأما المسألةُ الأُولى وهِىَ أمرُ الجماعةِ والجُمَعِ فقد رأيتُ فِى ذلك عدةَ منشوراتٍ صادرةً عن موظفينَ مختلفينَ فِى ما يُسَمَّىَ مجالسِ العلماء أو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية أوِ الاتحادَ العالمىَّ للعلماءِ وما يشابهُها قيلَ فيها إنَّ الجُمَعَ والجماعاتِ تسقطُ عنِ المسلِمِ فِى حالةِ وجودِ مرضِ الكورونا فِى البلد، ومَهَّدَ بعضُهُم لذلك بادِّعاءِ وجوبِ الحجرِ الصحىِّ على من أُصيب بالأمراضِ المُعْديةِ واحتجوا لذلك بحديث مسلمٍ أنّه كان فى وَفْدِ ثقيفٍ رجلٌ مجذومٌ فأرسل إليه النبِىُّ صلى الله عليه وسلم إنا قد بايعناك فارجعْ اهـ قُلتُ احتجاجُهُم بهذا الحديثِ غيرُ قائمٍ فلو كان الحَجْرُ واجبًا عليه فكيف جاءَ إلى المدينة ولِـمَ لمْ يُنَبِّهْهُ الرسول صلى الله عليه وسلم على وجوبِ ذلك ولزومِ البيتِ وهو لا يسكتُ عن منكر!!!

واحتجوا بحديث أبِى هريرةَ عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم لا يُورَدَنَّ ممرِضٌ على مُصِحٍ اهـ قُلنا وكأنهم لم يفهموا معنَى الحديثِ وأنه فِى البهائمِ فأوردوهُ للاحتجاجِ على الحَجْرِ على البشرِ، وعلى كلِّ حالٍ لو كان الواجبُ الحجرَ على البهائم المريضة لَمَنَعَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم خروجها ولَمَا أرشد فقط إلى عدمِ إيرادها على الصحيحة !!!

واحتَجُّوا بقولِ النبىِّ عليه الصلاة والسلام لا عدوَى ولا طِيَرَةَ ولا هامَةَ ولا صَفَر وفِرَّ مِنَ المجذوم كما تفرُّ من الأسد اهـ قُلنا هذا الاحتجاج أيضًا غيرُ قائمٍ فإنَّ النبىَّ عليه الصلاة والسلام بدأ الحديثَ بنفْىِ العدوَى ثم أرشد إلى الفِرار من المجذومِ، ولو كان المجذومُ محجورًا عليه فلماذا يفِرُّ منه الإنسان وكيفَ يَفِرُّ ؟!!

واحتجوا أيضًا بحديثِ إذا سمعتم به أىْ بالطاعون بأرضٍ فلا تَقدَمُوا عليه وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه اهـ قُلنا احتجاجُهُم أيضًا بهذا الحديثِ ساقطٌ فإنَّ طلَبَ عدمِ الخروج واقعٌ على مَن يخرُج فرارًا منه وأما مَن يخرج لغير فِرارٍ منه فليس ممنوعًا من ذلك كما يدلُّ عليه الحديث فأين الحجةُ فيه على وجوب الحجر كما قالوا ؟!!

ثمَّ هذا الحديثُ ليس واردًا فيمن أُصيب بالطاعون بل فيمن سمع به ولم يُصَبْ به فما معنَى احتجاجِهم به لإيجابِ الحَجْرِ على المُصابِ !!!

ومثلُهُ الحديثُ الذِى أوردُوه بعدَهُ وفيه [ليس مِن أحدٍ يقع الطاعون فيمكث فى بلده صابرًا محتسبًا يعلمُ أنه لا يصيبه إلا ما كتبَ الله له إلا كان له مثلُ أجرِ شهيدٍ] اهـ قلنا ليس فِى هذا الحديثِ إلا أنَّ مَن كانَ فِى البلد الذِى نزل به الطاعون فصبَرَ واحتسبَ يكون له أجرُ شهيدٍ ولم يُذْكَرْ فِى هذا الحديثِ شَىْءٌ عن وجوب الحَجْرِ بل ليس فيه إلا الحثُّ على الصَّبرِ والوعدُ بالأجر لمن صَبَر .

هذا وعلماءُ الأمةِ لم يُقصِّروا فِى بيان معانِى الأحاديثِ السابقةِ على وجهها من غير تحريفٍ ومَن أراد الاطلاعَ على ذلك فدونَهُ المنتقَى شرح الموطإ للباجِىِّ والإلمامِ لابن دقيق العيد وشرح مسلمٍ للقرطبِىِّ وفتح البارِى للحافظِ ابنِ حجرٍ وغيرها من مصنَّفاتِ الأعلامِ يجدْ فيها بُغيَتَهُ.

ولكنَّ أعضاءَ هذا المجلسِ لم يلتفتُوا إلى كلامهم بل أرادوا أن يتشبَّهُوا بالأئمة الأربعة وغيرِهِم مِنَ المجتهدين فيستنبطوا الأحكام بزعمهم مباشرةً مِنَ الكتاب والسنة وهم خَالُون عن صفاتِ المجتهدين الذين يجوز لهم الاستنباط وليس عندهم أدواتُهُ، فقد ذكَرَ ما لا يُحصَى مِنَ العلماء أنَّ الذِى يجوز له الاستنباطُ مِنَ الكتاب والسُنة لابد أن يكون حافظًا لآياتِ الأحكامِ فِى كتاب الله عارفًا بمعانيها وعارفًا بما قاله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فِى تفسيرها وبما قاله الصحابةُ والتابعون فِى ذلك، وحافظًا لأحاديثِ الأحكامِ كلِّها عارفًا بأسانيدِها وبرجال الأسانيد قادرًا على أن يَحكُمَ عليها بالصحةِ أو الحُسْنِ أو الضعفِ استقلالًا عارفًا بمعانيها، ولا بدَّ أن يُمَيِّزَ العامَّ منَ الخاصِّ فِى الكتابِ والسنةِ والمطلق مِنَ المقيد والمُجمَل من المُبَيَّنِ، وأن يكون متينًا فِى علوم العربية نحوًا وصرفًا وبلاغةً وغيرَ ذلكَ عارفًا بمعانِى مفرداتِ وتراكيبِ كلامِ العرب على الوجه الذِى كانوا يتكلمون به فِى زمن النبىِّ صلى الله عليه وسلم، وأن يكونَ فوق ذلك محيطًا بمواقع الخِلافِ ومواقعِ الاجماعِ بين المجتهدين قبلَهُ، وأن يكونَ قوىَّ القريحةِ وقَّادَ الذكاءِ.

وأينَ يُوجَدُ عُشرُ معشارِ هذه الصفاتِ فِى أعضاء هذهِ المجالس ؟!!

فيا لَيْتَهُمْ اكتفَوْا بالنقل عن أئمة الاجتهاد دون يَدَّعُوا مرتبةً ليسوا أهلًا لها والأمرُ كما قال الإمامُ الشافعِىُّ رضِىَ الله عنه من سامَ نفسَهُ فوق قَدْرِهِ ردَّهُ الله إلى قدره اهـ

ثمَّ زعموا أنَّ الجُمَعَ والجماعاتِ تسقطُ عنِ المسلم فِى مثلِ هذه الحالاتِ لأنه قد تقرَّرَ فِى كتب الفقهِ أخذًا منَ الأحاديثِ النبويةِ الشريفةِ أنَّ مِن أعذارِ الجماعةِ الخوفَ على النفس والأهل والمال اهـ قُلنا صحيحٌ أنَّ الفُقهاء ذكروا أنَّ مِن أعذار ترك الجُمعة والجماعة الخوفَ على النفس أو الأهل أو المال وكذلك المرض لكِنَّ الذى ذكروه أنَّ الإنسان إذا كان مريضًا هو نفسُهُ مرضًا يمنعُهُ مِنَ الذهاب إلى الجمعة جاز له تَرْكُهُما وكذلك إذا كان هناكَ عدوٌّ موجودٌ يُؤذيه فِى أهله إذا ذهب إلى المسجد أو يُؤذيه فِى ماله أو يُؤذيه فِى بدنه فعند ذلك يُعذَرُ بتركِهِما ولم يقولوا إنَّ الإنسان إذا توهَّمَ أنه يمرض أو كان عنده احتمالٌ أنه يصيبُهُ المرضُ بالذهاب إلى المسجد يجوز له أن لا يذهبَ فدلَّسَ هؤلاءِ ولَبَّسُوا لِيُوهموا الناسَ أنَّ الفقهاء يقولون كقولهم وهيهاتَ هيهاتَ فإنَّ الله تعالى لم يجعلْ خوفَ الموت والقتل بابًا لترك الجماعة، بل شرعَ سبحانه الجماعة فِى حال صلاة الخوفِ بل وحتى فى التحام الحرب واشتداد القتال فكيف تسقطُ بمجرد وهمٍ ؟!! وكيف تسقُطُ الجمعةُ لمجرد خيالٍ ؟!! كيفَ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داودَ والترمذِىُّ مَن تركَ ثلاث جُمَعٍ تهاونًا بها طبع الله على قلبه اهـ

وادَّعَى هؤلاءِ أنهم ءَاخِذُونَ بقاعدة كون حفظ النفسِ من كُليات الشريعة اهـ قُلنا معنَى هذه القاعدة أنْ لا يفعلَ الإنسانُ فعلًا يُهلِكُ به نفسَهُ، وأداءُ الصلاة فِى الجماعةِ معَ مُجرَدِ توهُّمِ أن يكون بين المصلين مُصابٌ بالكُورونا ليس فيه أدنَى إلقاءٍ للنفس فِى التهلُكة فإننا لو مشينا على هذه الطريقة لأقفلنا مساجدنا أيضًا لِتَوَهُّمِ إنسانٍ يُريدُ أن يطلق الرصاص على المُصلين أو يريدُ أن يزرعَ مُتفجرة فيما بينهم كما حَدَثَ تكرارًا.

بل لو خالَطَ الشخصُ عمدًا المُصاب بالمرض توكُّلًا على الله واعتمادًا عليه لَمَا كان ملقيًا للنفس إلى التهلكه فقد روَى الترمذىُّ وغيره عنِ ابنِ بُرَيدة أنَّ عمر بن الخطاب أخذ بيد مجذومٍ فأدخلها معه فِى القصعة ثم قال كُلْ باسم الله ثقة بالله وتوكلًا عليه اهـ فعلى قول أعضاء هذا المجلس يكون عمرُ بن الخطاب أقلَّ علمًا منهم بدين الله وأقلَّ معرفةً بقواعدِ الشريعة !!!

كيفَ وقد روَى الطبرىُّ أنَّ عائشة رضى الله عنها كان لها مولًى أصابه الجُذام فكان يأكل فِى صحافِها ويشرب فى أقداحها وينام على الفراش الذِى هو ملكٌ لها فهل يزعمون أنهم أعلمُ من عائشةَ بقواعد الشرع ومعانيها ؟!!

كيفَ وقد كان غيرُهما من الصحابة يخالطون المجذومينَ ويأكلون معهم وكان عمرُ رضى الله عنه رُبما وضع فمه على الموضع نفسه الذى وضع المجذوم فَمَهُ عليه من الإناء.

وقد وقع الطاعون فِى أيام عمر بن الخطاب فِى البصرة وفِى الشام فلم يُغلِقِ الصحابةُ المساجد ولا قالوا للناس يجبُ عليكم الحَجْرُ ولا قالوا لهم تسقط عنكم الجُمع بل ولم يخطُر لهم ذلك مجردَ خطورٍ وإنما أقاموا الجماعات والجُمَعَ فكان هذا إجماعًا منهم لا يُقام لمخالفته وزنٌ.

وما رُوِىَ مِن أنّ الناس تفرقوا فِى رؤوس الجبال هربًا من الطاعون فِى أيام عمر فانقطع الطاعون بذلك مخالفٌ لما ثبت مِنَ النَّهْىِ عن الخروج من البلد الذى وقع فيه وهو مَرْوِىٌّ بإسنادٍ فيه راوٍ مُتَكَلَّمٌ فيه وءَاخَرُ مجهولٌ فهو ضعيفٌ لا يُستندُ إلى مثله ولا يحتجُ به.

هذا مع عِظَمِ الفارِقِ بين الطاعون وفتكِهِ وبين هذا الكورونا الذِى لا يبلغُ عددُ الذين يموتون بسببه عددَ الذين يموتون بسبب الأنْفِلْوَنْزا العادية.

وقد كان فِى المدينة فِى أولِ الهجرةِ وباءٌ يُصيبُ مَن يدخلُها كما روَى الإمامُ أحمدُ عن أنسٍ قال قدمَ النَّبِىُّ المدينةَ وهِىَ مُحِمَّةٌ فحُمَّ الناسُ فدخلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم المسجدَ والناسُ يُصَلُّونَ مِن قُعودٍ فقال صلاة القاعد نصفُ صلاةِ القائم اهـ وظاهرٌ مِن هذا الحديثِ وغيرِهِ أنَّ هذا الوباءَ كان أشدَّ مِنَ الكُورُونا فلم يُغْلِقْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المساجدَ ولا مَنَعَ إقامةَ الجماعاتِ فيها وإنَّما دعا اللهَ تعالى أن يَنْقُلَهُ مِنَ المدينةِ إلى بلدةِ الجُحفة فاستجابَ اللهُ دعاءَهُ وحصلَ ما طلبَهُ معجزةً له عليه الصلاةُ والسلامُ، فهلْ يزعُمُ أهلُ هذا المجلسِ أنهم أعرفُ بقواعدِ الدينِ مِن خيرِ نبِىٍّ وأفضلِ رسولٍ صلى اللهُ عليه وسلم ؟!!!

وكذلك يتلخَّصُ مِن كلامِ فقهاءِ المذاهبِ الأربعةِ أنَّ المجذومينَ لا يُمنعونَ مِن حضورِ الجمعةِ والجماعة إذا لم يفحُشْ مرضُهُم وكذا إذا فحُشَ فصدرتْ منه رائحةٌ كريهةٌ طالما يُمكن منعُ تأذِّى الناسِ منها بنحوِ وقوفِهِ خلفهم مثلًا، وبناءً عليه قال الحافظُ ابنُ حجر فِى الفتحِ إنَّ المجذومَ لا يُمنع مِن شُهود الجمعة بالإجماعِ اهـ فلا يُقفل المسجدُ ولا تُمنعُ الجماعةُ ولا تُعطَّلُ الجمعةُ ولو مع تَحَقُّقِ وجود المجذوم فِى المكان، والجذامُ كما هو معروفٌ أشدُّ مِنَ الكُورونا بمراحلَ كثيرةٍ جدًا.

ومِن أغرب ما جاء فِى بيان هذا المجلس أنهم استندوا فيما ابتدعوهُ إلى فتاوَى موظفين أعضاءِ مجالسَ مِن أمثالِهِم فى دولٍ أُخرى معروفين بأكلِ الدنيا وأخذ الرِّشوة والسكوتِ عن الباطل منَ الموسيقى المحرمة والغناء الخَلِيع والرقص بالتثنِّى والتَّكَسُّر وأكلِ المَكسِ وأكل الرِبا وبيع الخمر وبيع لحم الخنزير وصرفِ الزكاةِ فِى غيرِ مصارفها بل إنَّ منهم مَن يُفتى بجواز ذلك كما هو معروفٌ للقاصِى والدَّانِى فكيف يكون هؤلاء سندًا ومرجعًا ؟!!!

وعلى الرغم مِمَّا مرَّ على المسلمين فِى العصور الماضية مِن أوبئةٍ مات فيها الملايين وعلى الرغم مِن تَكَرُّرِ ذلك مرةً بعد مرةٍ عبرَ العصورِ وكان ءَاخِرُها شيوعُ مرض الكوليرا منذ أقلَّ من أربعين سنة لم يَقُلْ إمامٌ واحد مجتهد بسقوط الجماعات والجُمع عنِ الناس بل ولم يقل عالم واحدٌ معتبرٌ بذلك فمن أين جاء هؤلاء بِفَتْوَاهم ؟!! لا هُم أهلٌ للاجتهاد ليستنبطوا ولا نقلوا ذلك عن إمامٍ قالَهُ قبلهم، فلم يبقَ إلا أن يكونوا اتَّبعوا محضَ الرأىِ وسابقُوا إلى نيلِ مرضاةِ جهاتٍ لا تَخْفَى !!!

وقد قدَّرَ أهلُ الاختصاصِ أنَّ نسبةَ الذينَ يُتَوَفَّونَ بهذا المرضِ نحوُ ستةٍ من كلِّ ألفٍ يُصابونَ به (٦٣, . %) مع كونِ قسمٍ منهم يموتُ بسببِ الإهمالِ المتَعَمَّدِ لكونهم مُسِنِّينَ كما تسمعونَ ونسمعُ فِى مختلفِ شبكاتِ الأخبارِ ، قالوا ويُقدَّرُ عددُ المُتَوَفَّينِ بالكُورونا منذُ بدءِ انتشارِهِ من ستةِ أشهرٍ إلى الآنَ بنحوِ خمسةٍ وخمسينَ ألفًا بينما يموتُ بسببِ الأنفلوَنْزا والرشح العاديَّيْنِ كلَّ سنةٍ نصفُ مليونٍ فِى الأرضِ، ويموتُ فِى الأرضِ بحسبِ إحصاءاتِ منظمةِ الصحةِ الدَّوليةِ كلَّ سنةٍ بالأمراضِ التِى يَعُدُّونها مُعْدِيَةً نحوُ مليونِ وربعِ مليونِ مريضٍ بالسِّلِّ، ومليونٍ وربع مليونٍ بالإيدز، ومليونٍ ونصفٍ بالكوليرا وما شابهها، وما يزيدُ عن ستِمِائةِ ألفٍ بالملاريا وما شابهَها إلخ ... فهل أغلقَ أهلُ العلمِ مساجدَنا وألزموا الناسَ البيوتَ بسببِ ذلك ؟!! فإن لم يفعلُوا فما الذِى تغيَّرَ لتظهرَ فجأةً دعواتُ الإغلاقِ هذه وبسببِ مرضٍ أخفُّ بكثيرٍ مِن أمراضٍ كثيرةٍ أخرَى ؟!! وما هو الأمرُ المَخْفِىُّ فِى هذا الذِى يجرِى ؟!!

والخلاصةُ أنَّ اللهَ تعالى قد أمرَ بإقامة صلاة الجمعة نصًّا فِى القُرءَان فقال ﴿يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَاةِ مِن يَّوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ فثبتَ وجوبُ الجمعةِ علينا بيقينٍ ولم يجز ترك العمل بذلك إلا بدليلٍ يدل على ذلك ولن يجِد هؤلاء وأمثالهم لا فِى القرءَانِ ولا فِى السُّنة ولا فِى أقوال مجتهدٍ مِن المجتهدين ارتفاعَ وجوبِ فرض الجمعة بشيوعِ مرضٍ أو انتشارِ وباءٍ.

ولم يكتفِ هٰؤلاء بالصلوات بل وسّعوا دائرة الفتوى بغير علم إلى المُصافحة فزعموا أنّ المصافحة محرمةٌ لأنَّ جلبَ الضرر فيها مُتَيَّقَنٌ !!!! قُلنا كلامهم هذا يَدُلُّ على تسرعهم وقِلَّةِ وَرَعِهِم وعلى أنَّ الخوفَ قد عطَّلَ عقولَهم حتَّى صارُوا يتخيَّلُونَ المرضَ عدوًّا متربِّصًا بهم منتظرًا خلفَ كلِّ حجرٍ وفوق سطحِ كلِّ بيتٍ ووراءَ كلِّ عمودٍ وتحت ظلِّ كلِّ شجرةٍ وعند كلِّ زاويةٍ مع أنَّ السُّلطاتِ تلزمُ الناسَ بالكماماتِ والقُفَّازاتِ والغسلِ والمسحِ وغيرِ ذلك ومع أنه صار ظاهرًا معروفًا بل متواترًا بين الناس أنَّ نصفَ الذين يُصابون بهذا المرض أو أكثر لا يَشعرون بأعراضِهِ وأنّ أغلبَ البقيةِ لا يشعرون معه إلا بِنحوِ زُكامٍ خفيفٍ والبقيةَ النادرةَ تشتدُّ أعراضهم ومع ذلك يُشْفَى أغلبهم إلا نُدرةً نادرةً يُتَوَفَّوْنَ فأينَ الضَّررُ المتيَقَّنُ الذِى يزعُمُونَهُ ؟!!! سبحانك اللهم هذا بُهتانٌ عظيمٌ !!

فهذا فيما أُرَى كافٍ فِى الردِّ على أعضاء هذا المجلس وأمثالهم ممن تكلم فِى هذه المسائل بغير علمٍ لا سيما مع ملاحظةِ ما سبقَ أنْ كتبناهُ فِى هذا الأمرِ .

وتكلَّمَ إخوانُ هؤلاءِ فِى مسئلةٍ أُخرَى فمنعُوا مِن تغسيلِ مَن أُصيب بهذا المرضِ وماتَ به ومنعُوا من الصلاة عليه إلا بعد دفنه اهـ قلنا هذا أيضًا مِنَ الأعاجيب الدَّالَّةِ على قِلَّةِ العلم وقلَّةِ التقوَى ومُخالفة هَدْىِ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روَى ابنُ أبِى شيبة وابنُ المنذر فِى الأوسط عن عمرو بن مهاجر أنه قال صليتُ مع واثلة رضِىَ الله عنه على ستين جِنازةً من الطاعون رجالٍ ونساءٍ فكبَّر أربع تكبيرات وسلَّم تسليمةً اهـ فلم يتركِ الصحابةُ والتابعون غسلَ هؤلاء المَوْتى ولا تكفينَهم ولا الاجتماعَ للصلاة عليهم ولا دفنَهُم، ولذلك نصَّ فقهاءُ المذاهبِ الأربعةِ الحنفيةُ والمالكيةُ والشافعيةُ والحنابلةُ فِى كتبهم المعروفة على أنه يجب غسلُ مَن ماتَ بالطاعون، ولا يخفَى أنّ الطاعونَ أشدُّ فتكًا مِن هذا الكورونا بكثيرٍ كثيرٍ كثيرٍ.

ولو كان عند هٰؤلاءِ المُفْتِين بسقوطِ الغُسل أدنَى وَرَعٍ لقالوا يلبس الغاسلُ الثوب الذِى يَقِى منِ انتقال المرض بزعمهم إذا شاءَ ويغسلُ الميت وذلك كما قالوا إنَّه يلبَسُهُ إذا أراد مُداواةَ المَرْضَى أو أطعامَهم أو غيرَ ذلك مِن خِدمتهم مع أنَّ غسل الميت فرضٌ على الكفاية وأما التَّداوِى فهو سنةٌ غيرُ فرضٍ.

وأما ما ذكرَهُ بعضُ المُتَنَطِّعِينَ مِن أنّهُ يجوزُ الفِطْرُ ليشربَ الإنسانُ كلَّ مدةٍ قصيرةٍ الماءَ حتَّى يَقِىَ نفسَهُ مِنَ الإصابة بالكُورونا ويمنعَ اجتماعَ المرضِ بزعمِهِ فِى حلقِهِ فهوَ مِنَ الهَذَيانِ المُضحِكِ المُبكِى الذِى لا أصلَ له فِى الطِّبِّ ولم يُسمَعْ بمثله مِن قبلُ فإننا قد عرفنا فِى دين اللهِ أنَّ الصائم يُعذَرُ بالفِطْرِ إذا ما مرِضَ مرضًا يشُقُّ عليه معه الصيامُ أو يزدادُ بسبب الصيام فيسبِّبُ فَقْدَ عُضْوٍ مِن أعضائِهِ أو هَلَكَتَهُ أو نحوَ ذلك، وأمّا أن يُعْذَرَ بالفِطْرِ لأنه يتوهم أنّه قد يمرضُ إذا صام فهذا مِمَّا لم يأتِ فِى كتابٍ ولا سُنَّةٍ ولا إجماعٍ ولا فتوَى مجتهدٍ، ومَن قال به فقد استدرك على اللهِ ورسولِهِ وكَفَى ذلك فسادًا !!!

وأما الشائعاتُ التِى بدأتْ تُتداول عن منعِ الحجِّ إلى بيت الله تعالى فِى هذا العام فأكتفِى فيه بما اتفقَ عليه علماءُ مِصر حين كان العلماءُ علماءَ حقًا فقد جاء فِى العدد الثلاثين مِنَ المجلد الثانى فِى مجلة المنار أنَّ كبارَ علماءِ مصرَ سُئِلُوا سنةَ ستَّ عشرةَ وثلاثمائة بعد الألف (١٣١٦هـ) عن حُكمِ منعِ الحجِّ مِن مصرَ لوجودِ وباءٍ فِى الحجازِ واجتمعَ معهم مجلسُ النُّظار - وهو كمجلس الوزراء فِى أيامِنا - اجتماعًا خصوصيًّا وشرحوا لهمُ الحالَ وكانوا قاضىَ مصرَ وشيخَ الجامعِ الأزهرِ ومفتِىَ الديارِ المصريةِ والشيخَ عبدَ الرحمن النواوىَّ مفتِىَ الحقانية والشيخَ عبدَ القادرِ الرافعىَّ رئيسَ المجلسِ العلمىِّ سابقًا وبعد أنِ انفضُّوا مِنَ المجلسِ اجتمعَ العلماءُ وأجمعُوا على كتابةِ هذه الفتوَى وإرسالِهَا إلى مجلس النُّظار وهِىَ بحروفها بعد الافتتاحِ [لم يذكرْ أحدٌ منَ الأئمة مِن شرائطِ وجوبِ أداءِ الحجِّ عدمَ وجودِ المرض العام فِى البلاد الحجازية فوجودُ شىْءٍ منه فيها لا يمنعُ وجوبَ أدائه على المستطيع وعلى ذلك لا يجوزُ المنعُ لِمَنْ أراد الخروجَ للحجِّ مع وجود هذا المرض متى كان مستطيعًا. وأما النَّهْىُ عنِ الإقدامِ على الأرض المَوْبُوءةِ الواردُ فِى الحديثِ فمحمولٌ على ما إذا لم يعارضْهُ أقوَى كأداءِ الفريضة كما يُستفاد ذلك مِن كلام علمائنا. وأيضًا فإنَّ النَّهْىَ عن الدخول والخروج تابعٌ لاعتقادِ الشخصِ الذِى يريدُ الدخولَ أوِ الخروجَ كما يُفيدُهُ ما فِى تنوير الأبصار متنِ الدُّرِّ المختار حيث قالَ وإذا خرج مِن بلدة بها الطاعون وهو الوباءُ العامُّ فإن عَلِمَ - أىْ اعتقدَ بثباتٍ وقوةِ يقينٍ - أنَّ كلَّ شىْءٍ بقدرِ الله تعالى فلا بأسَ بأن يخرجَ ويدخلَ وإنْ كان عنده أنه لو خرجَ نجا ولو دخلَ ابتُلىَ به كُرِهَ له ذلك فلا يدخلُ ولا يخرجُ. وأيَّدَهُ شارحُهُ السِّندىُّ والله أعلم. فِى ٢ ذِى القعدة سنة ١٣١٦[) انتهى ما ذكرَهُ هؤلاءِ العلماءُ المشاهيرُ والفقهاءُ المعروفونَ.

قُلنا ما قاله صاحبُ التنوير أخذَهُ مِن روايةِ البخارىِّ وغيرِهِ التى فيها تقييدُ النَّهْىِ الواردِ فيها بقوله صلى الله عليه وسلم (فِرارًا منه) فما لم يكن ذلك فرارًا مِنَ الطاعونِ لم يُنه عنه كما ذكره ابنُ بطال وغيره مِن شُرَّاح البخارىِّ اهـ

فهذا كلامُ أهلِ الفهمِ والغَيْرة على الدِّينِ.

وفِى ءَاخِرِ هذا التذكيرِ أقولُ انظُرْ أيها المسلم بَدَؤُوا أولًا بعقيدتك فنشروا الغُلاةَ المُكفِّرينَ لأهل الإسلام فِى البلاد المُختلفة مِن منبعهم فِى نجدٍ إلى العراق فالشامِ فمصر فليبيا فتونس فالجزائر والتشاد فمالى فالنيجر فنيجيريا فالداغستان والشيشان والفلبين وغيرِها ثم انتقلوا مع هذا الكُورونا إلى الصلاةِ فحجزوكَ عنها وإلى الصيامِ ليفتنوكَ عنه وإلى الحجِّ ليمنعوك منه ولعلَّ أذنابهم يخرجون قريبًا بما يتعلق بالزكاة ليفسدوها عليك، فانظرْ إلى أيةِ مهواةٍ يجُرُّونك ولا تقبلْ أن تكون إمَّعَةً تقول إذا أحسنَ الناس أحسنتُ وإذا أساؤوا أسأتُ بل تمسك بما كان عليه الأئمة وما درج عليه عُلماء الإسلام فِى القرون الماضية فإنَّ زمانهم كان خيرًا من زَمانِنَا وإنَّ قَرْنَهُم كان خيرًا من قَرْنِنَا ولا تَقْبَلْ مِنَ الفتاوَى إلا ما كان عن أهلِ الاجتهادِ كائنًا مَن كان المُفتِى وحيثُ كانَ فإنَّ الأرضَ لا تُقَدِّسُ أحدًا وإنما يُقدِّسُ المَرْءَ عملُهُ، وليسَ الحقُّ يُعرَفُ بالرجالِ ولكنَّ الرجالَ تُعرَفُ بالحقِّ، وغيرُ المجتهدِ حظُّهُ أن يَنقُلَ عنِ المجتهدِ لا أن يرفعَ نفسَهُ فوقَ قدرِهِ ولا أن يتكلَّمَ برأيِهِ وهواهُ وبهذا صلحَ حالُ أوَّلِ الأمةِ وبه يصلُحُ حالُ آخِرِها.

واللهُ من وراءِ القصدِ وهوَ يهدِى السبيلَ.

قاله الفقيرُ إلى اللهِ تعالى عبدُ الله عبد الباسط الرفاعىُّ.


[١] المرجع صفحة الفيس بوك للشيخ الدكتور عبد الله عبد الباسط الرفاعى.